يجلس على ضفاف نهر وعيناه تلمعان من السعادة، حين يشاهد مجرى نهر صافٍ تحيط به الخضرة من كل جانب، المشهد كان مختلفاً منذ سنوات لكن جهوده وزملائه أعادت الروح الى النهر.
يتردد أياد محمد كثيراً على نهر سيروان، الذي حارب مع رفاقه دون يأس قبل ثلاث سنوات من أجل إنقاذه من أذى معامل الحصى الى أن أتت جهودهم بثمارها.
يمتد نهر سيروان من قضاء دربنديخان باتجاه إدارة كرميان ماراً بمحاذاة قضاء كلار نحو مناطق وسط وجنوب العراق. عانى النهر كثيراً بسبب معامل انتاج الحصى والرمل التي تسببت بنشوء حفرٍ كبيرة على ضفاف النهر، ملحقةً أضراراً بمساره، فضلاً عن تعكير المياه والتسبب بجفاف الأشجار المحيطة به.
"إيقاف عمل معامل الحصى والرمل على نهر سيروان كان له تأثير كبير، فالنهر انتعش وخطى خطوات نحو التحسن، حدث اختلاف كبير مقارنةً بالسابق"، حسبما يقول أياد، الناشط البيئي الذي أطلق مع عدد من زملائه حملة "نعم لإزالة معامل الحصى والرمل على نهر سيروان".
مشكلة نهر سيروان كانت كسرطان أصاب رئة كرميان، المرض زال الآن بعد الضغوط التي مارسناها
الحملة أطلقها ثلاثة ناشطين عام 2019 وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وحظيت بدعم كافة شرائح وفئات المجتمع في قضاء كلار (تابعة لإدارة كرميان ضمن محافظة السليمانية)، وفي نهاية عام 2021 حققت الحملة هدفها وأجبرت الحكومة على إيقاف عمل جميع معامل الحصى والرمل على ضفاف النهر.
لا ينكر أحد التأثيرات السلبية لمعامل الحصى والرمل على بيئة الأنهار، هيئة حماية وصيانة البيئة لم تمنح إجازة العمل لمثل هذه المعامل منذ 2014 لأنها، حسبما جاء في صفحة الهيئة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، تلحق أضراراً جسيمة بالبيئة وتشوه الأنهار، لذا طلبت من مجلس الوزراء إيقاف عملها.
منح إجازات العمل لمعامل الحصى والرمل يستند الى قانون تنظيم الاستثمار المعدني رقم 91 لسنة 1988، وصلاحيته تؤول لوزارة الثروات الطبيعية، كما يتعلق قسم من الاجراءات بهيئة حماية البيئة وهي التي تستطيع إعطاء صلاحية منح إجازات العمل للوحدات الإدارية وفق عدد من الشروط والضوابط.
حملة من أجل البيئة
كانوا ثلاثة فقط حين أعلنوا إطلاق حملة "نعم لإزالة معامل الحصى والرمل على نهر سيروان"، كانت معركة غير متكافئة، لكن سرعان ما انضمت آلاف الأصوات الى الحملة.
النهر كان يحتضر أمام أعين الناشطين، الخضرة بدأت تزول ومنسوب مياه النهر ينخفض يوماً بعد يوم، المنظمات البيئية والخبراء والمواطنون كانوا متفقين على ضرورة إغلاق تلك المعامل.
"مشكلة نهر سيروان كانت كسرطان أصاب رئة كرميان، المرض زال الآن بعد الضغوط التي مارسناها"، بحسب الناشط البيئي وعضو الحملة، سوران نريمان.
الحملة نشرت ولا زالت تنشر المعلومات للرأي العام حول الأضرار التي تلحقها المعامل بنهر سيروان عن طريق التقارير والمواد الصحفية التي تنشر في المؤسسات الإعلامية، بالأخص على مواقع التواصل الاجتماعي.
إدارة كرميان قررت في البداية تنظيم عمل معامل الحصى والرمل لكن الضغوط استمرت الى أن تقرر في اجتماع بحضور عدد من الناشطين وممثلي الدوائر المعنية وخبراء البيئة والمنظمات في كانون الأول 2021، إزالة المعامل بشكل نهائي.
"من أجل المصلحة العامة وحماية البيئة، تقرر إزالة معامل الحصى والرمل"، حسبما جاء في بيان إدارة كرميان، وتقرر أيضاً تقديم تسهيلات لأصحاب المعامل من اجل تحويل مشاريعهم الى كسارات ونصبها في مواقع أخرى.
في عام 2021 أيضاً صدر قرار بتنظيم عمل معامل الحصى والرمل على نهر سيروان والتي كانت جميعها تعمل بنظام الغسالات، بالتنسيق مع الجهات المعنية وناشطي البيئة"، بحسب يادكار فتاح، مدير مديرية النفط والمعادن في كرميان.
وفي 2024، صدر قرار آخر نص على أن أي معمل يضع كسارة حصى يسمح له برفع واستخدام المواد الطبيعية من النهر بنسبة 50 بالمائة حسب المساحة المخصصة له وهي ثلاث دونمات، واشترط القرار استخدام كسارات الحصى من اجل الحصول على إجازة العمل.
حدثت تغيرات ملحوظة، بحيث عادت الحياة للأشجار والمساحات الخضراء
وفقاً لبيانات مديرية النفط والمعادن، كان يوجد 40 معمل حصو ورمل على نهر سيروان تمتد هذه المعامل من دربنديخان حتى ناحية كوكس، 30 منها كانت تعمل باستمرار، لكن بعد قرارات الحكومة والقرار الذي أصدرته إدارة كرميان، تقلص عددها الى 10 معامل جميعها تعمل الآن بنظام الكسارات.
بحسب متابعة ميدانية لنهر سيروان، امكن بوضوح ملاحظة التغييرات التي حدثت مقارنةً بعدة سنوات مضت، فبيئة النهر أصبحت اكثر خضرة، مناسيب المياه ارتفعت، حتى أن أصوات الطيور باتت تًسمع الآن.
ووفقاً لقانون إدارة وحماية المياه في اقليم كوردستان رقم 4 لسنة 2022 يُحظر إجراء التغيير في مجرى الموارد المائية على الوجه الذي يؤدي الى انخفاض كمية الماء أو تلوثه أو حدوث الفيضان، كما يُحظر إنشاء أي مشروع أو معمل على ضفاف الأمهار أو فروعها أو البحيرات دون الحصول على ترخيص الوزارة.
وترتب على هذه المخالفات عقوبة السجن لمدة لا تقل عن ستة اشهر مع غرامة تصل الى 10 ملايين دينار، وفي حال تكرار المخالفة تُضاعف العقوبة.
مياه النهر تتدفق بغزارة
اختلاف كبير طرأ على مياه نهر سيروان مقارنة بالأعوام الماضية.
يقول سوران نريمان، "حدثت تغيرات ملحوظة، بحيث عادت الحياة للأشجار والمساحات الخضراء"، مشيراً الى أنهم ضغوطهم أتت بثمارها، حتى أن مسار المياه أصبح مستقراً وعادت الطيور والحيوانات الأخرى الى المنطقة.
يعد نهر سيروان من المصادر الرئيسية لتأمين مياه الشرب لسكان قضاء كلار، فضلاً عن كونه مصدراً لتزويد احواض تربية السمك والحقول الزراعية.
حسب متابعات خبير في البيئة ومصادر المياه في كرميان، جودة مياه النهر تغيرت نحو الأحسن، بعد أن كانت عكرة وتحتوي على نسب عالية من المواد الصلبة (TDS) والمواد الصلبة العالقة (TSS)، كما أن درجة عسر المياه انخفضت بشكل عام، حيث كانت مرتفعة بسبب المعامل.
"إزالة معامل الحصى والرمل كان له تأثير إيجابي على النهر، أجرينا بحثاً علمياً في جامعة كرميان لتحديد تأثيرات إغلاق المعامل وتبين بعد مقارنة نسبة الخضرة وجودة الماء و النتائج مفرحة"، حسبما قال خبير إدارة البيئة والأستاذ في جامعة كرميان، الدكتور عبدالمطلب رفعت.
وأشاد عبدالمطلب بالخطوة التي أدت الى زيادة المساحات الخضراء وتحسن جودة الماء، بالأخص في المناطق التي أزيلت منها المعامل.
لم تتوقف الحملة عند هذا الحد، فقد أثرت ايضاً على تفعيل القوانين الخاصة بمحاسبة المخالفين، بالأخص قانون تنظيم الاستثمار المعدني رقم 91 لسنة 1988.
مدير نفط ومعادن كرميان يقول بأن المديرية شددت إجراءاتها، وقررت عدم تجديد إجازة العمل وإغلاق معامل كسارات الحصى في حال ارتكاب اصحابها لأي مخالفة. وشدد يادكار على أنه "منذ تحويل المعامل الى كسارات لم تسجل أي مخالفة بيئية، باستثناء مخالفات تتعلق باستخراج مواد أكثر من الكمية المحددة لهم، منظر النهر يثبت هذه الحقيقة".
قبل ظهور نتائج حملة إزالة معامل الحصى والرمل، وصل عدد المخالفات في 2021 الى 32 مخالفة وتم تغريم المخالفين بأكثر من 77 مليون دينار، لكن في 2022 وبعد إزالة المعامل سجلت 4 مخالفات فقط تم تغريم مرتكبيها بحوالي 6 ملايين/ وخلال الأشهر العشرة الماضية سجلت مخالفة واحدة فقط، حسب احصائية لمديرية النفط والمعادن في كرميان.
أصحاب المعامل لا ينكرون بأن إزالة معاملهم وتحويلها الى كسارات أنعشت بيئة النهر.
أركان محي الدين (42 سنة)، صاحب معمل وكسارة قورتو في كلار، يقول بأن الإجراءات تجيز عمل الكسارات فقط وليس معامل الحصى والرمل، "يجب أن نلتزم بالشروط التي تتضمن تخصيص مساحة 3 دونمات للعمل ويجب أن لا نلوث البيئة النهرية، بخلاف ذلك نتعرض لعقوبات"، وأشار الى أن عمله مصدر رزق 11 عائلة.
الحكومة تراقبهم بشكل مكثف ووضعت لهم شروطاً صعبة وتجبرهم على توقيع عقود وتعهدات
بعض العقوبات المتعلقة بتشويه وإزالة الأشجار تستند الى قانون حماية الغابات رقم 10 لسنة 2012 في اقليم كوردستان، والذي يتضمن السجن لمدة تصل الى سنة وغرامة تصل الى خمسة ملايين دينار.
"منذ إغلاق المعامل ونصب الكسارات لم تردنا أي مخالفة لكي نتخذ الإجراءات بحق مرتكبيها"، بحسب رشيد بكر، مدير غابات كرميان.
بموجب قانون حماية وتحسين البيئة، يعاقب المخالف بالحبس لمدة تصل الى شهر وغرامة مالية تصل الى 200 مليون دينار.
ويقول مدير دائرة بيئة كرميان، دريد سليم، بأن دائرته تراقب عمل الكسارات وفي حال مخالفتها للتعليمات، تتم إحالتهم عن طريق لجنة خاصة للجهات المعنية والمدعي العام.
الحملة تواجه تحديات
"أحد العراقيل التي واجهتنا تمثلت بالضغوط التي مورست من أجل إعادة تشغيل المعامل"، حسبما اكد أحد أفراد فريق الحملة.
ويقول سوران نريمان أن الحكومة تراقبهم بشكل مكثف ووضعت لهم شروطاً صعبة وتجبرهم على توقيع عقود وتعهدات، وتنص أحد الشروط على وجوب نصب كسارة قبل معمل الحصى والرمل".
الحملة مستمرة عن طريق الرقابة والمتابعة من أجل الابلاغ عن أي مخالفات ترتكب.
إدارة كرميان حذرت في شباط الماضي من انها ستطبق رقابة مكثفة، "أثناء ارتكاب مخالفات ستلغى عقود العمل وتتولى الجهة المعنية توثيق طبيعة نهر سيروان والغابات المحيطة به، وستقوم بعرض وثائق (فيديو وصور) للرأي العام تظهر التغيرات التي قد تطرأ على بيئة المنطقة.
مسؤول إعلام واتصالات إدارة كرميان، جومان أحمد، نفى أن تستأنف المعامل عملها وفق نفس الاجراءات والأساليب السابقة.
المخاوف كلها لم تتبدد، ويشير خبير في مجال البيئة الى أن الكسارات ايضاً لها جوانب سلبية لأنها تؤثر على جودة الهواء بسبب الأتربة التي تنبعث منها.
وقال عبدالمطلب رفعت، "الكسارات مثل معامل الحصى والرمل لهه أضرار للبيئة لأنها تنتج الأتربة اثناء عملها ما يؤثر على جودة الهواء"، وأوضح أن قسماً من هذه الأتربة يترسب على الأشجار وتؤثر على نموها.
من جانبهم يشتكي أصحاب الكسارات الحالية ومعامل الحصى والرمل سابقاً من تكبدهم خسائر وتحملهم مصاريف باهظة لنصب الكسارات دون ان يلقوا أي دعم من الحكومة.
حملة "نعم لإزالة معامل الحصى والرمل على نهر سيروان" قللت المخاطر على بيئة نهر سيروان في غضون ثلاث سنوات ولا ينوي منظموها التخلي عن الحملة والحفاظ على نتائجها.
نزهة على ضفاف سيروان
خلال السنوات الماضية كانت السيدة "بانه "نادراً ما تزور ضفاف نهر سيروان، لصعوبة العثور على مكان مناسب وهادئ، لكن الوضع مختلف الآن.
"الوضع مختلف جداً والمكان اصبح اجمل، سواء من ناحية منسوب الماء أو من ناحية الخضرة والأشجار، لذا نزور النهر عدة مرات في الشهر"، حسبما قالت بانه سوران (25 سنة) الساكنة في كلار. تقول بانه بأنها تصطحب زوار بيتها أيضاً لقضاء الوقت والتنزه على ضفاف النهر.
عودة الحياة الى نهر سيروان بعد إغلاق معامل الحصى والرمل أسعدت جميع سكان المنطقة وليس ناشطي البيئة فقط ، ويقول كاروان أحمد (40 سنة) إن "منظر النهر أصبح الآن خلاباً، لدرجة أنه لا يمر اسبوع دون أن نزور مع عائلتي المكان لقضاء الوقت".
نهر سيروان يجذب السياح على مدار السنة، بالأخص في فصل الربيع.
سوران نريمان أوضح بأن الحكومة تلعب الآن دوراً فعالاً في حماية النهر ويعزو ذلك للنتائج التي حققتها حملتهم، "الحكومة مستمرة في تنفيذ القرار ونحن نتابع مهمة حماية النهر".
إغلاق المعامل لم يؤثر على السوق، حيث تشير الاحصائيات الرسمية الى أن 10 كسارات تعمل حالياً وانتاجها يسد حاجة المواطنين.
تتولى الكسارات سحق قطع الحصى الكبيرة التي تستخرج من النهر وتحويلها الى حصى ذات أحجام صغيرة ورمل، بخلاف معامل انتاج الحصى التي تصنع حفراً كبيرة على ضفاف الأنهر وتقوم بترشيح المياه لاستخراج الحصى والرمل الطبيعي.
هفال حميد (38 سنة) يدير كسارة في كلار قال إن "المواطنين يقبلون الآن على شراء الرمل الذي تنتجه الكسارات، فهي ذات نوعية جيدة لأنها منتجة من الحصى الكبيرة التي حولناها الى رمل".