"التسريب مقصود ومدروس في نفس الوقت"، وجهة نظر طرحها زياد العجيلي مدير مرصد الحريات الصحفية في العراق، الذي يرى أنها تصب في صالح رئيس الحكومة والجهات ذات العلاقة.
بعد العام 2003 بدأ تسريب الوثائق والكتب الرسمية من مكاتب الوزارات لتصبح بين أيدي العامة، وبحسب خبراء فإن التسريب بات سلاحاً للتسقيط السياسي، ويرى صحفيون أن التعاطي مع التسريب أمر مشروع إذا كان يكشف معلومات تهم المصلحة العامة، مع الخوف من تسريبات مزورة لقاء مبالغ مالية أو مصالح شخصية.
ومع كل تسريب، تفتح السلطات العراقية تحقيقاً لكشف المتورطين دون الوصول إلى نتائج فعلية أو وضع حد لهذه الظاهرة التي تهدد الأمن وتعد من أساليب الحرب الباردة، كما تعكس بصورة جلية، مبدأ غياب الدولة، وفقاً لخبراء قانونيين.
ووصل الأمر إلى تسريب كتاب صادر عن رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، يتضمن توجيهاً بمنع تسريب الوثائق الرسمية، ما فتح الباب على مصراعيه للتساؤل عن أسباب استفحال ظاهرة تسريب كتب حكومية تتسم بالسرية، بعضها استخباراتية، وأخرى إدارية.
تسريب الوثائق أمر جائز ما دام الهدف الكشف عن شيء يضر الناس
ضمن هذا الإطار، يقول الباحث في الشأن السياسي والأمني، مخلد حازم، إن تسريب الوثائق بات تقليداً يتفاخر به الوزراء، لإظهار السطوة، وهو نتيجة لبناء مؤسسات الدولة على أساس غير مهني سيما بعد 2003، إذ أمست دائرة العمل للمسؤولين، من المقربين منهم بغض النظر عن الكفاءة، ما يعني وجود أشخاص لا يملكون المعرفة والدراية بخطورة عملية التسريب، كما أن نظام المحاصصة الموجود يفرض أسماء وكلاء على الوزراء، ذوي انتماء يختلف عن مكان عملهم، ما يخلق تضارب يؤدي في النهاية إلى تسهيل عملية التسريب.
ويتحدث حازم، عن إهمال الوثائق الآن خلافاً للعهد السابق، إذ كانت تختم الكتب بالشمع الأحمر، فيما اليوم مرمية على المكاتب، مشيراً إلى أن العملية مضاربة سياسية باقية، طالما تقسيم المناصب وفق المحاصصة مستمر، ولن يسيطر عليها.
التسريب حق في الاستقصاء
يقول الصحفي سامان نوح، إن الصحفيين الاستقصائيين يعتقدون أن من حقهم الوصول إلى الوثائق بالطرق المختلفة، ولو بصيغة مخالفة للقوانين المتعلقة بالحكومات، إذا كان ذلك يخدم المصلحة العامة، مشيراً إلى أن تسريب الوثائق أمر جائز ما دام الهدف الكشف عن شيء يضر الناس، منوهاً إلى أن ذلك حق مكفول دستورياً، سيما أن الدستور يضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار.
لكن نوح، أشار إلى جزئيتين تمنعان الصحافة التلقيدية من التعاطي مع الوثائق المسربة، الأولى؛ تعرُّض الموظف والصحفي للمساءلة القانونية، خاصة إذا كان البحث عن وثائق تتعلق بالاقتصاد أو الأمن القومي، عندها سيتجاوز الصحفي القانون للحصول على وثائق ترى الحكومات أنها تضر بمصالحها.
أما الثانية، أن الموظفين قد يعملون على تسريب وثائق مقابل مبالغ مالية، بالتالي يمكن أن تُنشر كتب غير صحيحة أو مزورة، ولأسباب لا تتعلق بالمصلحة العامة وهذا مقلق بالنسبة للصحفيين بحسب تعبيره.
في السياق ذاته، أشار نوح إلى إن معظم التسريبات الحاصلة بعد 2003 هي عبار عن صراع بين أحزاب ولا تستهدف المصلحة العامة أو خلق رأي عام تجاه حالة معينة، وبسبب ضعف التأثير الإعلامي على النخب السياسية جراء نظام المحاصصة، فإن الإعلام لا يلعب دوراً محورياً في تحريك مسارات اتخاذ القرارات، إذ يوجد معلومات تسربت سابقاً إلى الإعلام، لكن قيمة المعلومة مفقودة، في ظل غياب المتابعة والمحاسبة للمعنيين.
كما أكد على حق الصحفي، بالوصول للتسريبات والتعامل معها وفق الأسس المهنية كالموضوعية، في ظل غياب قانون واضح يدعم الحصول على المعلومة، إلى جانب توجيهات للموظفين بعدم الإدلاء بالمعلومات.
عن سابق قصد
يطرح زياد العجيلي مدير مرصد الحريات الصحفية، منظوراً مغايراً للتسريب، إذ يقول إن "غالبية التسريبات اليوم لا تحتوي معلومات تمس الأمن الوطني، بل تصب في صالح رئيس الحكومة، لأنها عبارة عن رسائل مفادها أنه يتابع ويوبخ ويجتهد في عمله"، مشيراً إلى أن "التسريب مقصود ومدروس في نفس الوقت".
ويردف العجيلي أن إصدار قوانين تتعلق بتداول المعلومات لن يؤثر على الصحفيين لأن الوثائق تُنشر على الواتساب والفيسبوك ولا يذهب إليها الصحفي، فيما نوّه إلى أن أزمة صحفيي العراق ليست بالكتب الإدارية المسربة، بل بعدم امتلاكهم لمعلومات عن الموازنة، وصادرات النفط، وحتى مزاد العملة.
ويحصل تسريب الوثائق عند غياب مفهوم الدولة، وما يجري هو لتسقيط الخصوم، وفقاً للعجيلي الذي يؤكد على استمرار الوضع طالما التعامل بالنظام الورقي المتداول في اليد، وأن الحكومة ستحاول وضع ضوابط للموظفين وليس للصحفيين.
إجراءات سرية
ويقول مدير العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية، اللواء خالد المحنا، إن "الوثائق والكتب الرسمية تمر بسلسلة من المكاتب والموظفين، بالتالي يصعب ضبطها أو السيطرة عليها"، مشيراً إلى محاسبة عدة ضباط ومنتسبين بسبب تسريبهم بعض الوثائق وتسهيلهم للعملية.
الحبس لمدة تصل إلى سنة في حال باح الموظف بمعلومات عن حياة الأفراد الشخصية أو معلومات حكومية
وتحدث المحنا عن تجهيز المنظومة الأمنية لإجراءات فنية جديدة، الغرض منها حصر عملية تبادل البيانات ونقل المعلومات، إلى جانب كشف الأشخاص الذين يقومون بعملية التسريب، لكنه رفض توضيح ماهية هذه العملية.
من جهته يؤكد الخبير القانوني أحمد العبادي أن "تسريب وثيقة حكومية يعد جرماً جنائياً، بغض النظر عن محتوى الوثيقة، والمادة 438 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1996 المعدل، نصت على عقوبة الحبس لمدة تصل إلى سنة في حال باح الموظف بمعلومات عن حياة الأفراد الشخصية أو معلومات حكومية"، وتصل إلى الإعدام في قانون العقوبات العسكري.
وفي هذا السياق، صوت البرلمان العراقي عام 2016 على القانون رقم (37) "للحفاظ على الوثائق"، بهدف حماية أوراق الدولة المهمة، وصنف القانون الوثائق إلى 3 مستويات:
- الوثائق العامة التي يمكن للجميع الاطلاع عليها.
- الوثائق الخاصة التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا بموافقة الجهات المعنية.
- الوثائق السرية التي لا يمكن الاطلاع عليها نهائياً بسبب مساسها بأمن الدولة.
ونوّه العبادي إلى أن العبرة ليست بالقانون بل بتطبيقه، فالمحاسبة تكاد تكون غائبة ولا ترقى لدرجة الفعل.