تلوث البيئة أصبح هماً يقلق بال بَري عثمان، دفعها لبذل جهود فردية لجمع البطاريات المستعملة التي قد تسبب كوارث بيئية في حال لم يتم معالجتها بطرق علمية.
"بطاريات الأجهزة الالكترونية كالهواتف الجوالة، أجهزة التحكم، الساعات وغيرها لا نرميها حين تصبح غير صالحة، أجمعها عندي ولا أعطيها لشخص آخر لأنني لا أثق بأن يتم التخلص منها بصورة علمية"، وتقول مهندسة الكومبيوتر بري عثمان، بأن هدفها هو حماية البيئة، لذا بدأت من منزلها.
هناك الكثيرون ممن يجمعون البطاريات وعددهم في تزايد، الكل يجمعهم همّ مشترك يتمثل بحماية التربة والبيئة، عوضاً عن المكاسب الشخصية.
توجد العديد من المعادن الثقيلة في البطاريات والتي تؤثر سلباً على البيئة والصحة العامة، حيث أن معظمها يتم رميها دون معالجتها، في الوقت الذي تحذر فيه هيئة حماية وتحسين البيئة في اقليم كوردستان من أن حرق البطاريات يؤدي الى انبعاث غازات سامة تلوث الهواء وفي حال تم طمر البطاريات ستؤثر على عناصر التربة والمياه الجوفية.
وأظهر تقرير لوزارة البلديات والسياحة في حكومة اقليم كوردستان بأن كمية النفايات التي تجمع يومياً في عموم الإقليم تصل الى ستة آلاف و829 طن، قسم منها تعالج بصورة علمية والبقية يتم حرقها أو طمرها.
جهود فردية للمنفعة العامة
تقيم بري عثمان في السليمانية، بدأت مهمة حماية البيئة منذ 11 عاماً، بالأخص عن طريق جمع البطاريات غير الصالحة لكي لا تلوث البيئة.
"جمعت حتى الآن 10 كيلوغرامات من البطاريات"، في البداية كانت لوحدها، لكن فيما بعد دعت أقرباءها ومن ثم زملائها للانضمام اليها. بعد جمع البطاريات يسلمونها لـ(بري عثمان) وهي بدورها تحتفظ بها الى أن تجد مكاناً تتأكد من أن البطاريات ستعالج فيه بصورة علمية ولا تعود مجدداً للبيئة.
وتقول بري، "أي شخص يجمع البطاريات ولا يعرف ماذا يفعل بها يمكنه إحضارها لي وأنا سأرسلها الى معمل إعادة التدوير في تانجرو". حين علمت بري بوجود العديد من المواد المضرة للتربة والمياه وصحة الانسان في البطاريات، قررت شن حرب صامتة ضد التلوث بالبطاريات.
بعض البطاريات تستخدم لمرة واحدة ولا يمكن إعادة شحنها وعمرها قصير، وهناك أيضاً بطاريات قابلة للشحن. تستخدم البطاريات على نطاق واسع وهي موجودة في كل مكان وفي العديد من الأجهزة والآلات كالساعة، الكومبيوتر، الهاتف الجوال، جهاز التحكم، الحاسبة الالكترونية وغيرها.
"جمعت حتى الآن 60 كيلوغرام من البطاريات.. إنها تسبب أضرار للصحة وتدخل المواد الكيماوية التي تحويها في التربة وتلوث البيئة"، بحسب محمد عثمان، الذي يجمع لوحده البطاريات منذ 12 عاماً، فضلاً عن نشره للوعي البيئي بخصوص أضرار البطاريات وضرورة عدم رميها.
وفقاً لهيئة حماية البيئة، يعد تلوث التربة بالنفايات الالكترونية كالبطاريات وأجهزة الموبايل من أنواع التلوث الخطيرة لأن المواد التي تدخل في صناعتها مضرة جداً، حيث تحتاج البطارية 300 عام لكي تتحلل في التربة.
خيلان محمد، ، حين كانت طالبة في الصف السادس الاعدادي، تحدثت مدرسّتها عن أضرار البطاريات وكيف تلوث التربة والمياه، منذ ذلك الحين بدأت بجمع البطاريات المستعملة، الآن وقد أكملت الدراسة في المعهد وأصبحت أماً لثلاثة أطفال، تقول "دائماً ما أجمع البطاريات غير الصالحة التي أجدها في منزلنا أو الحي الذي نعيش فيه أو السوق، علمت أطفالي أيضاً على عدم رمي البطاريات وأن يلتقطوها أينما عثروا عليها".
لا تلتفت خيلان لانتقادات الناس، "يقولون بأن البيئة لن تنظف بنا"، وترفض خيلان التوقف قائلةً، "هدفي هو الحؤول دون تدمير البيئة، لدينا وطن جميل ومن المؤسف أن نلوثه".
توجد في بعض المناطق مساعي ومبادرات جماعية لجمع البطاريات.محمد عبدالله، رجل دين في قضاء بنجوين، يجمع البطاريات منذ 15 سنة، جهوده أتت أكُلها وكان له دور في نشر الوعي البيئي، "تم وضع حاويات في أغلب المساجد والمحال لجمع البطاريات، في مسجدنا امتلأت الحاوية مرتين"، الآن أصبح محمد عبدالله عضواً في فريق تطوعي يتولى المهمة.
المجموعة التي التحق بها رجل الدين تدعى "بنجوين مدينة التعلم" التي تخصص جزءاً من فعالياتها لتشجير القضاء ومواجهة المخاطر البيئية.
"تحدثت في خطب الجمعة عن أضرار البطاريات، تحذيراتنا ونصائحنا كانت مفيدة، الوضع الصحي بشكل عام متردي والناس يريدون الوقاية من أضرار البطاريات"، لكن محمد عبدالله أشار الى أن البعض لا يهتمون بهذه القضية، لكن في النهاية يجب على الجميع أن يعتنوا بالبيئة، "إذا شوهنا البيئة نحن من سنتضرر".
التصدي لكارثة بيئية
يتجول محمد هاوكار يومياً بدراجته النارية ثلاثية العجلات (ستوتة) أحياء ومناطق مدينة السليمانية لجمع النايلون، الحديد والبطاريات ويبيعها باستثناء البطاريات التي لا أحد يشتريها.
"بالرغم من أنني لا أكسب شيئاً من جمع البطاريات، لكنني يجب أن أحافظ على البيئة"، محمد هاوكار كاسب وأب لسبعة أطفال، يهتم محمد بالبيئة ويشجع المواطنين عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي على حمايتها.
"في تانجرو، أضع البطاريات في فرن وأحرقها لكي لا تلوث الطبيعة، فلا يوجد هناك معمل لإعادة تدويرها"، تتفاوت كمية البطاريات التي يجمعها محمد هاوكار يومياً، احياناً يجمع كيلوغرامين وأحياناً أخرى تصل الى عشرة كيلوغرامات.
تحتوي البطارية على معادن ثقيلة كالرصاص، الكادميوم، الليثيوم، المنغنيز، الفضة، الزئبق وغيرها، جميعها مضرة للصحة العامة والبيئة، لذا تؤكد هيئة حماية وتحسين البيئة على أن الحل الأمثل هو إعادة تدويرها.
صالح نجيب، بروفيسور في علوم البيئة وأستاذ في إحدى الجامعات يثول بأن قطع الأجهزة الالكترونية تصبح نفايات وليس بطارياتها فقط، وتحتوي على مواد خطيرة للصحة، مشيراً الى أن هذه الأجهزة لا يعاد تدويرها بصورة صحية ليس في اقليم كوردستان فحسب بل في جميع أنحاء العالم.
المواد الموجودة في البطاريات والأجهزة الالكترونية، تؤثر سلباً على صحة النساء الحوامل، الأطفال، المسنين والذين يعانون من الحساسية"، قسم من العناصر تدخل التربة أو المياه وتنتقل عن طريق المحاصيل الزراعية الى جسم الانسان.
ويذكر صالح الرصاص كمثال، حيث تؤثر هذه المادة على الجهاز العصبي للانسان حيث أنها تحل محل الكاسيوم في العظام، كما أن الزئبق يؤدي الى إصابة الأطفال بفقر الدم (الأنيميا)، لافتاً الى أن زيادة نسبة هذه العناصر في التربة والمياه عن الحد المقرر تنتج عنها تداعيات صحية خطيرة.
وأشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية (WHO) نشر في 2023، أنتج العالم في عام 2019 ما يُقدر بنحو 53.6 مليون طن من النفايات الإلكترونية، ولكن الكمية التي تم توثيق جمعها وإعادة تدويرها رسمياً بلغت 17.4% فقط .
"يجب تحذير الناس من مساوئ البطاريات التي تتسبب بالإصابة بعدة أمراض. نحتاج في البداية الى تعزيز التربية البيئية لكي نقي أنفسنا من الكوارث"، بحسب خبير علوم البيئة.
إعادة استخدام وتدوير النفايات من الطرق الناجعة لمواجهة التلوث البيئي في العراق الذي يأتي في المرتبة الخامسة بين بلدان العالم الأكثر تأثراً بتداعيات التغير المناخي، وفقاً لإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة.
أوميد عمر، يشرف على قسم البيئة في مشروع (بنجوين مدينة التعلم) التي تتمثل أحد نشاطاتها بحملات جمع البطاريات، ولهذا الغرض تم نصب حاويات في المحال، المساجد والأماكن العامة لجمع البطاريات، الى جانب نشر الوعي حول الأضرار التي تسببها للبيئة والصحة العامة.
"تتألف البطارية من 12 مادة سامة تسبب العديد من الأمراض، منها السرطان. يمكن لكلّ بطارية أن تلوّث طناً واحداً من التربة و1000 متر مكعّب من المياه خلال 50 عاماً"، ويخشى أوميد من غياب الوعي بين المواطنين حول أضرار البطاريات، خصوصاً الأطفال.
الحملة تجاوزت حدود بنجوين ووصلت لى السليمانية ومدن أخرى، "الكثيرون طلبوا منا نصب حاويات لجمع البطاريات"، وأوضح أوميد بأنهم خصصوا حاويات فلهذا الغرض في بعض الأماكن وقد تم حتى الآن جمع ما بين 400 و 500 كيلوغرام، لكن المشكلة هي عدم وجود معمل في اقليم كوردستان لإعادة تدوير البطاريات والأجهزة الالكترونية المستعملة، هناك محاولات لنقلها الى ايران أو الانتظار لحين ايجاد معالجة علمية لها في اقليم كوردستان.
صناديق فارغة
بلدية السليمانية لديها تجربة مرة مع حملات جمع البطاريات الصغيرة، فقد خصصت فيما مضى صناديق في الأسواق لهذا الغرض لكنها كانت تبقى خالية لأن المواطنين كانوا يرمون فيها المناديل الورقية، عبوات المياه والنفايات الأخرى.
محمد عثمان شهد هذه الوضع لذا حين يجمع البطاريات يريد التأكد من أن يتم التخلص منها بطريقة علمية، فلا يرميها ولا يبيعها بانتظار إنشاء معمل يتولى إعادة تدويرها.
يتم حالياً نقل نفايات السليمانية، بعد جمعها، الى منطقة تانجرو جنوب غربي المدينة، حيث يوجد معمل لإنتاج الطاقة المتجددة، حيث تطحن النفايات وتحول الى طاقة ووقود يستخدم لتشغيل عدد من المعامل.
المتحدث باسم بلدية السليمانية، زردشت رفيق يقول بأن أكثر من ألف طن من النفايات تنقل الى معمل إعادة التدوير، "هناك يتم فرز النفايات وتحويل ما يصلح للتدوير الى وقود"، لكن 75 بالمائة منها عبارة عن نفايات غذائية، بلاستيكية، بطاريات وغيرها.
يوجد أيضاً في السليمانية معمل لإعادة تدوير بطاريات السيارات. المعمل تأسس منذ سبع سنوات ويعيد شهرياً تدوير ثاثة الى أربعة أطنان من البطاريات المستعملة.
قانون حماية وتحسين البيئة رقم 8 لسنة 2008 في إقليم كوردستان وضع عقوبات مشددة لتلويث البيئة تتضمن الحبس والتغريم بمبالغ تصل 200 مليون دينار، حسب نوع المخالفة.
تأسف بري عثمان على عدم وجود طريقة علمية كإعادة التدوير لحماية البيئة من سموم البطاريات، الى جانب غياب التوعية، لذا ليس أمامها إلا جمعها ونقلها الى تانجرو لإنتاج الطاقة بطريقة لا تخلو من تهديدات على البيئة.