لا يزال حسين جلود مكتسياً بالسواد حزناً على ابنه المتوفي، يداه كانت ترتجفان أثناء عرضه صور تظهر الغازات السامة المنبعثة من حقل الرميلة النفطي وهي تنتشر في سماء المنطقة.
مع تسليط الضوء على مشاهد الأدخنة المصاحبة لإنتاج النفط في البصرة، يمسك حسين بصورة ابنه ويقول "هذا النفط والغازات المنبعثة منه سلبت مني ابني"، وذلك أمام عدد من المشاركين في قمة تغير المناخ (COP28) المنعقدة في دبي.
علي حسين جلود توفي قبل أشهر في سن الـ21 جراء إصابته بسرطان الدم. يبعد منزل حسين الذي يعيش فيه مع زوجته وأحد أبنائه ألفين وخمسمائة متر فقط عن حقل الرميلة النفطي.
"السبب الرئيسي لإصابة علي وكثيرين غيره في منطقتنا بالسرطان هو الغاز المحروق الذي ينبعث من حقل الرميلة ويؤدي الى تلوث الهواء"، حسبما سمع حسين جلود من الأطباء الذين كانوا يعالجون ابنه.
نسبة انبعاث الغازات السامة من حقل الرميلة يعادل ثلاثة أضعاف أي حقل آخر في العالم
يعدّ حقل الرميلة أكبر حقل نفط في العراق من حيث الإنتاج وثاني أكبر حقول النفط في العالم، إذ تبلغ مساحته الجغرافية أكثر من 1600 كيلومتر مربع، ويقع غربي محافظة البصرة جنوبي العراق. تبلغ الطاقة الانتاجية للرميلة 1.5 مليون برميل نفط يومياً ويشكل حوالي ثلث كمية النفط الذي ينتجه ويصدره العراق يومياً.
في شهر تشرين الثاني 2023، تم تصدير قرابة 102 مليون برميل من النفط الخام من الحقول النفطية في البصرة فقط، بحسب آخر احصائية لوزارة النفط.
قناة بي بي سي البريطانية نشرت في تقرير وثائقي أن "نسبة انبعاث الغازات السامة من حقل الرميلة يعادل ثلاثة أضعاف أي حقل آخر في العالم".
يعيش قسم من مجتمعات البصرة بجوار الحقل النفطي، وقد أصيب العديد منهم بالسرطان بسبب استنشاق الغازات السامة المصاحبة لإنتاج النفط، وقضى بعضهم نتيجة لذلك، بينهم علي.
علي حسين جلود أصيب بسرطان الدم (اللوكيميا) في سن الـ17 وعانى من آلام ومضاعفات المرض طوال أربع سنوات، وقال والد علي لـ(كركوك ناو) "نفط وغاز الرميلة بالنسبة لنا ليس أكثر من سرطان، لأن الحالة المادية لسكان المنطقة متردية، وحين يصابون بالسرطان ليس لديهم المال اللازم لتلقي العلاج".
بحسب حسين، فإنهم يعالجون مرضاهم في مستشفيات خاصة وعلى نفقتهم الخاصة، ويقول إن ابنه تلقى 12 جلسة علاجية خلال أربع سنوات كلفت الواحدة منها أكثر من مليون دينار.
في محافظة البصرة (عدد سكانها أكثر من ثلاثة ملايين و200 ألف نسمة)، تسجل سنوياً أكثر من ألفي حالة إصابة بالسرطان بسبب الغاز المحروق المصاحب لإنتاج النفط، وفقاً لإحصائية دائرة حماية البيئة في المنطقة الجنوبية، نشرتها هذا العام وكالة الانباء العراقية.
قصة علي أصبحت جزءاً من تقرير استقصائي لقناة بي بي سي البريطانية بعنوان (تحت سماء مسمومة)، يحقق في أسباب التلوث السام في سماء العراق والمخاطر المترتبة عن الغازات المصاحبة لإنتاج النفط، والتي تؤثر على صحة وسلامة ليس فقط السكان المقيمين بجوار الحقل النفطي بل على ملايين آخرين يعيشون في مناطق تبعد عشرات الكيلومترات.
استغرق انتاج التحقيق سنتين وستة أشهر من قبل فريق من القناة بمساعدة ومشاركة عدد من الصحفيين العراقيين.
لن أنسى أبداً تلك الليلة التي توفي فيها ابني بسبب السرطان، قبل ساعات من وفاته قال: أبي حلمت بمكان جميل جداً
أوين بينيل، الصحفي في قناة البي بي سي ومعد التقرير الاستقصائي قال لـ(كركوك ناو) "الأوضاع على أرض الواقع كانت أسوء من الذي كنت أشاهده على شاشة الموبايل، يمكنني القول بأن ما رأيته سابقاً وما شهدته كانا شيئين مختلفين جداً".
ويرى أوين أن هناك مزيد من القصص المشابهة في الرميلة يجب الكشف عنها، "هذا الحقل يدر بأموال كثيرة على العراق، لكن في الوقت نفسه يجلب العديد من المشاكل للسكان المقيمين في الجوار"، وقال أوين إن أكبر تحدي واجههم خلال إعداد التحقيق كان العثور على الجهة المسؤولة عما يحدث في الرميلة، "الشركات النفطية تلقي اللوم على الحكومة والحكومة تلوم الشركات، في الأخير توصلنا الى أن ما يحدث هو نتاج للطريقة التي يعمل بها الكل".
وفقاً لتقرير البنك الدولي، يأتي العراق في المرتبة الثانية عالمياً من حيث حرق الغازات المصاحبة لإنتاج النفط بنسبة تتجاوز 16 مليار متر مكعب سنوياً، نتيجة لذلك يتم ضخ أكثر من 400 طن من ثاني أوكسيد الكربون في الهواء. وانضم العراق في 2017 إلى مبادرة عالمية أطلقها البنك الدولي تقضي بوقف حرق الغاز بحلول عام 2030.
يموت في العالم سنوياً ثلاثة ملايين و500 ألف شخص بسبب تأثيرات الغازات السامة التي تلوث الهواء، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية (WHO).
تحقيق البي بي سي كان وراء انتاج وثائقي آخر باسم (بلا نَفَس- Breathless)، عرضته شبكة العمل من أجل المناخ في إطار فعاليات كوب 28 بدبي، تناول الآثار المضرة للغازات السامة المنبعثة من حقل الرميلة على صحة وسلامة سكان الكويت.
رافعاً صورة ابنه والبكاء يعتريه قال والد علي للحاضرين في فعالية عرض الوثائقي، "لن أنسى أبداً تلك الليلة التي توفي فيها ابني بسبب السرطان، قبل ساعات من وفاته قال: أبي حلمت بمكان جميل جداً. ابني كان يحب كرة القدم والرياضة، لكن حلمه لم يتحقق".
وقال حسين جلود لـ(كركوك ناو)، "جئت هنا لإيصال الصورة الحقيقية وما نعانيه نحن المقيمون بجوار حقل الرميلة، أريد أن أقول للعالم إن الوقت حان لإنقاذنا من هذا النفط والغاز"، وأشار الى أن عشرات آخرين في المنطقة اصيبوا بالسرطان بسبب الظروف البيئية، وقد يموتون في سن مبكرة مثلما حدث لابنه علي.
وفقاً لدراسة للبرلمان العراقي حول انتشار السرطان في الفترة بين 2003 و 2020، جاءت محافظة البصرة مع السليمانية ثالثاً من حيث عدد الاصابات المسجلة في 2020، وشددت الدراسة على أن هناك سببان رئيسيان لازدياد حالات الاصابة بالسرطان في العراق، أحدهما يتعلق بتلوث البيئة بسبب حرق الغازات المصاحبة لإنتاج النفط.
وقال أحمد الدروبي، الناشط في شبكة العمل من أجل المناخ إن الكثير من الدول تقول: لدينا الحق في أن ننمو ونزدهر، ومن أجل ذلك نحتاج لاستخراج النفط، لكن ما نراه في نهاية القصة هو أن ثروات الحقول النفطية تذهب لجيوب فئة معينة وليست للمواطنين".
شبكة العمل من أجل المناخ، شبكة دولية تضم أكثر من ألف و300 منظمة غير حكومية تعمل في 130 دولة من أجل تقليل آثار تغير المناخ، وفي النسخة السابقة من قمة المناخ التي أقيمت في مصر (كوب 27)، عرضت الشبكة وثائقياً حول قصة علي حسين جلود حينما كان لا يزال على قيد الحياة".
"حينها تحدث والد علي عن الجريمة التي ترتكبها الشركات بحق البيئة والصحة العامة... نريد من خلال عرض هذا الانتاج إدانة تلك الجريمة"، بحسب الدروبي.
منتصف العام الحالي، أطلقت وزارة النفط العراقية المرحلة الأولى من مشروع لاستثمار الغاز المصاحب لإنتاج النفط واستغلاله في مجالات مختلفة، وكذلك وقف انتشار 10 ملايين طن من غاز ثاني أوكسيد الكربون في الهواء.
ملاحظة: هذا التقرير جزء من نتاجات مؤسسة (كركوك ناو) في إطار زمالة (الشراكة الاعلامية الخاصة بتغير المناخ CCMP. هذه الزمالة تدار بصورة مشتركة من قبل شبكة صحافة الأرض ومركز ستانلي الأمريكي.