"أوراق التين التي كانت يوماً ما ناعمة الملمس ولامعة، تحولت إلى أوراق جافة متكسرة، لم يعد يُسمع صوت طقطقة التين الناضج وهو يسقط على الأرض مالئاً الأجواء بالبهجة، بل حل محله صمت قاتل"، تقول شيرين قري، وهي تروي قصة قريته في سنجار.
شیرین من قرية كرسي، التي تقع في قلب جبل سنجار، حيث كانت الأرض الخصبة تُعطي بسخاء، وتغمر البساتين بالتين والتبغ ممتدةً على مرمى البصر ، ولكن تحولت من جنة زراعية إلى أرض قاحلة، متأثرةً بتداعيات التغيرات المناخية، منها شح المياه والجفاف.
شيرين (54 عامًا)، أم لأربعة أطفال، تزرع التين منذ عقود على أرض ورثتها عن أجدادها. بعد وفاة زوجها في عام 2016، تولت شيرين مسؤولية رعاية 250 شجرة تين منتجاً بين 7 و 8 أطنان سنويًا، بالإضافة إلى زراعة الخضروات المتنوعة، لكنها الآن تواجه تحديات غير مسبوقة.
"كان كل شيء مختلفًا حينها كنا نستيقظ مع أول ضوء للنهار نعمل معًا في الحقول، نزرع التين ونعتني بالأشجار، كنا نعتمد على الأرض في كل شيء، كانت هي حياتنا ومصدر رزقنا".
تعد منطقة كرسي الواقعة 37كم شمال شرق سنجار، واحدة من أجمل المناطق الطبيعية، وعلى مر العصور، اعتمد سكانها على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل، وكانت تُزرع فيها المحاصيل المختلفة بكثرة وتنوّع، بدءًا بالتين والتبغ وصولاً إلى الرمان والزيتون والخضروات.
في السنوات الأخيرة، بدأت الأمطار تتراجع والأرض تجف، ما أدى إلى فشل المحاصيل، في عام 2020، انقلبت حياتها رأسًا على عقب حينما بدأت ترى أشجار التين تذبل وتتحول إلى رماد. ومع غياب الدعم الحكومي وارتفاع درجات الحرارة، أصبحت الأرض عاجزة عن العطاء.
كنا نشاهد الأرض تموت، ولم يكن في وسعنا فعل شيء سوى الرحيل
"لم يعد المطر يهطل كسابق عهده، وبدأت الأرض تجف شيئاً فشيئاً، وفشلت المحاصيل في الإنبات" تقول شيرين، وهي تصف التحول وكيف أجبر المزارعين على ترك أراضيهم والهجرة إلى المدن بحثًا عن فرص عمل أخرى، "لم نكن وحيدين في ذلك، هناك ما يُقارب 130 عائلة هاجروا هرباً من الجفاف، من الفقر، من ضياع كل ما عملوا من أجله كنا نشاهد الأرض تموت، ولم يكن في وسعنا فعل شيء سوى الرحيل".
يعرف قضاء سنجار غربي محافظة نينوى بأحد مناطق العراق التي تمتاز بإنتاج أجود أنواع التين، وتشتهر الى جانب التين، بإنتاج العنب، والعسل، والتبغ ومحاصيل أخرى.
علي الياس، المهندس الزراعي وناشط في القضايا البيئية، يوضح أن كل شيء كان على ما يرام حتى عام 2019، لكن منذ عام 2020 بدأت التربة في الجفاف بسبب تراجع المياه الجوفية في الآبار الارتوازية التي كانت تسقي الزرع عامًا بعد آخر، بالإضافة إلى الارتفاع الملحوظ في درجات الحرارة.
"تراجعت كميات المياه بشكل مقلق، والسبب يعود إلى غياب السدود التي تحفظ مياه الأمطار، إضافة إلى اندفاع الناس لحفر المزيد من الآبار، متجاهلين ما يمكن أن يحدث عند استنزاف المياه الجوفية" حسب متابعة الیاس.
ينضج التين بشكل عام في أواخر شهر تموز ويستمر بالإنتاج حتى نهاية شهر تشرين الأول، وتعتبر درجة الحرارة المناسبة لنضوج التين ما بين 29 و38 درجة مئوية، في حين درجة الحرارة المسجلة العام الجاري وصلت الى اكثر من 40 مئوية.
"منذ خمس سنوات لم أذق شيئًا مما زرعته، التربة أصبحت غير صالحة للزراعة، وكأنها ترفض العطاء، رغم كل تلك الأموال التي استثمرتها في أرضي" يشارك قاسم خديدا عاشور، مزارع آخر من قرية هنگارا، تجربته بنبرة مفعمة بالحسرة والألم، "صرفت ما يُقارب عشرة ملايين على أرضي في سبيل أن أعيش عائلتي ولا نموت جوعًا. بذلت كل جهدي وأموالي أملاً في أن تُثمر أرضي كما كانت في السابق، لكن لم تترك لنا خيار سوى الرحيل عنها".
وفقاً لإحصائية غير رسمية لشعبة زراعة سنجار، حوالي 4000 شجرة تين جفت أو ذبلت ثمارها خلال عام 2023.
بركات عيسى، مدير زراعة ناحية الشمال -سنوني- قال لـ(كركوك ناو)، "إنتاج محصول التين انخفض بنسبة 50٪ بسبب قلة الدعم من الجانب الحكومي، فالجهود الذاتية غير كافية لإعادة إنتاجه كما كان في السابق"، وأفاد بأن المناطق الجبلية في سنجار، مثل گابارا، گڤري هنگارا، دريجي، وكرسي، تضم ما يقارب 15 ألف شجرة تين تم زراعتها بجهود ذاتية من قبل الأهالي.
في عام 2021، بلغ إنتاج محصول التين في ناحية سنوني التابعة لسنجار 75 طناً فقط من 150 ألف شجرة تين. بالمقابل، وصل الإنتاج في عام 2019 إلى 150 طناً. يشير بركات عيسى إلى أن هذا الفرق الملحوظ يعكس الانخفاض الكبير في محصول التين، "إن الانبعاثات الغازية من معمل سمنت سنجار لها صلة مُباشرة بالتغييرات المناخية والتي بدورها أثرت على مصدر العيش الرئيسي للعديد من العوائل".
وفقاً لإحصائيات وتحذيرات الأمم المتحدة، يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية والتي تشمل مخاطر شح المياه، الجفاف، ارتفاع درجات الحرارة والتلوث وكوارث طبيعية أخرى.
تصف شيرين التحولات التي طرأت على أرضها بأنها كانت بداية النهاية، تقول "حاولنا بكل ما أوتينا من قوة أن نحافظ على اشجارنا من الجفاف، لكن الأمر كان أكبر منا كنا نشاهد كيف تفشل المحاصيل موسماً بعد موسم، وكأن الأرض قد قررت أن تعاقبنا على شيء لم نكن نعلم عنه شيئاً".
مع مرور الوقت، لم تعد قادرة على مواصلة حياتها في القرية، "لم يكن هناك ما يمكن زراعته، ولم يعد هناك ما يمكن العيش عليه، كل ما بنيناه انهار أمام أعيننا" هكذا قررت شيرين أن تترك الأرض التي كانت جزءاً منها، وترحل مع أطفالها إلى مجمع خانصور في ناحية الشمال بسنجار.
إنتاج محصول التين انخفض بنسبة 50٪
تداعيات تغير المناخ تجبر السكان على ترك مناطقهم، أكثر من 20 ألف شخص في العراق هجروا مناطقهم بسبب الجفاف، بحسب الأمم المتحدة.
"قريتنا معروفة بزراعة التين والعنب والرمان، لكنها تعاني منذ سنوات من شحّة المياه. لقد حاولنا مرارًا التغلب على هذه المشكلة بمفردنا، لكن للأسف لم ننجح" قال تركو مراد (45 عامًا) من قرية طيرف، وأضاف انهم يحتاجون إلى حفر آبار ارتوازية ليتمكنوا من رعاية أشجارهم التي يبلغ عددها أكثر من 7000 شجرة مثمرة، "وهذا ما لا نقدر عليه لأن كلفة البئر الارتوازي الواحد يصل إلى حوالي 10 ملايين وإذا لم تُحل مشكلة المياه سنضطر إلى ترك أراضينا".
محصول التين سنجار الذي يشتهر بطعمه ولونه المميز، يتم تسويقه في أسواق الموصل ودهوك، ويتراوح سعر الكيلوغرام الواحد بين 3,000 و 5,000 دينار عراقي، وذلك حسب جودة التين ونضوجه.
يقول المزارع زياد حسن، من قرية كرسي وهو يتذكر أياماً مضت عندما كانت أراضيه تزدهر بالخضار في فترة السبعينات والثمانينيات كانت حقول التبغ تملأ الأفق، وأصوات المزارعين تعلو وهم يعتنون بالمحاصيل ويروونها بعناية كانت الحياة تدور حول الزراع.
أشار زياد إلى بئر قديم في أرضه، بئر كان يُفيض بالمياه فيما مضى ويروي العطشى من الناس والنباتات، ويضيف قائلاً اما الان تحولت اراضيهم إلى شبه صحراوية غير قابلة للزراعة، "وكانت هذه ضربة قاسية لنا جميعًا".
وتعتبر محافظة نينوى ثاني أكبر منتج للتين في العراق بعد صلاح الدين، حيث يبلغ إنتاجها السنوي أكثر من 2500 طن، بحسب آخر تقرير للمركز الإحصائي للفواكه الصيفية لـ2021.
يشير علي الياس إلى أن التغييرات المناخية في سنجار بدأت منذ ما يقارب عقدين من الزمن بسبب عوامل متعددة، منها قطع أشجار الغابات، والانبعاثات الغازية من معمل السمنت، ومخلفات الحروب أمام هذه الظروف، "يومًا ما سنهجر سنجار، ليس بسبب الحروب كما كان يحدث في الماضي، بل بسبب الجفاف ،الجفاف الذي لا يرحم" قال بصوت يعكس خوفاً دفيناً.
ورغم تلك الظلمة التي خيمت على حديثه، لم يفقد الأمل فقد أشار إلى أن هناك حلولًا قد تنقذ ما تبقى من الثروة الزراعية في سنجار، "الحل يكمن في بناء سدود لحفظ مياه الأمطار، وبدلاً من انتظار الحكومة، يمكن للفلاحين أن يبادروا بتخصيص جزء صغير من أراضيهم لحفر حفر كبيرة تعمل كسدود صغيرة، تخزن مياه الأمطار، وتكفيهم لموسم زراعي كامل".
اما بركات عيسى فقد عزا أسباب جفاف أشجار التين إلى عدة عوامل، منها "إهمال بعض المزارعين لبساتينهم بسبب قلة الموارد أو فقدان الدافع للعناية بها، وهناك أيضًا مزارعون غير قادرين على توفير الرعاية اللازمة لأشجارهم بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة في مناطقهم".
قضاء سنجار من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة اقليم كوردستان، تقطنه غالبية ايزيدية، وبعد مرور 9 سنوات على استعادته من سيطرة تنظيم "داعش"، لا يزال القضاء يعاني من مشاكل إدارية، وهناك حوالي 10 قوات مسلحة مختلفة، وتتعرض للقصف من حين لآخر من قبل تركيا بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
الرحيل عن القرية لم يكن قراراً سهلاً لـ شیرین، "كانت تلك الأرض كل شيء بالنسبة لنا، كانت تربطنا بجذورنا وتمنحنا الإحساس بالانتماء لم يكن الرحيل مجرد مغادرة للمنزل، بل كان مغادرة لحياة كاملة".
قصة شيرين تحمل في طياتها الألم والحنين، لكنها تحمل أيضاً الأمل والإصرار على البقاء، هي تعيش الآن في خانصور والحلم بالعودة لا يزال حياً في قلبها، "الحنين للأرض لا يتركنا، نحن نعيش في خانصور، لكن أرواحنا ما زالت هناك في كرسي، مع الأشجار، مع التين ومع الذكريات".