من جنة الإلهة عشتار إلى ركام..
قلعة تلعفر.. رمز إنساني يجمع أطياف المدينة  

نينوى، صورتان تبين حجم الدمار الذي تعرضت له قلعة تلعفر، العليا الصورة ملتقطعة عام 2009، وسفلى القلعة بعد تهديمها من قبل داعش والتقطت عام 2020، تصوير جعفر التلعفري

جعفر التلعفري - نينوى

 

"حين سمعتُ بخبر تفجير القلعة، كان ذلك صاعقةً أصابتني، كأن خبراً لا يمكنني تصديقه لأول وهلة، فقد جعل التنظيم القلعة مساحة خالية تماماً" بحسرةٍ وألم يقولها أمين عمر حيدر مدير أثار تلعفر، متحدثاً عن قلعة تلعفر الأثرية التي فجّرها تنظيم الدولة (داعش) نهاية عام 2014.

ويضيف حيدر، في حديث لـ(كركوك ناو) أن "تدمير القلعة كان جزءاً من استهداف معالم نينوى، حيث دمرّ التنظيم مرقد النبي يونس وباب نركال بالموصل وأثار النمرود والحضر وغيرها.. داعش ارتكب هذه الفعلة ضمن سلسة استهدافه للحضارات العريقة وتدميرها".

ولفت إلى أن "القلعة كانت تخلو من مقتنيات أثرية، حين تفجير التنظيم لها، حيث تمّ إرسال جميع القطع الأثرية إلى بغداد، زمن النظام السابق، بناءً على طلب السلطات المختصة آنذاك".

ويتابع "القلعة مرت بمراحل توسيع عديدة، في فترات مختلفة، كما تعرضت -بالمقابل- إلى عدة هجمات عبر التاريخ، أخرها ما أقدم عليه تنظيم داعش حيث دمرّ القلعة بالكامل، وجميع المباني التي كانت عليها، وكانت تعدّ مبانٍ تراثية، يرجع تاريخ أحدثها إلى ثلاثينيات القرن الماضي".

القلعة تعرضت للهدم مرات عديدة

تعرضت القلعة للهدم عدة مرات، بينها عام 1841 على يد والي بغداد إثر ثورة قام بها أهالي المدينة ضده. وكان محمد باشا اينجه بيرقدار قد احتل القلعة في هذه السنة وأمر بهدمها وجعلها قاعاً صفصفاً، وفعلاً تمَّ هدم جميع الأسوار والقِلاع التي تحيط بالقلعة، ولكن مع ذلك لم يحدث ضرراً بالغاً بالقلعة لحصانتها ومتانتها.

والثانية عام 1920، حيث هُدمت أسوارها ونقض بابها الرئيسي على يد الإنكليز. وكان هدفهم من رفع باب القلعة الرئيسي هو تمهيد الطريق لصعود سياراتهم على القلعة ووضعوا هذا الباب الأثري على الوادي الذي يجري فيه ماء العين لاستعماله كجسر صغير تعبر منه المارة.

عن أهمية القلعة يوضح مدير الآثار قائلاً "القلعة كان لها أهمية جغرافية لوقوعها على طريق القوافل بين العراق والشام، كما أنها كانت تقع على رابية مرتفعة ما كان يؤهلها للسيطرة على عموم مناطق الجزيرة، إلى جانب أنها كانت تقع على عين ماء، تساهم بإرواء مناطق واسعة من جنوب المدينة حيث بساتين تلعفر التي تشتهر بإنتاج التين والرمان، إلى جانب الحنطة والشعير".

القلعة من المعالم المهمة في أثار العراق منها انطلقت الشرارة الأولى لثورة العشرين ضد الانكليز

ويؤكد أن "القلعة من المعالم المهمة في أثار العراق، منها انطلقت الشرارة الأولى لثورة العشرين ضد الانكليز، بالإضافة إلى أنها رمز إنساني يوحد أطياف تلعفر، وطالما أنشد لها الشعراء وتغنّى بها الفنانين".

ووقعت تلعفر تحت سيطرة تنظيم داعش في حزيران 2014، واضطر أغلب سكانها البالغ عددهم نحو 225 ألف نسمة إلى النزوح عنها، إلى محافظات الوسط والجنوب وإقليم كردستان وكركوك وتركيا، قبل أن يعاود نحو 45% منهم العودة إليها مجدداً بعد استعادتها من التنظيم في أب 2017.

تاريخ القلعة يعود إلى العصر الاشوري

عن تاريخ بناء القلعة يشير الباحث علي عبد الأمير أن أهمية تلعفر ازدادت في فترة الألف الأول قبل الميلاد وذلك في عصر الملك الآشوري تكلابلاصر الثالث (741-725 ق.م) وفي هذا العهد نمت وتوسعت المدينة وبُنيت قلعتها الأثرية وعُرفت المدينة باسم (نمت عشتار) وتعني (مزرعة الآلهة عشتار) أو (جنة الآلهة عشتار)، فيما جدد الرومان بناية القلعة وحكموا أسوارها.

كما جدد الخليفة مروان بن محمد الثاني آخر خلفاء الأمويين والذي كان والياً على منطقة الجزيرة بناء القلعة وسميت بـ(قلعة مروان) حتى ظنَّ البعض أن القلعة بنيت في العصر الأموي، وكان مروان قد تولى الولاية على هذه المنطقة سنة 102هـ / 720م.

ويضيف عبد الأمير "تقع القلعة في منتصف المدينة على عين ماء تلعفر (صوباشي)، التي تتصل بالقلعة عن طريق الباب السري بنفق يصل بينهما".

ويكشف أن مساحة القلعة 28 ألف متر، وكانت محاطة بأسوار رئيسية وثانوية الرئيسي منها عرضه 3,30 متر وارتفاعه زهاء 6 أمتار، وهذه الأسوار كانت مشيدة من جص خالص وأحجار بصورة متقنة كل الإتقان وفي أركان السور الرئيسي كانت ترتفع أربعة أبراج تسمى (أبراج الزوايا) وبين هذه الأبراج الكبيرة أبراج ثانوية.

كانت هذه الأبراج تضم قلاعاً كبيرةً تسع كل واحدة منها 300 محارب على أقل تقدير وكل واحدة منها ثلاثة طوابق وفيها جيوب وثقوب لرؤية العدو والسيطرة عليه.

ويذكر عبد الأمير أنه في هذه القلعة التي كانت ترتفع عن سطح الأرض 25 متراً، فتحات ومزاغل للرمي وثقوب لصب المياه الحارة والنفوط وشرفات، وبين كل شرفة وأخرى فراغ قياسه 40,25 سم ويستخدم للرمي.

وكانت للقلعة أبواب أربعة هي باب الماء (الباب السري ـ الشرقي) وباب سنجار (الباب الرئيسي ـ الجنوبي) وباب نصيبين (الباب الغربي) وباب الموصل (الباب الشمالي).

 وقبل 2014، ونتيجة للأوضاع الأمنية المتدهورة التي كانت تشهدها تلعفر، جُعلت من القلعة مجمعاً للدوائر الحكومية، حيث كانت تضم قائممقامية القضاء، ومجلسه المحلي، ومقر قوة حماية تلعفر (الجيش العراقي) ومديرية الشرطة، والنجدة، والمحكمة، وقسم مكافحة الإرهاب، ومبنى التلفزيون المحلي التابع لشبكة الإعلام العراقي (شبه حكومي).

وأهالي تلعفر، حسب المؤرخ حميد المطبعي "يجمعون على أن مجد الأجداد قد انصهر جميعه في القلعة، هذا النصب التاريخي الذي روته الدماء والقصائد وأغنيات الفرسان، كان الميزة الوجدانية الوحيدة التي تذكر الأجيال الجديدة بقيمة أن يكون الوطن وثيقة ودماء وإنهم اليوم ينحنون أمام هذه الوثيقة".

وأضاف ان هذه القلعة تنقل إلى الأجيال بالتوارث أو بسليقة الأقدار دروساً لا يمكن أن تنسى، دروساً تعلم العز وتعلم منطق القوة والحكمة، تعلمهم جميعاً أن القلعة لم تصب في هيكل من الجص الأبيض أو تزخرف بالحلان أو المرمر السنجابي من أجل أن تكون برج مراقبة لطرد لصوص الأسوار الآشورية وإنما القلعة موطن أنساب وحرمات ولهذه الأنساب والحرمات تواريخ مشتركة في أنهر بابل وأودية آشور.

وتقع تلعفر، ذات الأغلبية السكانية التركمانية، شمال غرب مدينة الموصل، بنحو 70 كم، وتعرضت بعد العام 2004 إلى عمليات عنف متواصلة خلفت ألاف الشهداء والجرحى، ودمرت ألاف المنازل والمتاجر، في مناطق القضاء المختلفة.

دعوات لحمايتها

"كلّ الجهات المحلية والدولية المعنية، مدعوة للسعي بجدية في إعادة اعمار هذه القلعة وفق الطراز التاريخي الخاص بها، وربما هي المعلَم الأبرز الذي يجمع ويوحد أطياف تلعفر، لذا يمكننا أن نعدَها بوابة المصالحة المجتمعية التي تتحدث عنها المنظمات والمؤسسات المختلفة"، يقول الناشط عمر سالم.

ويضيف "هذه دعوة لليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) لإعادة الروح لتلعفر عبر اعمار هذه القلعة العريقة".

ويرثي الشاعر التركماني محمد مشو اوغلو، قلعة بلدته فيقول "لا ينام ليله مَن يبصر ركام قلعتنا"، وفي مقطع أخر يغرّد بالقول "الطريق إلى القلعة يشبه الطريق إلى الجنة"، ليدعو في ختام قصيدته مخاطباً القلعة "أجمعي الناس، وارسمي الفرحة على مُحيّاهم، وعيشي في الهيبة التي عهدناكِ بها..".

"القلعة كانت تستقبل وفود سياحية وعلمية حتى من خارج البلاد، فقد جاءتنا يوماً قبل أحداث 2014، وفود من ايطاليا وألمانيا وبلغاريا.. نتأمل أن تكون الأجواء مؤاتية للحكومة العراقية في إعادة اعمار هذا الإرث التاريخي العريق".. هذا كلّ ما يتمناه مدير أثار تلعفر، تجاه قلعة مدينته الأثرية.

  • FB
  • Instagram
  • Twitter
  • YT