خطوات لافين كانت صغيرة ومتأنية، لكن الهدف كان كبيراً. بينما تسعى للتعامل مع ظاهرة انتشار الكلاب السائبة في السليمانية، تعمل أيضاً من أجل إعادة التوازن للنظام البيئي وحماية السكان من الجوانب السلبية للظاهرة.
تواجد الكلاب والقطط الضالة داخل المدينة له في الوقت نفسه فوائد وأضرار للبيئة. بدلاً من خيار القتل و الإبعاد، وجدت لافين حلاً مناسباً يتمثل بمكافحة الأمراض التي تسببها هذه الحيوانات ومن ثم تعقيمها للحد من التناسل.
"نجري عمليات تعقيم للكلاب التي نجمعها، كما نلقحها ضد بعض الأمراض التي قد تنتقل للإنسان أو الحيوانات الأخرى كالجرب وداء الكلب"، حسبما قالت لافين. الكلاب السائبة لا توضع في ملاجئ أو أماكن نائية بل يتم دمجها بالطبيعة أو المكان الذي عثر فيه عليها، "بعد هذه الخطوات تصبح الكلاب ودودة وغير مؤذية".
تلعب الكلاب الضالة دوراً معقداً في النظام البيئي بجانبيه الإيجابي والسلبي، فهي مفيدة لتقليل أعداد القوارض وبعض الكائنات الأخرى التي تلحق أضراراً بالمحاصيل الزراعية والبيئة والبشر.
الكلاب والقطط يجب ان تكون قريبة من البشر، لا أن يتم إبعادها، لأن تواجدها يفيد البيئة
يقتات قسم من الكلاب السائبة على النفايات الغذائية والمخلفات الحيوانية، فتلعب دوراً في تنظيف البيئة، لكن ازدياد أعداد الكلاب السائبة يؤدي الى تفشي بعض الأمراض فضلاً عن مخاطر أخرى.
بداية القصة
لافين عبدالوهاب ليست لوحدها، فهي تعمل رفقة مجموعة تطوعية. أسست لافين منظمة باكو لحماية الحيوانات منذ عام 2019 وعن طريق هذه المنظمة أطلقت مبادرتها الجديدة.
تخرجت لافين من كلية الطب البيطري وعملت في عيادة بيطرية حيثت أتتها فكرة المشروع، "الناس كان يأتون بحيواناتهم المريضة أو المصابة لعيادتي، لم يكونوا يعرفون ماذا يفعلون بها، رغم أن نواياهم كانت حسنة، لكن المشكلة تحتاج لحلول".
في البداية فكرت في إنشاء مأوى للحيوانات الضالة لحين اكتمال علاجها. الملاجئ لا تصلح للإبقاء فيها على الحيوانات بكل دائمي، فذلك لا يخدمها ولا يخدم البيئة، "الكلاب والقطط يجب ان تكون قريبة من البشر، لا أن يتم إبعادها، لأن تواجدها يفيد البيئة".
وأوضحت لافين بأن وجود الكلاب في المدن والأرياف، يمنع ظهور الحيوانات البرية والمتوحشة، وفي غياب الكلاب تزداد أعداد القطط ويختل التوازن، كما أن تراجع أعداد القطط يؤدي الى ازدياد الفئران، النظام البيئي يتطلب تواجدها جميعاً لخلق التوازن البيئي".\
إحدى المهام الرئيسية لفريق منظمة باكو تعقيم الكلاب للحد من تناسلها ومنع ازدياد أعدادها بصورة عشوائية، قبل هذه المرحلة يجب معالجة الأمراض التي تصيب الحيوانات والتأكد من أنها لا تشكل خطراً على البيئة والمجتمع، حينها يتم إطلاقها.
"حتى الآن قمنا بتعقيم 450 كلب، لكن أعدادها كبيرة والعملية تحتاج لأمكانيات أكبر ومزيد من السرعة"، حسبما تقول لافين حول اثنين من مراحل حملتهم التي نفذت في السليمانية من عام 2020 الى آب 2024.
نادراً ما يتحدث الخبراء والمختصون أو المواطنون على وجه العموم لوسائل الاعلام عن القضايا المتعلقة بالكلاب السائبة ، (كركوك ناو) حاول على مدار اسابيع الحصول على تصريحات أو تحليلات عملية عن الملف لكن دون نتيجة.
الجدل حول مشكلة انتشار الكلاب الضالة في السليمانية مستمر منذ سنوات دون حلول جذرية. الاحتجاجات المستمرة لبعض المنظمات والناشطين المدنيين يقابلها سخط جماهيري يصل لحد المطالبة بالقتل الجماعي للكلاب السائبة.
بلدية السليمانية افتتحت في عام 2022 مأوى للكلاب السائبة، لكنها سرعان ما تعرضت لانتقادات. منظمة هانا لحماية الحيوانات وصفت مؤخراً المأوى بسجن ومكان للتخلص من الكلاب السائبة.
ازدياد أعداد الكلاب والقطط ينجم عنه أضرار لأنها تحب أن تكون برفقة البشر والعيش بالقرب منهم
كانت هناك مبادرات أخرى، في عام 2020 أعلنت مجموعة من المدافعين عن حقوق الحيوان في السليمانية مشروع "لانه" للحيوانات الضالة، المشروع استمر لفترة وتضمن تخصيص بيوت للكلاب على الشوارع وبعض مناطق المدينة.
وقبل سنوات عرض مقترح قانون حماية الحيوانات في اقليم كوردستان على البرلمان بهدف تنظيم تعامل الأفراد مع الحيوانات بصورة انسانية، الحفاظ على توازن الطبيعة والبيئة، حماية الحيوانات وتجريم قتلها بالسموم أو الرصاص، تنفيذ إجراءات علمية كالتعقيم للحد من الزيادة العشوائية في أعداد الحيوانات الضالة، إضافةً الى عدة إجراءات أخرى كبناء الملاجئ والتعامل مع الحيوانات لكي لا تسبب أضرار للبيئة.
في 29 تشرين الثاني 2022 أقر برلمان كوردستان قانون تنظيم التعامل مع الحيوانات الأليفة والسائبة، بهدف المحافظة عليها وحماية الصحة البيطرية وتنظيم تربيتها والتامل معها، الى جانب حماية سلامة وصحة الانسان والبيئة من أضرارها ونر ثقافة الرفق بالحيوان، فضلاً عن إطلاق حملات تعقيم وعزل وحجر الحيوانات الأيفة ومعالجتها لحين إنشاء ملاجئ لها، لكن إقرار القانون جاء بعد ثلاثة أسابيع من انتهاء المدة القانونية للبرلمان، وبعد قرار المحكمة الاتحادية العراقية بإلغاء تمديد عمر البرلمان أعتبر القانون ملغياً.
"ازدياد أعداد الكلاب والقطط ينجم عنه أضرار لأنها تحب أن تكون برفقة البشر والعيش بالقرب منهم، لذا فإن ازدياد أعدادها يساهم في نقل الأمراض المعدية الى الانسان والحيوانات الأخرى"، بحسب الباحثة والاستاذة الجامعية شاكول أبو بكر.
شاكول، التي تعمل في مؤسسة كوردستان للبحوث الاستراتيجية والدراسات العلمية وشبكة الأرض، ذكرت بأن ازدياد أعداد أي كائن أو نبات في النظام البيئي يؤثر على الأحياء الأخرى لأنها تحتاج الى المزيد من وسائل العيش كالغذاء والمأوى، وذلك سيكون على حساب كائن أو نبات آخر.
"تعتمد الكلاب في غذائها على نفايات المنازل وجثث الحيوانات النافقة، الأمر الذي يؤدي الى انتقال العديد من الأمراض، لأن النفايات عندنا وللأسف لا يتم التخلص منها بصورة علمية وتختلط نفايات المستشفيات بنفايات المنازل لتشكل مصدراً للعديد من الأمراض"، بحسب شاكول.
مشروع لافين يشمل القطط أيضاً، ففي عام 2019 نفذت حملة لتعقيم 120 قطة، بدعم مالي من سيدة ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الحيوان.
"الى جانب التعقيم، نقوم يومياً بمعالجة الحيوانات"، وأوضحت لافين بأن هناك حوالي 500 نوع من الأمراض المشتركة بين الحيوان والانسان، لذا فإن ازدياد أعداد أي نوع من الحيوانات عن الحد الطبيعي سيؤدي الى انتقال الأمراض بسهولة.
لا تتوفر إحصائيات رسمية حول عدد الكلاب الضالة في السليمانية واقليم كوردستان وحتى العراق، لكن يقدر عددها في السليمانية بنحو 10 آلاف، حسب متابعات منظمة باكو.
تمارس المنظمة نشاطاتها داخل مبنى غير مكتمل تابع لبلدية السليمانية ويقع في أحد الأحياء بأطراف المدينة، مساحة المبنى 400 متر مربع ويضم فناءً خارجياً مساحته 2000 متر مربع يعتنى فيه بـ20 كلب تعاني من بعض الأمراض.
تقول لافين، "نعتني بالكلاب هنا لحين فائها وقبل إطلاق سراحها نتولى تعقيمها".
أساعد الدكتورة لافين في علاج الحيوانات الضالة المصابة الموجودة في الملاجئ أو الأزقة كلما سنحت لي الفرصة
ما أن فتح بابا الفناء هرعت جميع الكلاب نحو لافين التي احتضنتهم بحرارة، بعدها قامت مع أفراد فريق المنظمة بإطعام الكلاب وتقديم العلاج لها ومن ثم تنظيف المكان.
تقول شاكول إن تلقيح الكلاب السائبة يحول دون انتقال الأمراض الى البشر والحيوانات الأخرى، كما أن ازدياد أعدادها قد يخلق الهلع بين السكان... الطريقة الصحيحة هي تقليل أعداد الكلاب بصورة علمية كالتعقيم.
وأشارت الى أن كثرة أعداد الكلاب تزيد من حوادث افتراس الدواجن وبعض الحيوانات البرية، في حين يؤدي تراجع أعدادها الى اختلال النظام البيئي.
التطوع؛ مفتاح النجاح
كل العمل الذي تقوم به لافين وفرق منظمة باكو متوقف على الجهود التي يبذلها شباب السليمانية المتطوعين الذين يجمعهم همّ حماية الحيوانات و الحفاظ على البيئة.
ياد محمد، متطوع يبلغ من العمر 20 سنة، طالب في قسم الكمبيوتر، يتولى في الوقت نفسه مهام الاعتناء بالحيوانات الضالة وكذلك الشؤون التقنية لفريق المتطوعين.
67 متطوع يعملون في منظمة باكو، 42 منهم فتيات.
يتوجه فريق باكو من المصنع الثقافي في السليمانية الى وسط سوق المدينة، تحديداً الى مكان مخصص لعلاج القطط المصابة، يتولى أعضاء الفريق الاعتناء بالقطط وإطعامها قبل التوجه الى مكان آخر.
نالي هلو، (19 سنة)، طالب في الصف الثاني عشر الاعدادي، يعمل ضمن فريق باكو، قال "أساعد الدكتورة لافين في علاج الحيوانات الضالة المصابة الموجودة في الملاجئ أو الأزقة كلما سنحت لي الفرصة"، غالباً ما يتصل المواطنون بفريق منظمة باكو لعلاج القطط والكلاب السائبة.
أشار نالي بيده الى قطة سوداء وقال بأنها تتلقى العلاج منذ عام. القطة تعرضت لإصابات خطيرة بعد أن علقت داخل محرك سيارة تسللت اليه بسبب البرد.
يتصل أحد المواطنين بفريق لافين، المتصل اسمه كاروان نزار (34 سنة) ويقول بأن لديه قطة تعرضت أطرافها الخلفية للشلل.
وقال كاروان، "لا أعرف ما الذي أصابها لكنها في حالة سيئة، أخذتها للطبييب البيطري لكن لم يتمكن من معالجتها لذا اتصلت بفريق لافين لمساعدتي".
جليل عبد (45 سنة)، من أهالي البصرة ويقيم في السليمانية، دفعه حب الحيوانات للتطوع في فريق منظمة باكو. جليل يعمل كسائق لكنه يساعد الفريق في المها الأخرى، "أعتني في المنزل بـ 10 كلاب وقطط".
جهود منظمة باكو ألهمت مبادرات أخرى. في آب 2024، نفذت مؤسسة (فيم) بالتعاون مع البلدية والبيطرة عملية تعقيم 500 كلب سائب.
اسوةً بالسليمانية، تم افتتاح مأوى للكلاب الضالة في أربيل، لكن مساحتها أكبر حيث تبلغ 20 دونم تقريباً. وفقاً لإحصائية كشفت عنها حكومة اقليم كوردستان، يضم المأوى أكثر من ثلاثة آلاف كلب سائب سيجري لاحقاً تعقيمها.
المهمة تحتاج للصبر
اعتراضات المجتمع وغياب الدعم المالي من أبرز التحديات أمام فريق منظمة باكو ولافين عبدالوهاب شخصياً.
"لا أحد يصدق بأنني أقوم بهذا العمل دون مقابل، والبعض يرى بأنني مخطئة كوني أنجز العمل التطوعي، لكني أشعر براحة الضمير والوجدان وأحب هذه الحيوانات كثيراً"، بحسب لافين.
تعقيم الكلاب والقطط وعلاجها وتلقيحها الى جانب إطعامها وتوفير مأوى لها يكلف مبالغ كبيرة، في الوقت الذي يحصل فيه فريق باكو على القليل من الدعم.
تقول لافين، "أعداد الكلاب في السليمانية كبيرة، يجب تسريع وتيرة التعقيم، نفتقر للدعم المالي، ليس لدينا مكان مناسب، البلدية أعطتنا مكاناً كان من قبل مخصصاً للأبقار المصادرة، وبإيجار شهري".
من العراقيل الأخرى، عدم وجود خطط حكومية عصرية للتعامل مع مشكلة انتشار الكلاب السائبة، الملاجئ تتعرض للانتقاد، وبحسب القوانين المعمولة بها، من بينها قانون الصحة الحيوانية في العراق لسنة 2013، يجب تشكيل لجنة في كل محافظة تتولى بالتعاون مع الأجهزة الأمنية التخلص من الكلاب السائبة، دون توضيح كيفية التخلص من هذه الحيوانات، حيث يتم قتلها في بعض المحافظات باستخدام بنادق الصيد أو عن طريق تسميمها.
وتقول شاكول أبو بكر إن "التخلص من الكلاب عن طريق تسميمها عمل لا إنساني"، وتؤيد لافين استخدا طريقة التعقيم لتقليل أعدادها.
اسوةً بفريق منظمة باكو، يضع مئات المواطنين بقايا الطعام في أماكن مفتوحة داخل الأزقة والحدائق لإطعام الكلاب والقطط السائبة.
ترى لافين بأنها لم تصل لمرحلة "تفخر" فيها بإنجازاتها فلا زال أمام طريق طويل لتحقيق ما تصبو إليه، "إذا توفر الدعم المالي والمكان، سنقوم بتعقيم أكبر عدد من الكلاب في مدة قياسية".
"هناك من يسيء إلينا بسبب عملنا هذا. في إحدى المرات بنينا بيتاً للكلاب لتحتمي داخلها أثناء هطول الثلوج، قبل أن نغادر المكان قام رجل بهدمه وهو يتفوه بألفاظ غير لائقة"، وتقول لافين بأن إنشاء مجتمع محب للحيوانات يتطلب تعليمه الرأفة والرفق بالحيوان.