"تلعفر تحتاجُ إلى من يبثّ عبرها الحياة والسلام والمحبة، بعد أن تحررتْ من التطرف والعنف والطائفية التي قيدتها لسنواتٍ طويلة، وخلفتْ وراءها آلاماً وأحزاناً في كل بيت، وفي قلب كلّ أم..". هكذا يبدأ صاحب (ملتقى الكتاب)، أول مكتبة ثقافية افتتحت في تلعفر، غرب الموصل، حديثه مع (كركوك ناو).
ويضيف كرار الداؤودي، متحدثاً عن ولادة فكرة المشروع لديه بالقول "منذُ كنتُ طالباً بجامعة المستنصرية، كنتُ أرتاد شارع المتنبي في بغداد باستمرار، وكانت -وما زالت- لي علاقة طيبة ووثيقة ببعض أصحاب المكتبات هناك، رادوتني الفكرة حينها، إلا أن سيطرة تنظيم داعش لمناطقنا حال دون تنفيذها في وقتها".
ويتابع قائلاً "ترسخت الفكرة لديّ خلال سنوات النزوح بحكم كوني قريباً من المراكز والمؤسسات الثقافية في بغداد، حيث خلقت في داخلي إصراراً على تنفيذها بعد التحرير والعودة، وما أن تحررت تلعفر ووجدتُ دعماً من إحدى المنظمات الدولية العاملة هنا بادرتُ إلى أن يرى هذا الحلم النور ويكون واقعاً له تأثيره على الأرض".
وتقدّم منظمات دولية تعمل في تلعفر، منحاً مالية لإقامة المشاريع الصغيرة بهدف إعادة الحياة إلى المدينة، ومن بينها منظمة DRC، المجلس الدنماركي للاجئين، وهي منظمة إنسانية غير حكومية وغير ربحية تأسست عام 1956م، وتعمل في أكثر من 30 دولة حول العالم، بينها العراق، بتقديم مساعدات مباشرة للسكان المتضررين من النزاعات - اللاجئين المحليين والمجتمعات المستضيفة في مناطق النزاعات حول العالم.
وبينما مراسل كركوك ناو يتحدث معه، هناك عدداً من القراء يقلبون صفحات بعض الكتب، فيما يستفسر آخرون عن عناوين لم تلمحهم أعينهم، "هناك إقبالٌ لمتذوقي المطالعة وعشاق القراءة من كلا الجنسين، للعناوين التي تضمها المكتبة، لا سيما الكتب المهتمة بالتنمية البشرية والروايات وتلك التي تعالج الجانب الاجتماعي". هكذا يرى الداؤودي.
ويطمحُ، الشاب الثلاثيني، الذي ما زال يتأمل التعيين الحكومي، بعد أربع سنوات من العمل كمحاضرٍ مجاني في المدارس الإعدادية، أن يكتمل مشروعه الفتي، "ويشتمل على أقسام أخرى، ويتسع ليضم داراً للنشر ويكون ملتقى لكل الكفاءات والمبدعين الذين تزدخر بهم تلعفر".
هناك إقبالٌ لمتذوقي المطالعة وعشاق القراءة من كلا الجنسين
وأوضح الداؤودي أن "الجهات المهتمة بالجانب الثقافية، على قلة عددها، أبدت استعدادها للتعاون في إنجاح هذا المشروع، باعتباره الأول من نوعه منذ تحرير تلعفر من داعش"، مؤكداً أنه يتطلعُ إلى "دعم المنظمات الدولية بهدف تطوير المكتبة بعد إقبال الشباب من مختلف مناطق وشرائح تلعفر عليها".
من جانبه قال رئيس منتدى تلعفر الثقافي زينل الصوفي، معلقاً على هذه الخطوة، "لا شك أن الحركة الثقافية شقت طريقها إلى التعافي من خلال تأسيس عدة مؤسسات ثقافية في تلعفر تسعى كلها إلى نشر الوعي الثقافي بين المواطنين". وأضاف الصوفي في حديث مع (كركوك ناو)، أن "وجود مكتبة مختصة في المدينة يشجع الكثيرين إلى القراءة والبحث عن الجديد خصوصا وأن القراءة من الكتاب لها نكهتها الخاصة هذه من جهة ومن جهة أخرى هناك إقبال واسع هذه الأيام على القراءة بعد أن أصابها الكسل نتيجة للظروف الصعبة التي مرت بها تلعفر".
وتابع أن "العناوين المطروحة حاليا في المكتبات كلها تهدف إلى نشر المحبة وإظهار الجمال ونشر نتاجات المبدعين فأصبح من السهل إيجاد عنوان لكتاب في مكتبة خصوصا إذا كانت هذه المكتبة مختصة بالكتب والعناوين الحديثة".
وتقع تلعفر شمال غرب العراق، وتتبع أداريا إلى محافظة نينوى، وتبعد عن مدينة الموصل بحوالي 70 كم، يقدر عدد سكانها بنحو 220,000 نسمة وتسكنها أغلبية من التركمان المسلمين (السنة والشيعة)، وشهدت خلال السنوات 2005-2014 أعمال عنف حملت طابعاً طائفياً واستهدافاً على الهوية، خلفت جراء ذلك ألاف الضحايا والجرحى ومئات الدور والمتاجر المهدمة، إلى أن احتلها تنظيم الدولة "داعش" في صيف 2014 حيث نزح أهلها إلى المحافظات الوسطى والجنوبية، وإلى كركوك وإقليم كوردستان، وتركيا، فيما عاد نحو 45% منهم إلى المدينة بعد تحريرها في نهاية أب 2017 بينما ما زال الكثير من أهلها نازحون داخل وخارج العراق.
يحيى كاظم، أحد مرتادي المكتبة، يقول "للكتب ارتباط وصلة بالسلام والمحبة والتعايش، وهي أمور أشد ما نكون بحاجة إليها في مدينة كانت على فوهة بركان لسنوات، وما أجمل ما أجده هنا شبابٌ من مناطق مختلفة من انتماءات مختلفة يجمعهم الكتاب".
للكتب ارتباط وصلة بالسلام والمحبة والتعايش، وهي أمور أشد ما نكون بحاجة إليها في مدينة كانت على فوهة بركان لسنوات
وإلى جانبه، أحمد عمر يضيف إلى ما ذكره كاظم "سنوات النزوح رغم معاناتها ومآسيها جعلتنا على احتكاك مباشر مع مجتمعات أخرى، وجدناها كم هي مهتمة بالجانب الثقافي والمعرفي، وهذا الأمر عزز اندفاعنا إلى هذا الجانب، الذي للأسف لم يلقى اهتماماً من الجهات الحكومية، كوزارة الثقافة الغائبة تماماً عن تلعفر، والمنظمات الدولية والمحلية".
الداؤودي يشير إلى الهدف الذي يسعى لتحقيقه من المكتبة بقوله أن "تلعفر بحاجة ماسة إلى الاهتمام بالجانب الثقافي، وأبناؤها قبل غيرهم مطالبون بالعمل للنهوض بهذا الجانب، ليتركوا بصمة واضحة في تاريخ مدينتهم التي كانت تفتقر إلى الأمس إلى مكتبة يرتادوها ويرووا عطشهم للأدب والمعرفة من خلالها.. لذا أحاول وبكل تواضع أن أكون خيطاً رفيعاً لنشر المعرفة بين شبابنا الأعزاء".