على نهر الخابور، يبدد صوت هدير توربين مائي مخاوف فريق مؤلف من 30 شخصاً يعملون على نصبه منذ حوالي سنة، صوت يحمل معه رسالة مستقبل الطاقة المتجددة في اقليم كوردستان.
التوربين تم تثبيته على النهر في شهر أيلول الماضي. الفكرة استلهمت من مبادرة أطلقها سعيد بابير (47 سنة)، حين نجح في تزويد قرية بالكهرباء لمدة خمس سنوات باستخدام الطاقة المتجددة، والآن يسعى للمضي قدماً بعد أن حصل على دعم من معهد كوردستان للابتكار والتحديث (KII).
سعيد بابير، ومهنته الأصلية تورنجي، تمكن في الفترة بين عامي 2005 و 2010 من تزويد قرية بافا التابعة لناحية مانكيشك التي تبعد 52 كيلومتر عن قضاء سيميل و 32 كيلومتر عن مدينة دهوك بطاقة كهربائية وصلت الى 30 أمبير.
القرية كانت في حينها تضم خمسة منازل، لذا كانت كمية الكهرباء تلبي كافة احتياجات سكان القرية. لتوليد الكهرباء استعمل بابير دولاباً مائياً بسيطاً نصبه في النهر، دون الحاجة لاستخدام الوقود وتلويث البيئة بالأدخنة والغازات.
النجاح الذي استمر لخمس سنوات كان كافياً لكي يفكر سعيد بابير في مبادرة أخرى عن طريق الاستفادة من الطاقة المتجددة لإنتاج الكهرباء، في الوقت الذي لا يزال فيه اقليم كوردستان يولد جزءاً كبيراً من الكهرباء عن طريق المحطات التي تعمل بزيت الغاز والنفط الأسود، وكلاهما من المصادر الرئيسية لتلوث الهواء.
ما يميز المبادرة هو أنها نفذت بإمكانيات محلية، كلفتها أقل مقارنة باستيرادها من الخارج وبإمكانها انتاج الكهرباء في مياه ضحلة نسبياً، كما أن رِيَشها لا تدور بسرعة لذا فهي لا تؤذي الأسماك والكائنات المائية الأخرى.
المتحدث باسم وزارة الكهرباء في حكومة اقليم كوردستان، أوميد محمد، يقول بأن القدرة الانتاجية للكهرباء تقترب من 7500 ميغاواط، لكن بسبب عدم توفر الكميات اللازمة من الوقود، يتم توليد 60 بالمائة من هذه الطاقة أي ما بين 4200 و 4500 ميغاواط في أفضل الأحوال.
الحلم بدأ يتحقق
في عام 2022، شارك سعيد بابير في مبادرة أطلقها معهد كوردستان للابتكار والتحديث. المعهد الخاص بتطوير ودعم الباحثين وأصحاب الأعمال في اقليم كوردستان أعلن استعداد المعهد لتبني المبادرات والابتكارات المتنوعة ودعمها، فشكل ذلك فرصة لسعيد بابير كي يحقق حلمه.
طرح سعيد هناك فكرته لإنتاج الكهرباء عن طريق دولاب مائي يتم نصبه على مياه الأنهار، الفكرة لاقت القبول.
معهد كوردستان للابتكار والتحديث، يهدف لتشجيع مواطني كردستان، وخاصة جيل الشباب، على متابعة أفكارهم، وإطلاق أعمالهم التجارية الخاصة من خلال ابتكار أو تبني تقنيات جديدة يمكن أن تساعد إقليم كوردستان على تحقيق اقتصاد أكثر تطلعاً للمستقبل وأكثر استدامة.
مدير قسم العلاقات في المعهد، شريف أحمد، قال إن "التدريبات، الشبكة المهنية، الدعم المالي، كل هذه الخدمات متوفرة للمبتكرين في القطاعات المختلفة، منها الطاقة المتجددة، الصحة، الموضة، تكنلوجيا المعلومات وغيرها".
حتى الآن تسلم المعهد "ما يقرب من 450 فكرة ابداعية من المبتكرين وأصحاب المشاريع، بالاضافة الى تبني 28 مشروع في مرحلة التطوير"، بحسب شريف.
المبادرات تشمل مجالات الصحة، تكنلوجيا المعلومات والزراعة، فضلاً عن عدة مشاريع بيئية يعمل عليها المعهد حالياً.
فكرة سعيد بابير كانت عبارة عن دولاب مائي، وأشار شريف أحمد الى أن "المشروع يهدف لإنتاج الكهرباء بالاستفادة من مياه الأنهار، تمكننا بمساعدة فريق مؤلف من 20 الى 30 شخص من مهندسين، تقنيين وأساتذة من جامعات دهوك، زاخو، جيهان والجامعة الأمريكية في دهوك من تحويل الفكرة الى توربين أرخميدس، الذي يعد أحد تقنيات انتاج الطاقة من المصادر المائية".
توربين أرخميدس الذي تم تصميمه طوله ستة أمتار وقطره متران، وهو من التوربينات الفريدة في المنطقة وبإمكانه توليد الكهرباء من مصادر مائية يتراوح عمقها بين متر واحد و 10 أمتار.
وقال شريف إن "اهتمام المعهد ببعض القطاعات كقطاع الطاقة المتجددة يدل على التزامه بالمبادرات الصديقة للبيئة".
مدير القسم التقني في معهد كوردستان للابتكار والتحديث، هوكر سليم، قال إن "هذا النوع من التوربينات لا يؤثر سلباً على الحياة المائية، حيث أن الأسماك تستطيع المرور بين ريش التوربين لأنها لا تدور بسرعة"، في إشارة الى كون المشروع صديقاً للبيئة.
شوان جودت برزنجي، أستاذ جامعي وخبير في الهندسة والموارد المائية والبيئة، قال إن "انتاج الطاقة الكهرومائية يؤدي في بعض الحالات الى هجرة الأسماك، وإلحاق الضرر بالأعشاب المائية والحيوانات التي تعيش في المنطقة".
اقليم كوردستان مثالي لهذه المبادرات
وفقاً لإحصائيات وزارة الزراعة والموارد المائية،يملك اقليم كوردستان 26 سداً مائياً، وتسقط سنوياً كميات كافية من الأمطار والثلوج التي تؤدي الى ارتفاع مناسيب مياه السدود، لذا يرى الخبراء بأن اقليم كوردستان ملائم لنصب مثل هذه التوربينات المائية.
في الوقت الحاضر، يعتمد الاقليم على سدي دوكان ودربنديخان لإنتاج الطاقة الكهربائية عن طريق محطات كهرومائية.
مدير عام السدود، رحمان خاني، قال إن "سد دوكان يولّد طاقة كهربائية تبلغ 400 ميغاواط في الساعة، أما محطة سد دربنديخان فتولد 249 ميغاواط في الساعة"، أي أن كلا السدين لديهما القدرة على توليد 24 بالمائة فقط من إجمالي الطاقةالكهربائية المنتَجة.
تشير احصائيات البنك الدولي الى أن قطاع الطاقة مسؤول عن ما يقرب من ثلاثة أرباع إجمالي انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في العراق، أي أكثر من 60 بالمائة.
كما أن 98 بالمائة من كهرباء العراق ينتج من الوقود، وذلك في حين أشارت احصائيات عام 2023 الى أن الاعتماد على الفحم لتوليد الكهرباء كان بنسبة 35 بالمائة على مستوى العالم، عن طريق انتاج 10.434 تيرا واط في الساعة.
ويأتي الغاز الطبيعي في المرتبة الثانية بـ23 بالمائة وانتاج 6.634 تيرا واط من الكهرباء في الساعة. وتعد هذه المصادر من المسببات الرئيسية لتلوث البيئة وانتشار الأمراض.
في الوقت نفسه، يتم الاعتماد على الطاقة الكهرومائية كمصدر رئيسي للطاقة المتجددة في العالم، حيث تشكل 24.3 بالمائة من الانتاج العالمي للكهرباء أي ما يعادل 4.210 تيرا واط في الساعة، وفقاً لإحصائيات البنك الدولي.
المتحدث باسم وزارة الكهرباء في حكومة اقليم كوردستان، أوميد محمد شدد على أن محطة ديرلوك الكهرومائية في محافظة دهوك لديها القدرة على انتاج38 ميغاواط من الكهرباء، "هذه المحطة تعتمد على مياه سد ديرلوك لذا فإن كمية انتاج الكهرباء فيها غير ثابتة".
حول مبادرة سعيد بابير ومعهد كوردستان للابتكار قال أوميد، "نحن على اطلاع على هذه المساعي، لكن إذا أرادوا تشغيلها بشكل تام يجب عليهم التنسيق مع الوزارة للعمل وفق أسس علمية".
رحلة التوربين من أربيل الى زاخو
بعد 10 سنوات على جهده الفردي، أصبحت فكرة سعيد بابير لبنة ابتكار فريق محلي نجح خلال مدة قصيرة وبكلفة أقل من كلفة استيراد توربين من الخارج من تحوير الدولاب المائي الى توربين، حسبا أكد أعضاء في معهد كودستان للابتكار.
نهر الخابور في زاخو اختير لاختبار النموذج الأول من التوربين الذي أنتجه معهد كوردستان للابتكار والتحديث، "لأن الموقع المناسب لنصب التوربين كان معداً، لذا نقلنا التوربين الى زاخو"، بحسب شريف.
نصب التوربين تطلب عملاً وجهوداً مضنية، الخوف من الفشل كان بادياً على ملامح الفريق أثناء عملية نصب التوربين.
بعد ساعات من العمل، تم تشغيل التوربين المائي وبدّد صوت هديره بينما كان تيار الماء يحرك ريش التوربين، كل مخاوف الفريق.
"صوت تشغيل التوربين بداية لإنتاج الطاقة المتجددة في كوردستان"، وأضاف شريف إن "التوربين بإمكانه توليد ما بين 300 و 400 أمبير من الطاقة الكهربائية".
مسؤول القسم التقني في معهد كوردستان للابتكار قال إن "هذا التوربين يعتمد على نسبة المياه وارتفاع منسوبها في المكان الذي نصب فيه التوربين".
تعد الطاقة الكهرومائية أحد أنواع الطاقة المتجددة التي تعتمد على حركة المياه لإنتاج الكهرباء، ويعتبر بديلاً مناسباً في جهود مواجهة التغير المناخي.
ويقول خبير الهندس والمصادر المائية والبيئة، شوان جودت إن "محطات الكهرباء التي تعتمد على الوقود ألحقت أضراراً كبيرة بالبيئة لأنها تستخدم زيت الغاز، النفط الأسود والخام والفحم.. حرق هذه الأنواع من الوقود يشكل خطراً على صحة الانسان، وقد يسبب أمراضاً متعددة كأمراض القلب، الرئة والسرطان".
وقال الدكتور شوان إن "هذا التوربين مفيد ايضاً للسيطرة على الفيضانات، أساليب الري وتوفير المياه ومواجهة الجفاف". مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء في تزايد مستمر على نطاق العالم، وفي عان 2023 تجاوزت كمية الانتاج 30 بالمائة، نتيجة لازدياد الاعتماد على الطاقة الشمسية والرياح.
يهدف معهد كوردستان للابتكار لإنتاج هذه التوربينات المائية بأحجام مختلفة وأعداد أكبر لتسويقها بناءً على حجم الطلب.
المعهد يعمل حالياً على إنشاء معمل لهذا الغرض، ويقول شريف، "يجب أن تدعمنا الوزارات المعنية"، في حين قال مدير السدود في الاقليم، عبدالرحمن خاني، "لسنا مطلعين على هذه المشاريع".
عقبات كثيرة
تواجه الفريق تحديات كثيرة في عملية انتاج التوربين المائي، "العائق الرئيسي يتمثل في أنها المرة الأولى التي يتم فيها تصنيع جهاز لإنتاج الطاقة بخبرات محلية"، بحسب شريف.
تجميع أجزاء التوربين كان من التحديات الأخرى التي واجهت الفريق، وللتغلب على التحديات التقنية أنتج مهندسو المشروع أجزاء وقطع أخرى للتوربين.
سعيد بابير، الذي شارك بنفسه في صنع التوربين قال إن "العائق الرئيسي أمام تنفيذ فكرتي كان غياب الدعم المالي"، لكنه الآن يلقى الدعم من معهد كوردستان للابتكار لتجاوز العقبات وصنع توربين مائي متطور.