العامان الماضيان كانا مثيرين للصدمة أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لسيد سيروان، محامي في محكمة كركوك، وذلك بسبب ازدياد القضايا المتعلقة بظاهرة رمي الأطفال الرُضَّع وتركهم على قارعة الطرق أوفي حاويات النفاية، يقابله عجز من قبل الحكومة لإيجاد حلّ لأطفالٍ لم ينعموا بدفء الأحضان.
أحدث قضية تسلمها المحامي سيد سيروان في 2020 كان يتعلق برمي طفل رضيع في أحد أحياء مدينة كركوك.
مُلَخّص القصة كما يقول سيد سيروان بدأت بـ"اشتباه بخيانة زوجية"، ثم اِمتَدَّت الى الطلاق وانتهت برمي الطفل الرضيع في اليوم الأول الذي وُلِدَ فيه.
حول هذه القضية يقول سيد سيروان أنه حينما حبِلَت الامرأة "اتهمها زوجها بالخيانة الزوجية، وعندما وُلِدَ الطفل تركوه في أحد الأحياء". القضية لم تُحسم لحد الآن وهي بانتظار قرار القاضي، ولكن الواضح هو أن الطفل أصبح الضحية، ولم يُبدِ أي من والديه الاستعداد لضمه وقَرَّرا رميَه. حالياً يقبع الطفل في أحد المستشفيات بانتظار قرار القاضي على أمل أن يَضُمَّه أحد.
هذا مثال لعشرات القضايا المماثلة التي سُجلَت في غضون العامين الماضيين في كركوك، المحزن في الأمر ليس رمي الأطفال الرضع فحسب، بل تركهم لقدرٍ مجهول.
عشرات القضايا التي تنتظر الحل
في الاسبوع الماضي –نهاية شهر آذار- عثرت الشرطة على طفل رضيع مرمي بين النفايات في قضاء الحويجة، جنوب غرب محافظة كركوك، الطفل كان حديث الولادة ولم يتم التوصل الى أية معلومات حول هوية والده أو والدته، وتلك كانت أحدث قضية مشابهة في كركوك خلال هذا العام.
في شهر أيلول من العام الماضي، عثر عمال النظافة في مستشفى كركوك العام على طفل حديث الولادة مرمياً في أحدى مراحيض المستشفى.
وكانت دائرة صحة كركوك قد اعلنت في حينها بأن الطفل تم العثور عليه في الساعة 9:40 دقيقة من صباح الثالث عشر من ايلول وتم ايداعه في قسم العناية المركزة للأطفال الخدج.
وعلمت (كركوك ناو) بأن القوات الأمنية بالاعتماد على بيانات المستشفى ومراجعة كاميرات المراقبة تمكنت فيما بعد من ايجاد والدة الطفلة.
ولكن بعد خمسة أيام، أي في 18 أيلول، قُتِلَت تلك الامرأة من قبل ذويها في حي كوباني بكركوك، وذلك حسبما افاد به مصدر أمني لـ(كركوك ناو) الذي قال "المرأة لم تكن متزوجة، ولكنها كانت حاملا من شخص مجهول لذا قتلها ذووها."
الامرأة المقتولة كانت قد فقد والدتها وتعيش مع زوجة والدها، بعد مقتلها تم اعتقال شقيقها وعدة أشخاص آخرين وتمت محاكمتهم.
في شهر آذار 2019، عُثر على طفل عمره يومان فقط في مكان قريب من مديرية شرطة مرور كركوك.
وأكد في وقتها النقيب فرهاد محمود في حديث لـ(كركوك ناو) "نقلنا الطفل الى المستشفى وبعد اجراء الفحوصات تبين أن الطفل كان قد وُلِد قبل ستة اشهر."
مقارنة بالعام الماضي شهدت حالات رمي الأطفال حديثي الولادة بصورة عامة تزايدا
"مقارنة بالعام الماضي شهدت حالات رمي الأطفال حديثي الولادة بصورة عامة تزايدا، خصوصاً في المناطق الفقيرة والعوائل النازحة، وأسبابها الرئيسية تتمثل في الطلاق، الخيانة الزوجية والفقر"، حسبما يقول المحامي سيد سيروان والذي تولى بنفسه عدة قضايا من هذا الشاكلة.
يقول العميد رزكار عبد اللطيف، مدير شرطة مكافحة العنف الأسري والتي تُحال اليها بعض هذه القضايا، بأنهم تسلموا قضيتين في داخل مدينة كركوك، ادَّعت في احداها والدة الطفل بعدم مقدرتها على اعالته، أما في الثانية فلم يتمكنوا من الحصول على معلومات بخصوص والد أو والدة الطفل المرمي.
وأضاف العميد رزكار في حديثه ل(كركوك ناو) "يتم ابلاغنا مباشرة في القضايا المتعلقة برمي الأطفال حديثي الولادة فنقوم بجمع الأدلة والمعلومات والتحقيق في أسباب رمي الطفل الرضيع، ثم تُحال القضايا الى المحكمة للبت فيها."
الجهود المبذولة لحسم مصير الأطفال المرميين ليست مثمرة
تزايد حالات رمي الأطفال الرضع دفعت مكتب المفوضية العراقية العليا لحقوق الانسان في كركوك الى فتح ملف خاص بالأطفال المرميين، لمراقبة تلك الحالات عن قرب.
يقول سجاد جمعة مدير مكتب المفوضية في كركوك بأن القضايا حساسة الى حد ما، "لا نستطيع أن نقرر فيما ان كانوا أطفالاً شرعيين أو غير شرعيين، لأننا لا نعرف هوية آبائهم وأمهاتهم."
وأضاف "شكَّلنا فريقين، أحدهما يتولى متابعة القضايا، والأخر مسؤول عن تنظيم دورات توعية في المدارس."
المشكلة التي تواجه المفوضية تتمثل في عدم قدرتهم على احتضان هؤلاء الأطفال والعناية بهم لحين صدور قرار المحكمة، لذا يوضعون في أغلب الأوقات في المستشفيات، مراكز الشرطة أوفي منزل مختار الحي.
"قبل عدة اشهر تم ابلاغنا عن وجود طفل رضيع مرمي، نقلنا الطفل بالتنسيق مع الشرطة ومركز اعادة تأهيل المشردين وأحلنا القضية الى المحكمة، رغم أن المحكمة قررت ايداعه في أحد المستشفيات الا أنهم رفضوا تسلمه بحجة افتقارهم الى مكان خاص لإيوائه" يقول سجاد.
وهذه هي المعضلة الكبرى التي تواجه الأطفال المرميين.
المؤسسات المعنية بالتعامل مع حالات رمي الأطفال حديثي الولادة يمتلكون خيارين، اما نقلهم الى السليمانية وبغداد حيث تتواجد مراكز خاصة في تلك المحافظتين للعناية بهم، أو وهبهم للعوائل التي ترغب في تبنيهم.
جوان حسن، التي كانت عضوة في مجلس محافظة كركوك لخمسة عشر عاما، ترأست خلالها لجنة حقوق الانسان قالت ل(كركوك ناو) "أحد المشاكل الأخرى تمثلت في عدم ثقتنا بمركز ايواء الأطفال في بغداد، حتى نرسل اليها الأطفال المرميين.... كيف يتم العناية بهم وتربيتهم، لم نكن على اطِّلاع بظروف المعاملة القانونية والانسانية مع هؤلاء الأطفال هناك، وفي نفس الوقت لا تحوي المستشفيات على أماكن خاصة بإيوائهم."
وذكرت جوان قصة فتاة في الخامسة من عمرها كمثال على ذلك، حيث قام عمال النظافة بالعناية بهذه الطفلة داخل المستشفى حتى بلغت الخامسة، ثم سلَّمتِ المحكمة الطفلة الى عائلة قررت تبنيها.
مع ذلك، الاقتراحات المقدمة لفتح مركز خاص في كركوك لإيواء هؤلاء الأطفال لم تثمر عن شيء، في ظل عزوف حكومة بغداد عن الموافقة على هذه المقترحات. تقول جوان "الأمر يحتاج الى صدور قانون، مثلما يحتاج فتح ملاذات لإيواء النساء اللاتي يتعرضن للتهديد بحاجة الى قرار، غير أن البرلمان لم يقم بأي خطوة بهذا الاتجاه."
أين يَكمُن الحلّ؟
أي طفل مرمي يتم العثور عليه يُنقَل للمستشفى لغرض اجراء الفحوصات. "اذا كان الطفل مريضاً أو مصاباً نقوم بمعالجته ونؤمن له الحليب والمستلزمات الأخرى، اذا ما قررت أية عائلة تبني الطفل فسنوفر لهم التسهيلات ونحيل القضية الى المحكمة"، يقول كريم ولي، المدير السابق لدائرة صحة كركوك.
وأضاف كريم ولي "في أغلب القضايا التي وردتنا، تبين ان الطفل مولود بطريقة غير شرعية وقد تخلت والدته عنه بعد الولادة"، وأوضح قائلاً "هناك حالات تم فيها ابقاء الطفل في المستشفى، ولكننا ننقلهم بعد عدة اشهر الى ملجأ الأيتام وتتم متابعتهم اسبوعياً من قبل لجاننا."
في الأسبوع الماضي (نهاية شهر آذار) تمت احالة طفلٍ لم يكمل العام الأول من عمره الى دار رعاية الأطفال المشردين، هذا الطفل كان قد وُجِدَ مرمياً في أحد احياء كركوك ووالداه مجهولا الهوية.
على اسماعيل، مدير دار رعاية الأطفال المشردين يناشد الحكومة للوقوف على هذه الحالات التي تتزايد يوما بعد يوم ويقول "قد نستطيع ايواءهم اذا فتحوا ثلاث غرف اضافية في الدوائر، ولكننا لا نستطيع ايواءه في هذه الظروف."
دار رعاية الأطفال المشردين تأوي الأطفال الذين فقدوا والديهم ولا يوجد من يتولى اعالتهم، أوان آباءهم وأمهاتهم على قيد الحياة ولكنهم عاجزون عن اعالتهم.
حالات رمي الرُضَّع في ازدياد ويجب ايجاد خطة لكيفية التعامل مع هذه الحالات
وقال علي "حالات رمي الرُضَّع في ازدياد ويجب ايجاد خطة لكيفية التعامل مع هذه الحالات."
(كركوك ناو) لم تتمكن من الحصول على احصائية رسمية بخصوص عدد الرُضَّع المرميين، الاّ أنه يتواجد حالياً أربعة أطفال مرميين من كركوك في دار الرعاية بالسليمانية، حسبما يقول عمر كولبي، المدير العام للرعاية والتنمية الاجتماعية في السليمانية.
وأكد عمر كولبي "في عموم اقليم كوردستان، يوجد دار واحدة فقط لرعاية الأطفال الرضع وهي تحت اشرافنا... الأطفال الأربعة كان قد مر على ولادتهم يوم أو عدة ايام حين جُلبوا هنا من كركوك، والدار مفتوحة لاستقبال أطفال آخرين."
يتواجد في بغداد دار مماثلة وقد نُقِلَ عدد من الأطفال اليها من كركوك.
أحد المعوقات الأخرى تتمثل في عدم سماح الحكومة العرقية بنقل هؤلاء الأطفال الى اقليم كوردستان، وبالأخص الى السليمانية، بدون علم ادارات المحافظات.
في هذا الصدد يرى نجم الدين نوري، مدير مكتب كركوك لبرنامج منظمة حماية الأطفال في كوردستان بأن الحل الأمثل هو أن تقوم الحكومة العراقية بإنشاء دار رعاية في المحافظات، أو أن توافق على نقل هؤلاء الأطفال الى الدار الموجودة في السليمانية.
"نحن على علم بحالات عديدة لرمي الأطفال الغير شرعيين، لا الحكومة ولا المنظمات لديها مكان خاص لإيوائهم."
مع ذلك، هناك عدد لا بأس به من الأطفال ممن تم تبنيهم من قبل العوائل التي لم تنجب اطفالاً، وذلك بقرار من القاضي، وقد سجلت عشرات العوائل أسماءها في محكمة كركوك لهذا الغرض.
وقال سجاد مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في كركوك "تقدمنا بمشروع لإيواء هؤلاء الأطفال الى بغداد، ولكننا نعاني من مشاكل مادية ولا نستطيع البدء بالمشروع حالياً بسبب تكاليفها، بالإضافة الى أن المشروع بحاجة الى المصادقة". وأضاف سجاد "نحن نفكر في مستقبل هؤلاء الأطفال وما يمكن أن يتعرضوا له حين يكبرون ويختلطون بالمجتمع، لذا فإننا اِن لم نأخذ هذه الحالات بنظر الاعتبار فسوف تكون حياة العشرات من الأطفال في خطر."
الاعتداءات الجنسية، الخيانة الزوجية والفقر، كما يقول المحامي سيد سيروان، هي من الأسباب الرئيسية وراء رمي الأطفال الرُضَّع في محافظة كركوك، وهو الآن يتعامل مع عدد من هذه القضايا حالياً.
بموجب قانون العقوبات العراقي، يعاقب اللذين يخلفون أطفالا غير شرعيين بالحبس والغرامة المالية، الاّ أن سيد سيروان يقول "المشكلة هي أنه لم يأتِ أحد حتى الآن لكي يقدم شكوى بهذا الخصوص، لأن الأطفال الغير شرعيين غير مقبولون في المجتمع ولهذا لا يتولى احد على عاتقه مهمة تقديم الشكوى."
كيف يتم تَبَنّي الأطفال؟
حسب قانون رعاية الأحداث وتعليمات واجراءات المحاكم، أي شخص يريد تَبَنّي طفل يجب عليه تقديم طلب الى الباحث الاجتماعي في محكمة الأحداث.
العوائل التي تقدمت بمثل هذا الطلب، ينبغي أن تتوافر فيها الشروط التي حددتها المحكمة، منها المكانة الاجتماعية للعائلة وسمعتها، قدرتها الاقتصادية، الحالة النفسية والعقلية للعائلة، وأن لا تكون للعائلة أطفال آخرون.
يقول آري أحمد، وهو محامي استشاري في محكمة كركوك "يقوم الباحث الاجتماعي في المحكمة بالتعاون مع لجنة خاصة بمتابعة الشروط الواجب توفرها في العائلة الراغبة بالتبني، وبعد توافر الشروط توضع العائلة على قائمة الانتظار."
لا تقرر المحكمة تقديم أي طفل مرمي يتم العثور عليه للعائلة المتبنية، ويضيف آري أحمد " هذه مسؤولية كبيرة وتحتاج الى التَريُّث فيها، لأن القاضي يَتَحسَّبُ لاحتمال أن تكون هناك شكوى، أوان يطالب بالطفل ذووه، لهذا يتم تأخير مثل هذه القضايا."
بموجب قانون رعاية الأحداث، وهب الطفل المرميّ من صلاحيات رئيس محكمة الأحداث فقط. يقول آري "المحكمة تقرر بخصوص الطفل، وتتصل بعد ذلك بالعائلة الراغبة بالتبني والتي سجلت اسمها من قبل."
وتنص المادة 40 من القانون عل ان محكمة الاحداث تصدر قرارها بالضم بصفة مؤقتة ولفترة تجريبية أمَدُها ستة أشهر يجوز تمديدها الى ستة أشهر أخرى وترسل المحكمة خلال هذه الفترة باحثا اجتماعيا الى دار الزوجين مرة واحدة في الاقل كل شهر للتحقق من رغبتهما في ضم الصغير ومن رعايتهما له ويقدم بذلك تقريرا مفصلا الى المحكمة.
"هناك حالات تم فيها الغاء الضمّ، وذلك بعد أن أشار تقرير الباحث الاجتماعي بأن الطفل لم يتلق التربية والعناية الجيدة، أو أنه تعرض للإساءة أو التعذيب، فيتم تسليمه الى اية مؤسسة اجتماعية معدة لهذا الغرض"، بحسب آري أحمد.
المشكلة التي تواجه هذه القضايا الآن، هي أنه في مقابل تزايد حالات رمي الرُضَّع هناك تزايد في طلبات التبني، غير أن قرارات المحكمة تأخذ وقتاً طويلاً، في حين لا توجد مؤسسات حكومية خاصة لايواء هؤلاء الأطفال لحين صدور قرار المحكمة.
ويقول آري أحمد "في الحقيقة، بالإمكان حسم اجراءات تبني طفل في غضون شهر واحد، ولكن هذه القضايا حساسة وتحتاج الى وقت... أولاً، لأنها مسؤولية كبيرة ويجب انتظار انتهاء تحقيقات الشرطة والمحكمة، وثانياً لأن المتضرر الأول من الاستعجال في الأمر سيكون الطفل، لذا لا ترغب المحكمة في اتخاذ قرار قد لا يكون في مصلحة الطفل."
هناك خطوات كثيرة يمكن اتخاذها لكي يفيق سيد سيروان من صدمته، الاّ أن الرُضّع المرميين في قارعة الطرق ليس بإمكانهم تحمل ظلم المجتمع والاجراءات العسيرة والمرهقة للمحاكم.