كل الأضواء والمصابيح كانت منطفئة، باستثناء دائر مضيئة كان يرقص داخلها عريس وعروسة على ايقاع موسيقى بطيئة.
جو هادئ ورومانسي كان يطغى على القاعة، أنظار ما لا يقل عن 700 شخص كانت منصبّة فقط على دائرة الضوء الصغيرة المزينة بالورود والمصابيح.
سجى اسماعيل وزوجها كانا آخر من وصلوا الى القاعة، متأنقين ومبتسمين وأياديهما متشابكة يتأملان بعشق مع الآخرين ذلك المشهد.
دخلا عن طريق أحد الأبواب الصغيرة للقاعة، مع دخولهما انطفأت الأضواء، جرت محادثة قصيرة بينهما، الزوج قال لسجى "هيا نجلس"، لكن سجى ردت "انهما جميلان جداً، أريد أن أشاهد هذه الرقصة".
المشهد بأكمله استغرق دقيقتين، فجأةً انقلب كل شيء في غضون 20 ثانية، تقول سجى "رأيت يوم القيامة بعينيّ" يوم انتهى بموت 125 شخصاً. هذا المكان هو قاعة أعراس في قضاء الحمدانية التابع لمحافظة نينوى، سجى وزوجها توجها الى الحمدانية من دهوك في 26 أيلول 2023 لحضور العرس.
عودة الى بداية القصة
في 22 أيلول 2023، أربعة ايام قبل يوم العرس، بينما كانت سجى منهمكة بإعداد الطعام في مطبخ منزلها بدهوك، رن هاتف زوجها، "بعد أن رد زوجي على المكالمة جاء وجلس على مائدة الطعام وابتسامة تعلو وجهه"، سألته سجى ماذا هناك؟ هل أسعدتك تلك المكالمة؟ رد زوجها قائلاً، "كان ذلك أخي آرمان، يقول بأننا مدعوون لحضور حفلة عرس في الحمدانية 26 من هذا الشهر".
فقالت سجى بحماس، "يا للفرحة، ريفيان وحنين سيتزوجان، سنذهب للعرس".
عائلتا ريفيان وسجى لا تربطهما أي قرابة، لكنهما تعرفا على بعض خلال فترة النزوح.
الاثنان نزحا من الموصل وسهل نينوى صوب محافظة دهوك ابان فترة هجوم مسلحي داعش في حزيران 2014، هناك أصبحا جاريّن. في الحقيقة عائلة سجى مسلمة وعائلة ريفيان مسيحية لكن العلاقة بينهما كانت وطيدة.
بعد استعادة محافظة نينوى من قبضة داعش أواخر 2017، عادت عائلة ريفيان الى الحمدانية وبقيت سجى مع زوجها في دهوك لكن العلاقة بينهما لم تنقطع.
استعدادات سجى وزوجها للعرس
سجى كانت متحمسة جداً لحفلة العرس وبعد يوم من تلقي بطاقة الدعوة جلست مع زوجها لكي يختارا أجمل زي يحضران بها الحفلة.
"وقع اختياري على زي أزرق فاتح وجدته في خزانة أزيائي الكوردية التقليدية، كنت قد اشتريته قبل اسبوعين، لكنه لم يعجب زوجي، بالأخص لأن الحفلة تقام ليلاً وربما لن تظهر الصور جميلة لأن الزي فاتح اللون"، بحسب سجى.
بالرغم من أن سجى تقول بأن الرجال لا يفهمون بمسألة الألوان، لكنها قررت شراء زي كوردي جديد، فاختارت اللون وأعطته لخياط عن طريق الواتساب، الزي أصبح جاهزاً صبيحة يوم العرس.
صباح نفس اليوم، 26 أيلول، اشترى زوج سجى بدلة لحضور الحفلة، وقالت سجى "كنت سعيدة جداً ومنهمكة بتجهيز نفسي، لم أتمكن من إعداد وجبة الغداء فتغدينا في الخارج".
بعد الغداء، توجهنا نحو قضاء عقرة (آكري) حيث منزل إحدى شقيقات سجى. قضاء عقرة أقرب كثيراً للحمدانية مقارنة بدهوك.
الزوجان قررا المكوث في عقرة حتى الساعة 9 ليلاً ومن ثم التوجه الى الحمدانية.
زوج سجى كان يرتدي بدلة سوداء وقميصاً ابيض، أما سجى فجربت ارتداء زيها الكوردي الجديد لأول مرة بينما كانت في منزل شقيقتها بقضاء عقرة. الزي كان أسود اللون مرصعاً بكريستال أصفر. سجى كانت فرحة جداً لدرجة لم تكن تعرف كيف تعد نفسها لولا مساعدة شقيقتها لها.
ابنة أخت سجى البالغة من العمر 11 سنة أرادت هي الأخرى حضور الحفلة لكن والدتها قالت بأننا سنتأخر ويجب عليها أن تذهب للفراش مبكراً.
في الساعة 8:50 دقيقة غادروا عقرة، تقول سجى "تألمت كثيراً حين رأيت في مرآة السيارة ابنة اختي تبكي ونحن نتركها وراءنا"، لكنها الآن تدرك بأن الخير كان في عدم مجيئها، "ربما كانت ستكون آخر مرة يراها والداها لو كانت قد جاءت معنا".
سجى كانت تغني في الطريق مع زوجها أغنية باللهجة الكرمانجية (البادينية)، وتصفق وترقص وتهلهل داخل السيارة، كانت تنتظر أحلى ليالي عمرها.
بعدها وضعوا مسجل السيارة على أغنية للمطرب الشعبي رومي هركي وهم يقودون السيارة على طريق مليء بالحفر والمطبات نحو الحمدانية، أثناء ذلك قال زوج سجى "لا اعتقد بأن أخت العريس تزينت وجهزت نفسها مثلك، وفري طاقتك للحفلة".
يوم الحشر في قاعة الهيثم
وصلت سجى مع زوجها لقاعة الهيثم في الحمدانية في حدود الساعة 10:20 دقيقة، محيط القاعة كان يعج بالمركبات فاضطروا لأن يركنوا السيارة على بعد 200 متر وتوجها مشياً للقاعة.
في البداية أرادا الدخول من الباب الرئيسي، لكن عدد من الأطفال الذين كانوا يلعبون على الجهة اليمنى للقاعة قالوا لزوج سجى "عمي، هذا الباب مغلق، ادخلوا عن طريق باب المطبخ". الأطفال أخبرونا بأن وجبة العشاء ستقدم في الساعة 11، التفتت سجى لزوجها وقالت "وصلنا في وقت مناسب".
باب المطبخ يقع خلف القاعة، لكنه ليس كبيراً بما يكفي ويسع لمرور شخص واحد فقط.
لا تنسى سجى تلك اللحظة التي توجهت فيها نحو القاعة، حين امتزج صوت ألحان أغنية هادئة بطقطقة حذائها، بينما كان هواء منعش يخرج من القاعة.
مع دخول الضيفين، انطفأت أضواء ومصابيح القاعة بالكامل باستثناء دائرة مضيئة رقص فيها ريفيان وحنين ومصور كان يوثق تلك اللحظات.
"جو هادئ ورومانسي كان يطغى على القاعة، طلب مني زوجي أن نذهب للجلوس لكنني قلت بأنني أريد أن أشاهد تلك الرقصة الجميلة، كما أن القاعة كانت لا تزال مظلمة ولن نجد مكاناً للجلوس"، حسبما قالت سجى.
وتضيف، "تم إطلاق الألعاب النارية وامتزجت مع صوت الموسيقى، كان منظراً رائعاً ومثيراً، قمة في الجمال والرومانسية استغرق 20 ثانية فقط".
لحظات وقوع حادث الحمدانية الفيديو نشر من قبل وزارة الداخلية العراقية
الألعاب النارية انطلقت من أرضية القاعة نحو السقف، فجأة تحول سقف القاعة الى كتلة من النار وبدأ بالتساقط على رؤوس الحاضرين.
وفقاً لتقديرات الدفاع المدني في نينوى، تواجد ما لا يقل عن 700 شخصاً في القاعة التي كانت مصممة لاستيعاب500 فقط.
وقالت سجى، "مع سقوط سقف أجزاء القاعة، طُلب من الحاضرين عن طريق مكبرة الصوت مغادرة القاعة على الفور".
لن تنسى سجى أبداً تلك اللحظة التي وقع فيها الحريق، بينما امتزجت أصوات صراخ الأطفال وعويل النساء مع نداء الإخلاء.
"كثرة الطاولات والمقاعد وضيق بوابات الخروج والأحذية وارتداء العديد من النساء لأحذية ذات كعوب عالية، جعل الحضور يتعثرون ويسقطون فوق بعض، لم تكن مهمة الهروب من القاعة سهلة بينما كانت ألسنة اللهب تتساقط على رؤوسهم والدخان يملأ القاعة التي سادها الظلام بعد انقطاع الكهرباء.
كونهما وصلا متأخرين وكانا على بعد ثلاثة أمتار من الباب، كانت سجى مع زوجها من أوائل الناجين.
اقتربت منه، كان عمره أقل من سنتين، طفل أسمر مجعد الشعر يرتدي تيشيرت أبيض وبنطلون كابوي أزرق، ربما كانوا قد أنقذوه وتركوه هناك
"ما أن خرجت من القاعة التفتت ورائي، قلت بأن هذا يوم الحشر، النساء والرجال كانوا متساقطين فوق بعض والنيران تسقط على رؤوسهم، الصراخ والعويل والدخان اختلطوا ببعض، كان المنظر مرعباً لدرجة لم أكن قادرة على الوقوف على رجليّ، بدأت ايضاً بالصراخ".
في تلك اللحظات كان ريفيان يحتضن عروسته وسقطا قبل أن يخرجا من الباب الرئيسي، "شاهدت بأم عيني وهما يقعان تحت أقدام الحضور"، وتضيف "نهض العريس ورمى سترته وصرخ طلباً للمساعدة.. رجع الى العروس واضطر لأن يمزق ملابس العروس لكي ينقذها من تحت الأقدام ونجيا بهذه الطريقة".
الأشخاص الذين نجوا من حريق القاعة قاموا بتحطيم البوابة الرئيسية الخلفية ليفتحوا طريقاً آخر لخروج بعد أن تقطعت بهم السبل داخل القاعة.
في هذه اللحظة طلب زوج سجى من زوجته أن تصعد السيارة، أعطاها مفاتيح السيارة وقال بأنه سيذهب لمساعدة المنكوبين.
تقول سجى بأنها كانت جالسة وذعر شديد ينتابها وهي تبكي، لكنها لم تتحمل البقاء وترجلت من السيارة وسمعت صوت بكاء طفل.
"اقتربت منه، كان عمره أقل من سنتين، طفل أسمر مجعد الشعر يرتدي تيشيرت أبيض وبنطلون كابوي أزرق، ربما كانوا قد أنقذوه وتركوه هناك".
احتضنت سجى الطفل وأخذته معها للسيارة، كانت ملابسه مغبرة، وقد تبلل جزء منها، لذا خلعت ملابسه فشاهدت آثار حروق على بطنه وأحد قدميه.
"حزنت كثيراً لأجله، وجدت عبوة ماء كانت موجودة في السيارة، صببت الماء على مكان الحروق، نظر الي وابتسم، يبدو أن الماء ساعد في تخفيف آلامه، كان الجو حاراً فشغلت مكيف السيارة، أعطيته شوكولاتة، تناولها ثم عاد للبكاء".
تقول سجى بأنه بعد ربع ساعة كان صراخ الناس "يصل عنين السماء"، الشرطة والدفاع المدني وسيارات الاسعاف وصلت الى مكان الحادث وبدأت بنقل المصابين الى مستشفيات الحمدانية والموصل وسلمتهم الطفل.
في تلك الأثناء اتصل بها زوجها وطلب منها أن تحضر السيارة بالقرب من البوابة لينقلا بعض المصابين للمستشفى، لكن المكان كان مزدحماً جداً، لذا اضطر زوجها لجلب فتاتين بعمر الـ13 ورجل الى السيارة ونقلوهم الى المستشفى.
حين وصلنا أمام مستشفى الحمدانية تكررت مشاهد الازدحام والصراخ، كان المكان ممتلئاً بسيارات الاسعاف والشرطة، وساعد شابات سجى وزوجها في نقل المصابين.
بينما كانت سجى تهم بالخروج من المستشفى رأت جثتين، آلمها كثيراً حين علمت أن إحداها تعود للطفل الذي حاولت مساعدته، "قبّلته بحرارة، آثار الشكولاتة كانت لا تزال على خده، لمست شعره المجعد، كانت بقايا آخر ابتسامة مرسومة على وجهه، بكيت من أجله كثيراً".
استفسرت سجى من الأطباء عن سبب موته فأخبروه بأن "الحروق طالت كليتيه".
بعد يوم من الحادث، بدأت مديرية الدفاع المدني في نينوى تحقيقاتها حول ملابسات حريق الحمدانية وشددت على أن "قاعة الأعراس كانت مغلفة بمادة الايكوبوند وهي مادة شديدة الاشتعال واستخدامها مخالف لإجراءات السلامة، القاعة لم تلتزم بمعايير السلامة".
وأظهرت التحقيقات أن "نشوب الحريق أدى الى انهيار جزء من القاعة بسبب استخدام مواد بناء منخفضة الكلفة وقابلة للاشتعال، نتيجة لذلك انهار السقف بعد دقائق من وقوع الحريق".
كما أن السقف تم تزيينه بمواد للحفلة بمواد قابلة للاشتعال.
الحصيلة الاجمالية للوفيات جراء الحريق وصلت حتى شباط 2024 الى 125 شخصاً، كما أصيب ضعف هذا العدد، كما سجلت حالات وفاة بين جرحى الحريق في شهر أيلول الجاري، معظمهم من المكون المسيحي.
وزارة الداخلية العراقية شكلت لجنة للتحقيق في الحادث نشرت نتائجه في تشرين الأول 2023 وشددت فيه على أن الحادث "لم يكن متعمداً"، لكن كان هناك تقصير من قبل صاحب القاعة والمسؤولين عن إطلاق الألعاب النارية.
وجاء فيه، "إطفاء الكهرباء في تلك اللحظات تسبب بهلع كبير بين الموجودين في القاعة".
القاعة، بحسب وزارة الداخلية "لم تكن متعددة المخارج، ولم تحتوي على مستلزمات السلامة، كما أن عدد الموجودين كان يفوق طاقتها الاستيعابية".
مالك القاعة أخذ معه كافة تسجيلات كاميرات المراقبة وبحسب وزارة الداخلية، "هرب الى أربيل".
وزارة الداخلية أصدرت مذكرات قبض لـ14 شخص، وهم مالك القاعة، 10 عمال وثلاثة آخرين مسؤولين عن إطلاق الألعاب النارية.
لكن نتائج لجنة التحقيق اثارت سخطاً واسعاً بين مسيحيي الحمدانية، الذين طالبوا بإجراء تحقيق دولي، لاشتباههم بأن الحادث كان "متعمداً".
العشرات من جرحى الحادث نقلوا خارج العراق على نفقة الحكومة لتلقي العلاج.
قضى في الحادث 10 اشخاص من عائلة وأقارب العروس (حينين)، بينهم والدتها وابنة شقيقتها.
رغم مرور عام على حريق الحمدانية، لكن الحادث ترك صدمة كبيرة بين اهالي القضاء ومحافظة نينوى بشكل عام، الجرحى في وضع نفسي مزر، من ضمنهم ايضاً أشخاص كسجى ممن شهدوا المأساة.