أينما كنت تعيش في المدينة، شمالها أو جنوبها، ومهما كان تحصيلك الدراسي، يمكنك من خلال هاتفك المحمول وبعدة خطوات بسيطة معرفة جودة الهواء في منطقتك، سواءً كان نظيفاً أو معتدلاً أو غير مناسب للاستنشاق.
كل هذه التسهيلات والمزايا هي جزء من مبادرة أطلقتها مؤسسة "ميد"، بهدف جمع بيانات دقيقة حول جودة الهواء في إقليم كوردستان لأغراض التحليل والتقييم. ويتم نشر هذه المعلومات للمواطنين بلغة بسيطة على موقع إلكتروني.
شبكة جودة الهواء تتألف من 28 جهاز استشعار خاص، تم تركيب 25 منها في السليمانية وكل من إدارتي كرميان ورابرين، اثنان في حلبجة، وجهاز واحد في كركوك. يمكنك عن طريق هذه الأجهزة معرفة جودة الهواء لحظة بلحظة.
و تقول مديرة المشاريع في مؤسسة ميد، هنار هادي، "كان لدينا هدفان في هذا المشروع، الأول هو جمع البيانات، لأن التطور في أي مجال يتطلب توفر البيانات، وهو أمر غير متاح بسهولة في منطقتنا. لذلك، توصلنا إلى حل ذكي وعصري باستخدام التكنولوجيا".
الهدف الثاني للمشروع هو سد فجوة عن طريق الحصول على بيانات تصب في صالح المنطقة والبيئة، "هناك العديد من الفجوات في مجال البيئة، وخاصة فيما يتعلق بالمعلومات عن الطقس، والآن بدأت الأمور تتحسن تدريجيا بعد ثورة جمع البيانات التي أطلقتها مؤسستنا".
مؤسسة "ميد" هي منظمة غير ربحية تعمل في مجال التنمية.
كان هدفنا من توفير 10 أجهزة للمشروع هو التركيز على جودة الهواء حيث ركزت المبادرات السابقة بشكل أساسي على التربة، في الوقت الذي تتدهور فيه جودة الهواء في اقليم كوردستان يومًا بعد يوم
90 بالمائة من الناس يستنشقون هواء ملوثاً وغير صحي، بما في ذلك العراق، الذي يعد من "أكثر البلدان تلوثا" في العالم، وفقا لشركة "آي كيو أير"، وهي شركة سويسرية لتكنولوجيا جودة الهواء، في حين تحذر منظمة الصحة العالمية من أن تلوث الهواء داخل وخارج المنزل يشكل تهديداً كبيراً على الحياة والمناخ، ويتسبب في سبعة ملايين حالة وفاة مبكرة في جميع أنحاء العالم سنويا.
تحويل البيانات إلى معلومات مفيدة
شبكة جودة الهواء هي أول تجربة من نوعها في إقليم كوردستان ومناطق أخرى من العراق. وفقاً لمؤسسة "ميد" التي تعمل حاليًا في السليمانية وحلبجة وكرميان ورابرين، وتخطط لوصول إلى أربيل ودهوك، ومن ثم باقي مناطق العراق.
تم الإعلان عن المشروع في تشرين الثاني 2023، حتى شهر نيسان الماضي 2024، كانت الجهود مركزة على تركيب أجهزة استشعار ذكية لمراقبة جودة الهواء في مساحة 17 ألف كيلومتر مربع، وذلك بالتنسيق مع شركة "آي كيو أير" السويسرية.
تدير الشبكة ثلاث مجموعات مختلفة تتولى تحليل البيانات، صيانة الأجهزة ومراقبة عمل الأجهزة.
وأوضحت هنار بأن كل جهاز سيقوم بمسح خمسة كيلومترات في محيطه ويجمع البيانات، وفي نصب الأجهزة وتحديد المواقع، داخل أو خارج المدينة، يتم الأخذ برأي خبراء البيئة، بالأخص كلية العلوم البيئية بجامعة السليمانية.
أجهزة الاستشعار الذكية تجمع البيانات حول جودة الهواء ومستويات التلوث ودرجة الحرارة والضغط والرطوبة كل ثلاث دقائق. تراقب شبكة جودة الهواء عن كثب الجسيمات الدقيقة (Particulate Matter)، والتي تؤثر بشكل كبير على الصحة.
وفقًا لما نشرته مؤسسة "ميد"، يمكن للجسيمات الدقيقة من نوع (PM2.5) والتي تنتج عن احتراق الوقود أن تتغلغل إلى عمق الرئتين والدورة الدموية، ما يسبب مشاكل في الجهاز التنفسي والقلب، كما يؤثر على صحة الدماغ ونمو الجنين.
كما يمكن للجسيمات الدقيقة من نوع (PM10)، الناتجة عن استنشاق جزيئات الهواء الكبيرة مثل الغبار، أن تهيج الجهاز التنفسي وتسبب الربو والتهاب المجاري التنفسية. أما الجسيمات الدقيقة من نوع (PM1) وهي أصغرها، فتنتج عن احتراق الوقود وتآكل الإطارات وتؤثر على الرئتين وبعض الأعضاء الأخرى كالقلب.
هذه البيانات ضرورية جداً لتحديد مصادر تلوث الهواء، التحذير من مخاطر التعرض، واتخاذ الإجراءات الاحترازية لحماية الصحة العامة في المناطق التي تشهد نسب عالية من انبعاثات المصانع والسيارات.
المبادرة لديها عدد من الشركاء، من ضمنهم شركة (IQ) الخاصة بخدمات الإنترنت التي ساهمت في تزويد 20 جهاز استشعار وساعدت في إصلاحها ونصب عدد منها. في حين وفرت منظمة التنمية المدنية (CDO) 10 أجهزة إضافية وتطلق حملات توعية حول جمع البيانات والحفاظ على جودة الهواء. من الشركاء الآخرين للمبادرة، كلية العلوم البيئية في جامعة السليمانية، التي تقوم بتحليل البيانات.
ويقول المدير العام لمنظمة التنمية المدنية، بختيار أحمد، "كان هدفنا من توفير 10 أجهزة للمشروع هو التركيز على جودة الهواء حيث ركزت المبادرات السابقة بشكل أساسي على التربة، في الوقت الذي تتدهور فيه جودة الهواء في اقليم كوردستان يومًا بعد يوم".
من الجوانب المهمة الأخرى للمبادرة، بحسب بختيار أحمد، هو أن المواطنين لديهم الحق في معرفة جودة الهواء في مناطقهم بشكل يومي، وأن يكونوا على اطلاع بالموضوع وأن تصلهم المعلومات باستمرار.
وتقول وزارة الصحة في حكومة إقليم كوردستان إن التلوث البيئي أحد اسباب الإصابة بأمراض السرطان، حيث سجلت تسعة آلاف و911 حالة إصابة بالسرطان خلال 2023، وتشير الاحصائيات إلى أن سرطان الرئة ثاني أكثر الحالات شيوعاً.
هواء شمال السليمانية أنظف من جنوبها
شبكة جودة الهواء ستصبح مصدراً للتحليل المفصل والعميق لمصادر تلوث الهواء وتقديم الحلول المستدامة، وسيتيح للجهات المعنية اتخاذ القرارات بالاستناد إلى البيانات، وتعتبر المبادرة خطوة مهمة لحماية الصحة العامة نحو مستقبل أكثر استدامة وأكثر صداقة للبيئة، وفقًا لمؤسسة "ميد".
البيانات التي تم جمعها على مدار ثمانية أشهر من تشغيل أجهزة استشعار جودة الهواء يتم تحليلها من قبل كلية العلوم البيئية بجامعة السليمانية.
ويقول الدكتور عماد عمر، عميد كلية العلوم البيئية وخبير تحليل البيانات، إن التحليلات كشفت أن محافظة السليمانية تتمتع بهواء نظيف إلى معتدل، حيث تتراوح النسبة بين 16.7 و17،" وهذا أمر مشجع وفقاً للمعايير الدولية".
تتراوح معايير جودة الهواء في الشبكة من 0 إلى أكثر من 50 درجة، تحدد نظافة الهواء ومستويات التلوث. وأوضح عماد عمر أنه إذا كانت الدرجة بين 0 إلى 5، فإن الهواء نظيف للغاية، ومن 5 إلى 15 فهو معتدل، ومن 15 إلى 25 هو معتدل أيضاً ولكنه غير مناسب لمرضى الربو، ومن 25 فما فوق يعتبر ملوثاً.
المواطنين لا يتم إخبارهم بجودة الهواء في المواقع التي نصبت فيها الأجهزة، بل يزورون بأنفسهم الموقع الإلكتروني ليطلعوا على الوضع. "يتم تحديد جودة الهواء بحسب اللونن
"البيانات التي قمنا بتحليلها حددناها بالساعة واليوم والشهر. تقسم السليمانية إلى ثلاث مناطق: شمال المدينة يتمتع بهواء نظيف جداً، الوسط يتمتع بهواء معتدل، أما هواء الجنوب فيتراوح بين معتدل وملوث".
وأشار عميد كلية العلوم البيئية إلى أن الهواء في الجزء الجنوبي من السليمانية ليس خطيراً، والمناطق خارج المدينة، على سبيل المثال المناطق الجبلية مثل هورامان، برزنجة، ماوت، قلعة دزة وجوارتا، تتمتع بهواء نظيف إلى معتدل، بنسب تتراوح بين 16 و 17 درجة.
ويقول عماد عمر إن جمجمال وكلار هما المكانان الوحيدان اللذان يواجهان مشاكل في جودة الهواء كونهما مناطق سهلية وأقرب ما تكون للصحراوية، حيث تشهد موجات ترابية ما يجعل الهواء فيها أكثر تلوثاً حيث تقترب النسبة من 20 درجة. ومع ذلك، فإن مستويات التلوث فيهما لا تزال أفضل من بغداد، التي تصل إلى 48.3.
وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة، يُعد العراق خامس أكثر دولة تأثراً بتداعيات تغير المناخ في العالم، حيث يواجه تحديات بيئية مختلفة من إنتاج النفط والغاز إلى عدم وجود معالجات علمية للنفايات التي تصل إلى 12 مليون طن سنويًا، ما يؤدي إلى تلوث الهواء.
يعتبر قطاع النقل، وخاصة النقل البري، مسؤولاً عن 15٪ من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، مما يجعله ثاني أكبر مصدر للتلوث بعد قطاعات الطاقة والصناعة.
وتشهد معظم الدول مساعي لإيجاد بدائل للطاقة، تشمل تطوير صناعة السيارات الكهربائية.
بحسب احصائية لهيئة حماية وتحسين البيئة في كردستان، يوجد في الإقليم ما يقرب من مليونين وأربعمائة ألف مركبة وسبعة آلاف و354 مولدة كهربائية، ألف و759 منها في محافظة السليمانية. وتعتبر هذه المولدات مصدراً للأدخنة السامة التي تشكل تهديدًا على صحة الإنسان والكائنات الأخرى.
تنشر مبادرة شبكة جودة الهواء بيانات ومعلومات خلال لوحة مخصصة على موقع IQAir وتطبيق AirVisual الموجود على الهواتف المحمولة.
ويقول مدير المشاريع في مؤسسة "ميد" إن المواطنين لا يتم إخبارهم بجودة الهواء في المواقع التي نصبت فيها الأجهزة، بل يزورون بأنفسهم الموقع الإلكتروني ليطلعوا على الوضع. "يتم تحديد جودة الهواء بحسب اللونن، حيث يبدأ باللون الأخضر، ثم الأصفر، البرتقالي، الأحمر، الأرجواني، والأرجواني الداكن" وبحسب هادي، يشير كل لون إلى جودة الهواء من الجيد إلى السيئ ثم الأسوأ.
وعلى الموقع، تعرض خريطة مواقع أجهزة جودة الهواء، والتي تقود المستخدمين إلى الموقع الرسمي للأجهزة وبياناتها، ويمكن للمستخدمين الحصول على مقاييس هواء جديدة كل ثلاث دقائق.
وأوضحت هنار هادي أن "كل مواطن يمكن أن يستفيد منها. يمكن لأصحاب شهادات الماجستير والدكتوراه وحتى الأميين الاستفادة منها، حيث يتم تصنيف المعلومات وفقًا لمعايير وألوان مختلفة".
سد ثغرة بيئية
تتيح بيانات ومعلومات شبكة جودة الهواء الفرصة لتعزيز مصادر للدراسات المتعلقة بالبيئة، وخاصة فيما يتعلق بتلوث الهواء.
وأوضحت الأستاذة في جامعة كرميان والخبيرة في مجال المخاطر البيئية والمياه، دلباك أحمد، أن هذه المبادرة سيكون لها تأثيرات بيئية كبيرة. ويمكن للباحثين الاستفادة من البيانات لتحليل مستويات جودة الهواء بصورة عامة في اقليم كوردستان.
"إذا كانت هذه الأجهزة ذات جودة عالية ومتصلة بالأقمار الصناعية وتتلقى بيانات مستمرة، يمكن الاعتماد على بياناتها".
وأشارت دلباك إلى أهمية نصب المحطات في المدن لمراقبة مصادر التلوث بشكل فعال بناءً على عوامل ومصادر تلوث مختلفة.
يعد تلوث الهواء قضية عالمية، وفي المقابل تتمثل أحد الحلول بزيادة المساحات الخضراء بزراعة الأشجار. كل شجرة متوسطة الحجم تمتص يومياً 1.7 كيلوغرام من ثاني أوكسيد الكربون وتنتج 120 لترًا من الأوكسجين، ويتطلب تعويض التلوث الناجم عن مركبة واحدة زراعة سبع أشجار على الأقل.
وقال عماد عمر إن البيانات المسجلة، والمعروفة باسم "الميغا داتا"، تخضع لتحليل علمي وأكاديمي شامل من خلال برامج خاصة، مشيراً إلى أن خطوات المشروع، بدءاً من جمع البيانات وصولاً إلى التحليل والتقييم تنفذ للمرة الأولى في إقليم كوردستان ،وتواكب مثيلاتها في البلدان المتقدمة.
البيانات التي يتم تحليلها "موثوقة وعلمية "، وتوجد خطط لتحليل البيانات لمدة عام بعد تنفيذ المشروع ونشرها في مجلة دولية كجزء من بحث رفيع المستوى. وأضاف عماد عمر، "نريد أن ننشر هذه البيانات على موقع (Air Quality Index) ونضع السليمانية على الخارطة العالمية كإحدى أنظف مدن الشرق الأوسط.
وجهات نظر متباينة
توعية الأفراد مهمة أساسية في مبادرة شبكة جودة الهواء، ويجب على منظمة CDO أن تنفذ هذا الجزء من المشروع. لكنها بانتظار توقيع مذكرة تفاهم.
وقال مدير المنظمة، "كان من المفترض أن يتم تطوير المشروع بشكل أكبر، من خلال توقيع مذكرة تفاهم بيننا وبين شركة IQ، مؤسسة كوردسات الإعلامية ومؤسسة ميد. ومع ذلك، لم تكتمل هذه الخطوة، ومهمة إعدادها لا تقع على عاتقنا".
وأكد بختيار أحمد أن دورهم يتمثل برفع مستوى الوعي حول حماية جودة الهواء وإيصال المعلومات للمواطنين بشكل مبسط. على سبيل المثال، يقولون: وفقاً للبيانات والمعلومات جودة الهواء في منطقة معينة من السليمانية غير مناسبة للمصابين بالربو.
من بين التحديات الأخرى التي تواجه شبكة جودة الهواء، والتي تواجه كافة سكان إقليم كوردستان، نقص الكهرباء.
وأوضح مدير المشاريع في مؤسسة ميد، "تتطلب هذه الأجهزة توفر خدمة الإنترنت والكهرباء على مدار الساعة. ولأن هذه الأجهزة جلبت من شركة IQ Air السويسرية، فإن معاييرها لا تتطابق مع معاييرنا".
وأوضح بأن الأجهزة رغم كونها مصممة للتثبيت في موقع واحد، لكن بسبب مشاكل الكهرباء والإنترنت، اضطررنا لتغيير مواقعها من منطقة إلى أخرى. وقالت هنار هادي بأن الأجهزة تم تثبيتها منذ أشهر بعد تأمين الكهرباء والانترنت لها بشكل مستمر.