مُنشغلةً باتصالٍ هاتفي، توصي مَنْ على الجانب الاخر مِنَ الهاتف قائلةً "وضعتُ لك الطعام في الفرن سخنه وتناوله." لم تكُن ملامحها واضحة، غطت وجهها بكمامة طبية، ترتدي الحجاب، ويغطي جسدها بدلةً طبية (صدرية بيضاء) مُلطخةً بالتراب والدم، بينما كانت تحملُ على ظهرها الهزيل حقيبةً كبيرة.
سُهى، 38 عاماً، مسعفة تُلازم ساحة الخلاني في بغداد، حيث يتواجد المحتجين هناك في تلك الرقعة الساخنة من ساحة التظاهر، تحيطُ عينها اليُمنى هالةً زرقاء، لتذكر أن أحد "المندسين" في التظاهرات، اقترب منها وضربها (ضربةً رأسية) على عينيها.
سهى تحيطُ عينها اليُمنى هالةً زرقاء، تذكر أن أحد "المندسين" في التظاهرات، اقترب منها وضربها (ضربةً رأسية) على عينيها
سهى التي اكتفت بذكر اسمها الأول فقط، حالها حال عشرات النساء اللواتي تعرضن إلى اعتداء في ساحات التظاهر، سواء في بغداد أو المحافظات الأخرى، في ظل غياب إحصائية حكومية رسمية واضحة لعدد الاعتداءات سواء بالقتل او الخطف او التهديد او حتى الضرب ومع ذلك تجدها مفعمة بالامل ومصرة على الاستمرار بالتظاهر.
هناك أكثر من 300 إمرأة عراقية تُلازم ساحة التظاهر في بغداد، منذ انطلاقها حتى الآن، حيث لا تخلوا خيم التظاهرات البالغ عددها 285 خيمة من وجود إمرأة واحدة على الأقل، رغم ما تعرضت له الساحة من عمليات قمع، سواء أكان بالخطف او القتل او اتباع شتى انواع التهديد، فضلاً عن سيطرة بعض الميليشيات المسلحة على مساحات من الساحة، اضافة الى عمليات الكرّ والفرّ التي تشهدها الساحة بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب بين اونة واخرى.
تذكر فاتن الحلفي عضو مفوضية حقوق الانسان في العراق أن المفوضية لاتقدر على اعطاء احصائيات واضحة للنساء من المتظاهرات او الناشطات اللواتي تعرضن للانتهاكات حتى الآن بسبب رفضهن او امتناع ذويهن عن تسجيل اي شكوى على الجهة المعتدية من خلال المفوضية.
في آخر احصائية قدمتها مفوضية حقوق الانسان في العراق عن حجم الانتهاكات التي تعرض لها المتظاهرين العراقيين والتي وصلت الى 650 قتيل، 25000 جريح، و5000 معاق، لم تستطع المفوضية تحديد أي من هذه الانتهاكات استهدفت المتظاهرات اللواتي بلغت نسبة مشاركتهن بالتظاهرات 12% حسب ما أكدته الحلفي.
انطلقت التظاهرات في بغداد وعدد من المحافظات في اليوم الأول من شهر تشرين الأول عام 2019، مطالبة بمكافحة الفساد المستشري في القطاعات الحكومية وفرص للعمل وتحسين الظروف المعيشية الا انها واجهت موجة من الاعتداءات اسفرت عن مقتل المئات وجرح الالاف بينهم نساء مما رفع سقف المطاليب الى تغيير النظام السياسي باسره.
ورغم ما يُحيط النساء في ساحات التظاهر من خطرٍ غير مُسجل لا محلياً و لا دولياً، إلا ان سهى واختها سعاد لازمتا الساحة، رغم تعرض اختهما الثالثة الى اصابة بقنبلة دخانية في ساقها، شانهن شان مثيلاتهن مستمرات بتواجدهن في ساحات التظاهر.
الشظايا باقيةٌ في جسدها
الإنتهاكات في ساحة التظاهر ضد المتظاهرات او الناشطات تجاوزت حدّ الضرب، واصبحت مميتة في بعض الحالات. لفاطمة الفتاة المتظاهرة حكايةٌ مختلفة، فرغم الإصابات التي حفرت في جسدها آثاراً قد لا يمحيها الزمن، لاتزال توازن بين دراستها في المرحلة الاخيرة من الدراسة الثانوية (البكالوريا) والتواجد في ساحات التظاهر يوميا.
منذُ بداية التظاهرات، تقف فاطمة على الخطوط الأمامية عند تمركز قوات مكافحة الشغب في ساحة الوثبة، لتصاب هناك بقنبلة صوتية في بطنها تشظت على أجزاء من جسدها فسقطت أرضاً، اجتاحها الألم والخوف لكن "لم يكن الموت ما اخشاه بل الاعتقال، إلا أن المتظاهرين سحبوني وأسعفوني وعالجوني في إحدى المفارز الطبية وبعدها عدت لساحات الاحتجاجات " بحسب قولها.
في ١٨ شباط 2020 تقف فاطمة في ساحة الخلاني، تحمل العلم العراقي وتهتف بصوت عالٍ (لبيك يا عراق) فتصاب مرة ثانية في يدها وقدمها بطلق بنادق الصيد المعدني (الصچم) من قبل قوات مكافحة الشغب، إحدى الطلقات المعدنية لاتزال مستقرة في جسدها حتى الان وهي بحاجة الى عملية جراحية لإخراجها.
فاطمة: خرجت للتظاهر منذ ١٠٠ يوم تقريباً بسبب تردي مستوى التعليم، ولأن المواطن العراقي يستحق حياة آمنة وكريمة أسوة بباقي البلدان الجيدة
فاطمة (١٨) عاما خرجت للتظاهر ورافقت المسعفين في ساحة التحرير، فتعلمت منهم وساعدتهم في إنقاذ العديد من الجرحى. "خرجت للتظاهر منذ ١٠٠ يوم تقريباً بسبب تردي مستوى التعليم، ولأن المواطن العراقي يستحق حياة آمنة وكريمة أسوة بباقي البلدان الجيدة، ولن أترك ساحات التظاهر وفاءاً لدم الشهداء حتى تتحقق المطالب."
أجبرت التظاهرات حكومة عادل عبد المهدي، على تقديم استقالتها في كانون الأول 2019، وترفض تكليف محمد توفيق علاوي بتشكيل حكومة جديدة كونه وزير الاتصالات الاسبق في حكومة نوري المالكي، رغم وعوده بمحاسبة المتورطين بالعنف ضد المتظاهرين وتنفيذ اصلاحات واسعة، ومع الرفض الشارع له؛ فشل علاوي في تمرير حكومته داخل أروقة البرلمان مما دفعه للاعتذار من رئيس الجمهورية برهم صالح عن التكليف بتشكيل الحكومة.
ومنذ تشرين الأول 2019 يطالب المتظاهرون برحيل ومحاسبة الطبقة السياسية الحاكمة لتورطها بالفساد وهدر أموال الدولة منذ عام 2003.
تنور ام صادق
عددُ المشاركات من النساء في التظاهرات تجاوزت توقعات المتابعين، حيث تواظب أكثر من 300 أمرأة على التواجد في ساحة التحرير حتى هذه اللحظة باختلاف اعمارهن و ثقافتهن، وتخصصهن بالرغم من الانتهاكات والاعتداءات التي يواجهنها. أم صادق (41) عاماً مثلاُ، امرأة بسيطة أُصيبت بقنبلة دخانية لازمت السرير على أثرها خمسة أيام عادت لساحات الاحتجاج لتصاب مرة ثانية، الأمر الذي دفعها للتمسك بالقضية ملازمة ساحة التحرير حتى اليوم.
أُصيبت أم صادق (41) عاماً بقنبلة دخانية لازمت السرير على أثرها خمسة أيام عادت لساحات الاحتجاج لتصاب مرة ثانية، الأمر الذي دفعها للتمسك بالقضية ملازمة ساحة التحرير حتى اليوم
يدّ هذه المرأة فقدت الإحساس بالألم من لهيب التنور وسخونة الرغيف، ولاتزال تخترق النار وتصنع الخبز لمتظاهري ساحة التحرير، ذلك الخبز الممزوج باللحم والخضار والمسمى بـ (خبز عروگ) رغم ضعف حالتها المادية.
تقول ام صادق "لا اخشى الموت، ولا اخاف على ابنائي من بقائهم في الساحة، فهم ليسوا اقل شجاعة من الشهيد صفاء السراي وكلما اواجه الموت اتذكر شجاعة صفاء وشبابه." صفاء السراي هو الشاب المتظاهر الذي اصيب بقنبلة دخانية اطلقها قوات مكافحة الشغب استقرت في عينه وفارق الحياة على اثرها.
الحياة التي تعيشها ام صادق في احدى العشوائيات الفقيرة لمنطقة المشتل دفعتها للخروج الى التظاهرات والبقاء في الساحة لأنها تبحث عن وطن يحفظ كرامتها.
124 يوم واصابة
طاولة خشبية، كؤوس مرتبة ومتناسقة، أبريق شاي ساخن، امرأة بشوشة الوجه، هذا هو حال خيمة أم علاء التي تقدم الشاي للمتظاهرين في ساحة التحرير.
زوجة شهيد وأم لخمسة أبناء متظاهرين أصيب أحدهم خلال التظاهرات إصابة خطيرة استوجبت عملية جراحية دامت لأربع ساعات، إلا انه سرعان ما تعافى وعاد الى ساحة التظاهر.
عند سؤال هذه السيدة الطاعنة في السن عن سبب بقائها في ساحة التحرير، رغم إصابة أبنها تقول "الوطن أغلى من ابنائي، ولا فرق عندي بينهم والمتظاهرين فكل المتظاهرين ابنائي".
منذ ١٢٤ يوما خرجت ام علاء لساحة الاحتجاج قبل خروج ابنائها وأصيبت بقنبلة دخانية في يدها لكن تلك الإصابة لم تثن عزيمتها، فاستمرت بالتظاهر وتقديم الشاي للمتظاهرين.
الشاي الذي تقدمه ام علاء للمتظاهرين ما هو إلا جزء من مؤنتها الخاصة وعائلتها باستثناء بعض المساعدات المادية من قبل متبرعين
تسكن أم علاء (٥٢) عاما برفقة اولادها في بيت مساحته ٧٢ متر في مدينة الصدر ملك لأحد أقربائها وتشير إلى أن " الشاي الذي تقدمه للمتظاهرين ما هو إلا جزء من مؤنتها الخاصة وعائلتها باستثناء بعض المساعدات المادية من قبل متبرعين يهدفون لتقديم يد العون، وتؤكد بأنها لن تغادر ساحات الاحتجاجات حتى ينتصر الشعب حسب قولها."
أم علاء التي كانت تقف وحفيدها لتصب الشاي إلى المتظاهرين المزدحمين عند خيمتها، تُثني حفيدها عن الرقص على احدى الاغاني الوطنية التي كانت تصدح في ساحة التحرير، قائلة " لا ترقص احتراماً لدماء الشهداء." وتؤكد " سأبقى هنا ولن اعود لحين الاخذ بثأر الشهداء."
متظاهرات صامدات
لم تكُن سهى بمفردها هُناك، أختها سعاد التي تجاوزت سن الـ 40 عاما، هي الآخرى تقف عند الخطوط الامامية لـ (ساتر) ساحة الخلاني الذي يفصل بين المتظاهرين وقوات مكافحة الشغب. تقول سعاد ام لستة اولاد "زوجي مؤمن بأهمية وقوفناً كتفاً الى كتف في ساحات التظاهر، كان يخرج هو الاخر بشكل يومي معي إلا انه اصيب بوعكة صحية منعته عن الاستمرار بالخروج، أما انا فمستمرة بتواجدي عند الخط الاول لساتر ساحة الخلاني."
سعاد: زوجي مؤمن بأهمية وقوفناً كتفاً الى كتف في ساحات التظاهر، كان يخرج هو الاخر بشكل يومي معي إلا انه اصيب بوعكة صحية منعته عن الاستمرار بالخروج
سهى وسعاد، تتعاونان على اسعاف المتظاهرين الذين يتعرضون للإصابات في ساحة الخلاني إحدى المناطق الساخنة في منطقة التظاهر في بغداد، كونهن ذي خبرة في مجال الاسعافات الاولية لانهن تعملن في المجال الطبي. اختهن الثالثة تراجعت بعد أن اصيبت ساقها بقنبلة (دُخانية).
"أربعةُ اشهر وعشرون يوماً مضت على تواجدي في الساحة، رغم رفض زوجي لفكرة التظاهر إلا انه يحترم قراري بالوقوف جنباً إلى جنب مع ابناء وطني وتقديم معونة بسيطة لهم كاسعافهم انا واختي،" تقول سهى.
وعلى الرغم من المخاطر التي واجهتها، تجد المسعفة سهى أنها عاجزة عن العودة للبيت للبقاء مع اسرتها واطفالها فقط كأم وعملها كموظفة في وزارة الصحة، كون دافعها للبقاء في ساحة التظاهر هي "الدماء الشابة التي نُزفت في سبيل استمرار هذه التظاهرات."
وخلال خمسة اشهر الماضية، ورغم كل الانتهاكات وعمليات القتل والترهيب، كانت للنساء بصمة واضحة على الخطوط الامامية في التظاهرات، في ظل غياب احصائيات الحكومية.