"كانت هذه البساتين تنتج أنواع مختلفة ونادرة من الفواكه والخضراوات، لا سيما التين والزيتون والرمان والتوت والعنب والباذلجان الأخضر، وكانت عوائل كثيرة تعتمد في دخلها على ما تدّرها هذه البساتين من انتاج،الا أنها الآن تعاني من الاهمال، وتحتاج رعاية ودعماً من المؤسسات الزراعية المعنية والمنظمات المختصة بهذا الجانب، قبل أن تتحول من مساحات خضراء إلى صحراء ميتة"، هكذا يعبر عبدالرزاق ورقة، أحد أصحاب البساتين عن مخاوفه.
ويقول ورقة، 56 عاماً، في حديثه لـ(كركوك ناو) ان "بساتين تلعفر واسعة تبدأ من منطقة صوباشي ثم دشيري عند جامع الجلبي ثم حماد آغا كولى قرب القصابخانة ثم برجة باغ فقنه التي تنتهي الى بساتين السادة والفرج وعلي كله وملا وبيرم ثم إلى حيو كولى ففطو كولى، وفي اغلب هذه الأماكن كانت هناك سابقاً مطاحن مائية".
ويواصل حديثه قائلاً "من الأصناف النادرة للتين التي تنتجها بساتين تلعفر: أحمد قره، آغ آغاج، قزلر آغاج، بيس قره، يصي آغاج، آوزون آوزون، ديرى، إسلام آغاجى ، قاسبى قره، أما بالنسبة للأصناف النادرة للرمان في هذه البساتين فمنها: قرخسان، طوخمسس، شرن نآر، ديوى دشى، قاطر باشى، قزل بوين".
ويؤكد أن "المزراعين ليس لديهم الامكانيات الكافية لاعادة الحياة إلى مزارعهم، والبعض منهم ترك مزرعته وتوجه إلى العمل في مجالات أخرى لاعالة عوائلهم".
ويقع تلعفر، الذي يسكنه نحو 450 الف نسمة، موزعة على مركز المدينة ونواحٍ ثلاث، على بُعد 69 كم شمال غرب الموصل، وجميع سكان مركزها من القومية التركمانية، فيما ينتشر العرب والكورد في بعض النواحي والقرى التابعة له، مثل ربيعة، وزمار، والعياضية.
من جانبه يوضح المهندس جاسم محمد يونس، مدير ري تلعفر السابق، أن "مناخ تلعفر بارد شتاءً، وحار صيفاً، ومعتدل في فصلي الربيع والخريف، وتتأثر المدينة بالرياح الغربية القادمة من البحر المتوسط، وهي رياح رطبة باردة نسبياً شتاءً، أما في الصيف فالجفاف هو السائد، وطبيعة الأرض سهلة منبسطة في القسم الجنوبي، ومتموجة في القسم الشمالي يتخللها بعض التلال".
ويوضح خلال حديثه، لـ (كركوك ناو)، انه "بسبب خصوبة التربة وملائمة المناخ وتوافر الأمطار الشتوية والربيعية، (معدلات سقوط الأمطار تتراوح بين 150-250 ملم في القسم العلوي من تلعفر ولا تزيد على 150 ملم في القسم الجنوبي، أما في منطقة الجزيرة فتتراوح كمية الأمطار الساقطة بين 300-400 ملم سنويا)، تغلب على مجتمع تلعفر منذ القِدم صفة المجتمع الزراعي وتطبع بأفكار القرية الزراعية".
وبعد تحرير تلعفر من سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش"، في أب 2017، عاد نحو 60% من النازحين التركمان إلى مدينتهم بينما ينتشر الاخرون، الذين فضّلوا عدم العودة، في عددٍ من المحافظات الجنوبية والوسطى، لا سيما النجف وكربلاء وبابل، إلى جانب إقليم كوردستان، وكركوك وتركيا.
ويضيف يونس أن "معظم أراضي تلعفر صالحة للزراعة، لذا فقد احترف أهلها الزراعة، والمدينة تزرع شتى أنواع المحاصيل لا سيما الحبوب كالحنطة والشعير التي تعتمد على الأمطار (زراعة ديمية)؛ إضافة إلى زراعة القطن والرقي والبطيخ في أجزائها الغربية إلا أنها تشتهر بالتين والرمان والزيتون، فقد كانت فيها حسب إحصائية مديرية زراعة محافظة نينوى قبل احتلال داعش نحو 100 ألف شجرة تين و 70 ألف شجرة رمان، تعتمد على مياه عين ماء تلعفر (صوباشي)".
ويشير إلى أن "عين ماء تلعفر تنبع من أسفل القلعة، بتصريف قدره (1م3 / ثا) تروي ما مساحته 500 دونم من أشجار الفاكهة التي تشكل بساتين تلعفر، بالإضافة إلى مساحات لا يستهان بها من الخضراوات صيفاً ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، التي تزرع بالمحاصيل الإستراتيجية شتاءً، حيث يتم تخصيص مياه هذه العين لسقي البساتين والخضراوات للفترة من 18-5 إلى 18-10 صيفاً، ومن ثم تخصص لسقي المزروعات الشتوية (الحنطة والشعير) وبعض الخضراوات الشتوية للفترة من 19-10 إلى 17-5 من السنة التي تليها حسب العرف السائد في المنطقة".
لى جانب الاهمية الاقتصادية لهذه البساتين، فهي ثروة سياحية ينبغي الحفاظ عليها، وتساهم في الحد من التصحر وتلوث البيئة ومواجهة العواصف الترابية
بدوره أفاد رشيد عبدالقادر، مؤرخ تركماني، أن "تاريخ البساتين في تلعفر يعود الى الآف السنين، يوم كانت وقفاً للالهة عشتار معبودة الآشوريين وتمتد على مساحات خضراء واسعة الى الجنوب من مركز القضاء اذ تغطي قرابة خمسمائة دونم من الاراضي الخصبة مزروعة بأجود الانواع من اشجار التين والرمان التي تشتهر بها تلعفر".
ويوضح لـ(كركوك ناو) أن "البساتين هي ملك صرف لسكان تلعفر وبالسند الخاقاني (قره ققان) المسجل في دوائر الطابو العثمانية، حيث تسقى البساتين ومنذ القدم من مياه عين تلعفر (صوباشى)، ويعتمد نظام الإرواء على توزيع البساتين الى مقاطعات (بولگه) وتروى حسب جدول زمني دقيق وبصورة دورية كل اسبوع بحيث ان كل بستان يسقى اربع مرات في الشهر، ويقاس حجم ومساحة البستان اعتماداً عدد المشارات (مفردها مشارة)، وكلمة (مشارة) مصطلح تركماني اصيل وهي مجموعة من أشجار التين والرمان والتوت ما بين (15 - 30) شجرة حسب كبر المشارة او صغرها".
"الى جانب الاهمية الاقتصادية لهذه البساتين، فهي ثروة سياحية ينبغي الحفاظ عليها، وتساهم في الحد من التصحر وتلوث البيئة ومواجهة العواصف الترابية، كما أنها من معالم المدينة البارزة، وتعد من الأماكن الحيوية التي كانت من تجمع السكان بمختلف أطيافهم، حيث الألعاب الشعبية والتراثية التي يزاولونها فيها، والفتيان يسبحون في تجمعات مياهها، وتيبادل الكبار أطراف الأحاديث والقصص القديمة تحت ظلال الأشجار الباسقة وخرير المياه وزقزقة العصافير" بحسب المختص بالشأن الزراعي، محمد علي.
ويرى علي في حديثه لـ(كركو ناو) أن "أجواء البساتين تفتح النفس وتريحها حيث تعد مصدراً للجمال والهدوء، الا أنها تعرضت للكثير من الدمار بعد 2014 وتحتاج إلى مد يد الاعمار والحياة اليها لتكون كما كانت بل بالامكان أن تكون مرفقاً سياحياً يقصده الناس من خارج المدينة".
وتسعى الادارة المحلية في تلعفر بالتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في القضاء إلى اعادة اعمار البنى التحتية وتقديم الدعم اللازم للسكان بغية تشجيع النازحين للعودة إلى منازلهم، وتشهد دوائر وأسواق تلعفر وعياداتها الطبية، توافداً واضحاً لسكان أقضية سنجار والبعاج.
"هذه البساتين تعرضت إلى الجرف والحرق والتخريب من قِبل عناصر تنظيم داعش الارهابي، كما أن التنظيم استخدمها ملجأ له خلال عمليات التحرير ما جعلها هدفاً للغارات الجوية، وكل ذلك خلّف أضراراً كبيرة فيها.. نتأمل أن تعود تلك الأيام التي كانت العوائل تقصدها للسياحة من مختلف المدن ويعود أطفالنا للعب على باحاتها الخضراء" يقول عبدالرزاق.