حاويتان للنفايات موضوعتان أمام منزل دايه حاجي، إحداها سوداء وأكبر حجماً كتب عليها باللغة الكوردية "للنفايات الصلبة" والأخرى حمراء اللون وأصغر حجماَ مكتوب عليها "لنفايات الطعام فقط".
ظهرت راضية محمود، وهي سيدة في العقد السابع من عمرها وينادونها بـ"دايه حاجي"، أمام منزلها وهي تمسك بيديها كيسين مليئين بالنفايات ووضعت كل واحدة منها في سلة، تقول راضية "كنت أشعر بالذنب لأنني اعتدت رمي نفايات الطعام مع العبوات الزجاجية والبلاستيكية والنفايات المعدنية معاً في سلة النفايات".
منذ حوالي عامين، يدأب معظم سكان الحي الذي تقطن فيه دايه حاجي وسط ناحية روفيا بقضاء شيخان على فرز النفايات ووضعها في سلال مختلفة.
"تأتي يومياً مركبة خاصة لجمع النفايات التي تم فرزها وتنقلها الى الشركة التابعة لها لإعادة تدويرها"، حسبما قالت دايه حاجي التي كانت تعارض خلط النفايات وبادرت لفصل نفايات الطعام وإعطائها كعلف للماشية.
فرز النفايات من مصدرها المتمثل بالمنازل يعد مبادرة جديدة في العراق ودخلت حيز التنفيذ في أقضية شيخان، عقرة وبردرش بمحافظة دهوك، وأصبحت عادة يلتزم بها أغلب السكان.
نفايات المنازل لا تذهب هدراً بل تمر بعدة مراحل من المعالجة من قبل شركة محلية كبيرة بأياد محلية، معظمهم نساء، ويتم تصديرها كمواد خام الى الخارج، فيما تحول نفايات الأطعمة الى أسمدة وأعلاف يستفاد منها في الداخل.
دايه حاجي متفائلة بأن يتوسع مشروع فرز النفايات من قبل المواطنين ليشمل كافة مناطق اقليم كوردستان، وتقول "منذ انطلاق المبادرة، أصبحت الأمور أسهل بالنسبة لي، لم أعد أضع نفايات الأطعمة في الثلاجات لكي أجمعها فيما بعد وأنقلها للقرية كعلف للمواشي".
حلول من المصدر
خصصت شركة محلية في دهوك، في إطار مبادرة جديدة بالتعاون مع المواطنين، سلال مختلفة لفرز النفايات يومياً انطلاقاً من مصدرها المتمثل ببيوت المواطنين بهدف إعادة تدويرها ومواجهة تلوث البيئة.
مسعود محمد، مدير شركة (MRF) لاستثمار النفايات قال "في السابق كان من الصعب جداً فرز نفايات المنازل، لذا فكرنا في العودة الى مصدر المشكلة، ووضع الحل داخل المنازل أنفسها، لذا جددنا عقدنا في هذا الإطار وخصصنا سلال مختلفة لفرز نفايات المنازل".
تجمع الشركة منذ عام 2011 النفايات في أقضية عقرة، شيخان وبردرش، لكنها أدخلت مبادرة فرز النفايات من قبل المواطنين منذ عامين وخصصت للمشروع مبلغ مليار و335 مليون دينار لشراء حاويات خاصة بفرز النفايات وتوزيعها مجاناً على المواطنين.
"إن لم يكن الإنسان فاسداً وينطلق من منزله بمهمة حماية البيئة، يمكن حينها انجاز أشياء أكبر وأفضل، لذا تم نصب حاويات مختلفة للنفايات ونحن سعداء بهذه الخطوة. المبادرة مفيدة من الناحية الاقتصادية وتؤدي للحفاظ على البيئة"، بحسب أوميد جلال (28 سنة)، من سكنة قضاء شيخان.
المبادرة لا تشمل المنازل فقط، بل المطاعم، المحال، المقاهي والأماكن العامة الأخرى، إضافةً الى المساجد والدوائر الحكومية. خصص لكل مكان حاويات خاصة بالنفايات الصلبة كالكرتون، الزجاج والعبوات ولا يتم خلطها بنفايات الأطعمة.
مدير بلدية عقرة (آكري)، بلند طاهر يقول بأن المشروع بدأ منذ عامين والناس متعاونون، "نشرف على عملية فرز وجمع النفايات عن طريق 23 لجنة، تم تخصيص مركبات خاصة بجمع النفايات في كل قطاع".
المناطق التي لا تصلها المركبات كحي (جوستايي قورآف) في عقرة، نظراً لأن أزقتها ضيقة جداً، تجمع نفاياتها عن طريق أربعة حمير يشرف عليها عدد من المواطنين".
توجد 20 بلدية في أقضية شيخان، عقرة وبردرش تشرف فيها 23 لجنة على عملية جمع النفايات وفرزها ومعالجتها.
وأوضح مسعود محمد أن 165 مركبة قد خصصت لجمع النفايات يومياً من مناطق مختلفة في تلك الأقضية الثلاثة ونقلها الى المعمل لفرزها كلياً ومعالجتها.
يجمع يومياً 200 الى 250 طن من النفايات في هذه الأقضية.
نجن ملتزمون كلياً، نفصل الكرتون، الزجاج وعبوات المياه عن الأطعمة، هذه الخطوة تسه مهمتنا ومهمة العمال الذين يجمعون النفايات، كما أنها يعاد استخدامها وتصبح مفيدة بدل أن تكون مضرة"، هذا ما قاله شفان عثمان، الذي يدير مطعماً في شيخان.
تبلغ كمية النفايات التي تتكدس يومياً في عموم محافظة دهوك أكثر من 1600 طن، وفقاً لتقرير هيئة الإحصاء في اقليم كوردستان. كما أظهر تقرير لوزارة البلديات والسياحة بأن كمية النفايات التي تجمع يومياُ في اقليم كوردستان تثل الى ستة آلاف و629 طن.
د. خوناف حسن، أستاذة جامعية وخبيرة في مجال البيئة عبرت عن سعادتها بتجربة فرز النفايات، "العملية تصب في صالح البيئة وتؤدي للحفاظ على جمال ونظافة بيئة تلك المناطق، بهذه الطريقة لن تتعفن نفايات الأطعمة ولن تتحول الى سموم تلوث البيئة".
بشكل عام، تتعفن المواد الغذائية بعد ستة أشهر من طمرها وتنتج غاز الميثان الذي يؤثر بشكل كبير على البيئة. تقول خوناف إن وجود مبادرات كهذه في جميع المناطق الأخرى ستؤدي الى تنظيف البيئة.
الجميع معاً على نفس الجبهة
يعتبر المواطنون أساس نجاح مبادرة فرز النفايات التي تنفذ في أقضية عقرة، بردرش وشيخان، تليهم الشركة ومعمل إعادة التدوير والجهات المعنية في الحكومة.
أطنان النفايات التي تجمع يومياً تنقل مباشرةً الى المقر الرئيسي لمعمل استثمار النفايات (MRF)، الشركة لديها ثلاثة أجهزة خاصة بإعادة التدوير، واحدة للحديد، وأخرى للنفايات الزجاجية والثالثة للألمنيوم والنفايات الأخرى.
"النفايات المتمثلة بالكرتون، النايلون، البلاستيك ومثيلاتها تنقل باستخدام حزام سير متحرك الى داخل المعمل حيث تتولى مجموعة من السيدات فرزها ووضع كل نوع من النفايات داخل حاويات موجودة بجانبهم"، حسبما أوضح مديرالشركة.
وأشار مسعود محمد الى أن قسماً من النفايات التي تم فرزها وتنظيفها تُطحن باستخدام أجهزة خاصة ثم تُكبس ويباع قسم منها لشركات محلية أخرى تعيد تدوير جزء منها، فيما يُرسل المتبقي الى تركيا وايران.
"نصف الايرادات تعود للشركة والنصف الآخر يذهب للبلديات في الأقضية الثلاثة"، وتقول الشركة بأن هذه العملية فضلاً عن أرباحها المالية تخلص البيئة من المواد المضرة.
قسم كبير من النفايات لا تُعالج داخل العراق، بل يتم طمرها أو حرقها وهذا مضر للبيئة وبحسب احصائية لوزارة البلديات والسياحة، خلال خمس سنوات للكابينة الوزارية التاسعة لحكومة الاقليم، تم صرف أكثر من 660 مليار دينار لجمع النفايات ونقلها ودفنها.
"ما يتبقى من نفايات الأطعمة التي تشكل نحو 65 بالمائة من مجموع النفايات، تمر بثلاث مراحل معالجة وتُنتج منها الأسمدة أو العلف الحيواني"، ويقول رئيس بلدية عقرة، بلند طاهر بأن الأسمدة والأعلاف المنتجة تخضع لاختبارات ودراسات وتمر بإجراءات وزارة الزراعة، مشيراً الى أن البلدية تخطط لتخصيص قسم من انتاج المعمل لمشروع بناء ملجأ الكلاب السائبة بعد اكتماله.
يتم الاستفادة من نفايات الأطعمة المفرزة في المعمل بعدة طرق، حيث يحول قسم منها بعدة مراحل الى أسمدة عضوية وبعد فحصها تباع للمزارعين، ويحول قسم آخر الى أعلاف للمواشي.
المختص في علم الزراعة بوزارة زراعة الاقليم، محمد عادل بروراي، يقول "انتاج المعمل مفيد للتربة والفلاحين لأنه عضوي"، لكن العملية تتطلب مزج بعض المواد الأخرى لمعادلة الأسمدة كالنتروجين، الفسفور والبوتاسيوم، وهي موجودة أصلاً في النفايات الغذائية لكن الشركة ترفع نسبتها.
إدارة دهوك لا تملك احصائية دقيقة بحجم النفايات الغذائية الموجودة في نفايات المحافظات لكنها تقدر نسبتها بأكثر من 50 بالمائة.
ويقول مدير البيطرة في قضاء بردرش، محمد مجيد إن النفايات الغذائية بعد تجفيفها وطحنها بأجهزة خاصة تمزج معها بعض المواد والمعادن لتحويلها الى علف، على أن تحوي على نسبة جيدة من الفيتامينات، البروتين والكربوهيدرات، "الشركة ملتزمة بهذه الإجراءات في انتاج العلف من النفايات الغذائية".
يعد استثمار النفايات الصلبة والغذائية أحد سبل مواجهة التلوث البيئي، حيث يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية.
توعية مستمرة
أهم التحديات التي تواجه المشروع تتمثل باستمرار المواطنين في فرز النفايات، هذا العائق قطع شوطاً كبيراً عن طريق حملات التوعية وصولاً الى فرض غرامات مالية على المخالفين.
ويقول مسعود محمد بأنه خلال العامين الماضيين تم حث كافة المواطنين على الالتزام بفرز النفايات، مشيراً الى أن مستوى الالتزام في البداية كان ضعيفاً لكنه ارتفع الى 60 بالمائة.
الجهات ذات الصلة قررت عن طريق إصدار بعض التعليمات والإجراءات فرض غرامات مالية على الواطنين الذين لا يلتزمون بفرز النفايات. ويقول مدير بلدية عقرة إن "تعاون المواطنين لم يكن بنسبة 100 بالمائة في بداية المشروع، لكننا عملنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعي ورجال الدين وحملات لتوعية التي تنظمها البلدية على حث المواطنين على الالتزام بحيث أصبح فرز النفايات في تلك المناطق إجبارياً".
الى جانب رفع مستوى التزام المواطنين، يعتبر مراقبة عمل الشركة من التحديات الأخرى حيث يجب أن تكون هناك رقابة دائمة، فيما يخص منتجات الأسمدة والعلف التي يتوجب أن تخضع بشكل مستمر للفحص لتلافي لحاق الضرر بالزراعة وتربية المواشي.
المشاركة النسوية وتحسين الانتاج
عملية فرز النفايات واستخدام منتجاتها هيأت فرص عمل ووفرت تسهيلات للمواطنين بالأخص النساء اللائي يشكلن أكثر من نصف اليد العاملة.
"نحن 55 سيدة نعمل هنا وقد أسمينا المعمل البيت الثاني للشقيقات الـ55"، تقول آفان جليل (44 سنة) التي تعمل في هذا المعمل نذ 8 سنوات وتساهم من خلاله في تأمين دخل لأسرتها.
ترتدي السيدات خلال العمل ملابس خاصة وكمامات ويعقمن أنفسهن بعد الانتهاء من العل لتجنب الإصابة ببعض الأمراض، كل واحدة منهن مكلفة بمهمة، واحدة تفرز الكرتون وأخرى العبوات البلاستيكية فقط.
يبدأ العمل منذ الساعة التاسعة صباحاً لغاية الرابعة بعد الظهر براتب شهري قدره 400 ألف دينار.
سوزران كامران (38 سنة)، تعمل هناك منذ أربع سنوات وزوجها سائق مركبة لنقل النفايات، تقول سوزان بأنه لا يوجد عمل يصعب على النساء، هن أيضاً يساهمن في مواجهة تلوث البيئة عن طريق عملهن الذي يؤمن لهن أيضاً مصدر عيش.
يصل عدد سكان الأقضية الثلاثة التي شملتها المبادرة الى أكثر من 544 ألف شخص، طبقاً لتقديرات هيئة الإحصاء في اقليم كوردستان وتعتبر الزراعة وتربية المواشي مصادر دخل رئيسية للسكان.
"يحصل مربو المواشي على العلف الذي ينتجه المعمل بمبلغ قليل وهذا جيد بلالنسبة لنا"، حسبما قال أيوب شوان الذي يشتري منذ مدة منتجات المعمل.
تيش في قرية ايسماوا التابعة لقضاء بردرش 700 عائلة تزاول 80 بالمائة منها الز راعة وتربية المواشي. المزارع لطيف شاكر (64 سنة) تحدث عن استخدامه للأسمدة التي ينتجها المعمل واشار الى أنها آمنة، "نشتري الأسمدة منهم بأسعار أقل، السماد طبيعي ولا يؤثر على طعم وجودة محاصيلي وهو آمن وبدون مشاكل".