"أيليا" طفلة في الثامنة من العمر، منذ أن التحقت بدار اليوغا زرعت شجرة سمتها باسمها، لذا تحبها كنفسها وتعتني بها، ليس هذا فقط، تعلمت ايضاً عدم رمي النفايات البلاستيكية.
دار اليوغا الفني مشروع تعليمي تمتزج فيه الرياضة والاهتمام بالتخضير، يتم قبول الأطفال في الدار شريطة زراعتهم لشجرة والاعتناء بها والمشاركة في فعاليات موسم الغرس التي يتعلق بعضها بحماية البيئة، بينها إعادة تدوير البلاستيك.
"هدفنا الرئيسي كان مزج اليوغا بالبيئة"، تقول كازيا، مؤسسة دار اليوغا في المصنع الثقافي بمدينة السليمانية، "في اليوغا، أول شيء يتم تعريف الانسان به هو النظافة، بدءاً من ملابسه الشخصية وصولاً الى البيئة من حوله، خصوصاً عدم الرمي العشوائي للنفايات، تحديداً البلاستيكية منها".
تنتج السليمانية يومياً أكثر من ألف طن من النفايات، تشكل النفايات البلاستيكية نسبةً منها، لكن هذه النسبة لم يتم تحديدها، ويشكل هذا جزء من مشكلة التعامل مع النفايات ومعالجتها في إقليم كوردستان وباقي المحافظات العراقية، نظراً لأن كميات كبيرة منها تحرق في القوت الذي توجد فيه علاقة مباشرة بين تلوث الهواء والنفايات البلاستيكية. وفقاً لـ(آكيو ئير)، شركة سويسرية تعمل في مجال تكنلوجيا جودة الهواء، يعد هواء العراق من "الأكثر تلوثاً" بين دول العالم.
أقول لهم بأننا نغرس هذه الأشجار لكي نتمكن من ممارسة تمارين اليوغا في ظلها
الحل البدائي لمواجهة تلوث الهواء يتمثل بزراعة الأشجار وزيادة نسبة المساحات الخضراء، على شاكلة المبادرة الصغيرة التي يتبناها دار اليوغا.
العودة الى الطبيعة
كازيا طاهر صديق، سيدة في الثلاثينات من العمر، تخرجت من كلية الفنون الجميلة وتدرّس في مجالها بإحدى مدارس السليمانية. فكرة تأسيس دار اليوغا خطرت على بال كازيا منذ فترة طويلة، لكن لم تسنح لها الفرصة لتنفيذ فكرتها إلاّ في آذار 2024.
"أعوّد الأطفال على أن السعادة مرتبطة بالخضرة، ويجب أن نساهم في إنتاج هذه البيئة الخضراء"، حسبما تقول كازيا التي تحدثت عن الفعاليات الأخرى لدار اليوغا.
دار اليوغا يستقبل الأطفال من سنة الثالثة حتى سن الـ14، وفي الدرس الأول من الموسم يتم اصطحاب الأطفال الى حديقة صغيرة في المصنع الثقافي ويعطى كل طفل شجرة ليغرسها في أرض لا تتجاوز مساحتها 500 متراً مربع.
"أقول لهم بأننا نغرس هذه الأشجار لكي نتمكن من ممارسة تمارين اليوغا في ظلها"، الأطفال يعودون للطبيعة ويتعلمون هذه الرياضة الروحية تحت ظلال الأشجار.
يغرس الأطفال الأشجار بشغف والابتسامة تعتلي وجوههم، بعضهم صغار جداً تساعدهم معلمتهم في الحفر، تسمى كل شجرة على اسم الطفل الذي شارك في غرسها، واحدة اسمها ايليا وأخرى لاونا وهكذا.
"فعلت هذا لكي يفكر الأطفال باستمرار في العناية بأشجارهم وتنظيف المكان وخدمة البيئة"، تقول كازيا بأن فريقها زرع 40 شجرة خلال بضعة اشهر بمساعدة البستاني الذي يعمل في المصنع الثقافي ويعتنون بها يومياً.
لا توجد أرقام دقيقة ورسمية حول نسبة المساحات الخضراء في السليمانية لكن يقدر بأن تكون بين 15 و 19 بالمائة. وتشير احصائية أعلنت عنها وزارة الزراعة في حكومة إقليم كوردستان عام 2015 وتعتمدها هيئة حماية البيئة الى أن نسبة الخضرة في الاقليم تبلغ 12 بالمائة، في حين أن المعايير الدولية حددت 30 بالمائة.
مجيد رحيم (50 سنة) بستاني يعمل في المصنع القافي بالسليمانية قال "الأشجار التي زرعها الأطفال كانت لفاكهة البشملة (عنق الدنيا)، كانوا يأتون يومياً ويتلقون دروساً هنا، يسقون الأشجار ويعتنون بها".
الأطفال يزرعون شجرة البشملة فقط وهي شجرة مثمرة ودائمة الخضرة، لم يشتروا الأشجار من المشاتل أو أي مكان آخر، الأشجار انتجت في دار اليوغا وكانت جاهزة للغرس.
إحدى الفعاليات الأخرى التي تقام في دار اليوغا هي جماية البيئة، بالأخص جمع النفايات البلاستيكية لإعادة تدويرها. سنحت للأطفال في المصنع الثقافي الفرصة لجمع عبوات المياه وأخذها الى (سولي-سايكل) وهو عبارة عن جهاز لاستبدال البلاستيك بالنقود، حيث يجمع البلاستيك ويكافئ المستخدم. المكافآت تأتي على شكل خصومات في عدة أماكن داخل وخارج مدينة السليمانية.
"حين نذهب للطبيعة ننظف ما حولنا ولدينا حملات خاصة كل اسبوع"، اشارت كازيا بيدها الى بعض الأعمال الفنية المصنوعة من أوراق الأشجار المتساقطة التي يجمعونها خلال الحملات.
الأطفال يبنون مستقبلاً أخضر
آنا و لاونا، طفلتان التحقتا بدار اليوغا، صديقتان مقربتان سميا شجرتيهما اللتين زرعتاها بجوار بعض على اسميهما، كانت تتنافسان يومياً حول من منهما ستنمو شجرتها اسرع.
تقول كازيا بأن آنا شعرت بالحزن لأن شجرتها لم تنمو مثل شجرة صديقتها، لكن لاونا أخبرتها بأنه لا داعي لأن تحزن وقالت بأنها كانت تغني لشجرتها وتخبرها بأنها تحبها وأن بإمكان آنا أن تفعل نفس الشيء.
بعد عودتهم الى منازلهم، يتعامل الأطفال وسط عوائلهم كحماة للبيئة.
الطريقة المثلى لذلك هي استخدام أكبر عدد من الحواس، اللمس، البصر والسمع، فحين يسمي الطفل شجرة باسمه سيهتم بها
شنكه علي، والدة طفلة بعمر الثالثة تقول، "جميع الفعاليات، بالأخص زراعة الأشجار تركت تأثيرها عليها، لأنها أصبحت تحفر وتزرع الشتلات بنفسها وتنتظر أن تنمو بسرعة، أصبحت تشعر بالمسؤولية".
كما أن طفلتها تعودت على أن تجمع النفايات البلاستيكية وتضعها في كيس خاص دون أن تختلط بالنفايات الأخرى وتأخذها فيما بعد مع والدها الى المصنع الثقافي. جميع الأطفال الآخرين الملتحقين بدار اليوغا يتسابقون حول من يجمع اكبر كمية من النفايات البلاستيكية لإعادة تدويرها.
الأمم المتحدة تطلب باستمرار المساعدة من الجميع لمواجهة تغير المناخ، حيث يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية والكوارث الأخرى.
"يجب أن يتعود الانسان منذ الصغر على حب البيئة، الأطفال الذين تم تعليمهم سيصبحون في المستقبل أصدقاء للبيئة"، بحسب رنكين نوري، باحثة نفسية تعمل في مجال تربية الأطفال منذ 14 عاماً.
تقول رنكين إنه لكي يتعلم الطفل العادات الجيدة يحتاج لدروس عملية لتترسخ المعلومات في رأسه، "الطريقة المثلى لذلك هي استخدام أكبر عدد من الحواس، اللمس، البصر والسمع، فحين يسمي الطفل شجرة باسمه سيهتم بها".
وتشيد رنكين بإعطاء أدوار للأطفال في مثل هذه الفعاليات، بذلك لن ينساها طول حياته وتصبح جزءاً من سلوكياته.
وقت قليل وصعوبات أخرى
دار اليوغا الفني وفعالياته البيئية يشهد إقبالاً كبيراً في الصيف خلال العطلة المدرسية، لكن أعدادهم في هذه الفترة تتناقص.
بدأت كازيا مشروعها بشكل تطوعي، لكنها قررت بعد ذلك استيفاء مبلغ رمزي بسبب إضافة فعاليات وأنشطة أخرى، فضلاً عن أجور الكادر، "المشكلة الرئيسية تتمثل بالنقل، سابقاً كنت أصطحبهم من والى الدار بنفسي، لكن النقل أصبح مشكلة تواجه معظم الأطفال نظراً لعدم ملائمة ساعات الحضور مع الدوام المدرسي وتعذر نقلهم من قبل عوائلهم".
اثنان من اطفال بيوست عارف كانوا ضمن الملتحقين بدار اليوغا، يقول بيوست واصفاً فعاليات الدار، "إنهم كشمعة وسط الظلام، لديهم أفكار جميلة كان لها تأثير إيجابي على أطفالي فيما يتعلق بالبيئة"، بيوست عبر عن اسفه من عدم قدرته على إرسال أطفاله الى دار اليوغا منذ أن بدأ دوام المدارس، "لم نعد نقيم في السليمانية، كما أنه موسم الدراسة".
يقترح بيوست أن ينقل دار اليوغا فعالياته الى المدارس، وهو ما تؤيده كازيا، فقد قررت تجربة مشروعها في المدرسة التي تداوم فيها، لكن تعليمات مديرية التربية لم تساعدها في تحقيق مسعاها.
في غياب الأطفال، يعتني البستاني بالأشجار، لكنه يعاني من شح المياه، "لولا هذه المشكلة كنت سأحول المكان بأكمله الى بقعة خضراء خلال سنتين".
مبادرة كازيا طاهر لا زالت في بداياتها، وقد اتفقت مع المصنع الثقافي على الاستمرار في زراعة الأشجار من قبل الأطفال.