"كنت اصنع باليوم الواحد من خمسة الى ستة كيلو من القيمر العراقي، اما اليوم فلا أنتج سوى كيلو واحد وان حالفني الحظ اظفر بكيلوين" تقول أم علي، وهي تفترش ارض باب أحد افران الصمون بمساحة متر واحد في قرية السادة.
علية جبارة المعروفة بـ ام علي (56 عاماً)، ترتدي عباءتها السوداء وعصبتها، تضع امامها صينتين واحدة فيها القيمر وأخرى الجبن محلي الصنع والمعروف شعبياً بـ " جبن العرب" وتغطيهما بصواني ايضاً للحفاظ على ما فيها من الغبار والذباب.
تستيقظ ابنة أم علي، فاطمة (20 عاماً)، في الثالثة ليلاً لتحضير القيمر. أما أم علي فتستيقظ قبل الفجر لتصلي ثم تتجه نحو سوق السادة في الخامسة صباحًا، حاملةً صينية القيمر على رأسها. "يبدأ العمال والموظفون بشراء القيمر والصمون الحار لهم أو لعوائلهم منذ ساعات الصباح المبكرة".
قرية السادة ومعدان وعدد من مناظق اخرى التابعة لناحية العبارة في بلدة بعقوبة، لطالما كانت رمزاً لجودة منتجات الاجبان والألبان على مدار عقود، قد تخلو من القيمر والجواميس.
تقول ام علي لـ(كركوك ناو)، إن "الوضع المأساوي بسبب ما اصابنا في السنوات الأخيرة من جفاف وارتفاع أسعار الأعلاف".
تعاني القرى من ظروف بيئية صعبة ناجمة عن التغيير المناخي وندرة المياه بسبب انخفاض منسوب نهر ديالى الذي كان ولا يزال عصب الحياة للقرى الواقعة على ضفافه.
"لن يستغرق الأمر طويلاً حتى تخلو القرية من جميع الجواميس" بهذه الكلمات يلخص راشد إبراهيم، مربي الماشية، التدهور المستمر لأوضاع مربي الماشية في قرية المعدان، "كان كل مزارع في قرية المعدان يمتلك ما بين خمسة عشر إلى أربعين رأس جاموس في السابق، أما الآن فلا تتجاوز رأسين أو ثلاثة بحوزة أحدهم".
راشد إبراهيم (٥٨ عاماً)، يرتدي قميصاً مخططاً وسروال ويلف على رأسه شماغ عربي، يتحدث بأسف بينما يقف مع حفيده حسين بين ما تبقى من جواميسه، بعدما اكمل اطعامهن يبدو على وجهه القلق من خسارتهن ايضاً وأضاف لــ (كركوك ناو) "انخفضت أعداد الماشية ومعها عدد سكان القرية، إذ يرحلون تدريجياً إلى أماكن أخرى بعدما هجروا أولاً أعمالهم المتوارثة منذ أجيال عديدة".
تشير الإحصائيات إلى تناقص كبير في أعداد الجواميس في ديالى، ما يهدد بقاء صناعة القيمر ومنتجات الألبان في المنطقة.
فاطمة أحمد (45 عامًا)، تعود من السوق في التاسعة صباحًا حاملةً صينية القيمر الفارغة، وبيدها كيس يحتوي على زيت طعام، رز، طماطم، وبطاطا. "هذا ما استطعت شراؤه بثمن القيمر الذي بعته اليوم. في أحيان كثيرة لا يكفي ما أبيعه لشراء كل احتياجات المنزل اليومية".
تعلمت فاطمة المهنة من عمتها منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وتتابع: "يساعدني زوجي وابني علي بتربية الجواميس وحلبها، إلا أن غلاء أسعار العلف وندرة المياه جعلت المهنة خاسرة. لم يتبق لدينا سوى جاموستين، وكلما ضاق الحال بعنا واحدة". سعر الطن الواحد من العلف 800 الف دينار ويحتاجون أكثر من طن شهرياً.
هنالك فرقاً شاسعاً يمكن ملاحظته بإعداد الجواميس والمواشي ما بين 2019 و 2024؛ حيث ان عدد الجواميس في مركز بعقوبة سنة 2019 بلغ 4325 بينما يبلغ عددها العام الحالي 1207 جاموسة، بحسب احصائية حصلت عليها (كركوك ناو) من قسم الثروة الحيوانية في دائرة زراعة ديالى.
"يعد هذا مؤشرًا خطراً يدل على تناقص كبير وتهديد لبقاء صناعة القيمر ومنتجات الحليب من البان واجبان في بعقوبة" يقول مدير اعلام زراعة ديالى، محمد المندلاوي لـ (كركوك ناو).
وتشير احصائية كذلك الحال بالنسبة للأبقار والمواشي فأن عدد الابقار سنة 2019 بلغ 27189 بينما الان عددها 7580.
أخشى ان يأتي يوماً لا أجد ما ابيعه لأطعم احفادي الأيتام
الحاجة أم رعد (59 عامًا) من ناحية خان بني سعد، التي بدأت ببيع القيمر منذ سن الرابعة عشرة، تقول "كنت اذهب مع عمتي لبيعه في بغداد، اخرج حاملة صينية القيمر فوق رأسي اما اليوم فأبسط ما أستطيع صنعه من القيمر والجبن هنا في سوق المفرق غرب بعقوبة بين المحلات".
تبيع كيلو القيمر بـ 16-20 الف دينار وكيلو الجبن بـ اربعة الاف دينار، تتراوح كمية البيع من ثلاث كيلو الى خمسة كيلو، اما الآن لا يصل ما تنتجه جواميس وتبيعه الى ٢ كيلو، "أخشى ان يأتي يوماً لا أجد ما ابيعه لأطعم احفادي الأيتام"، رغم التعب والجهد الذي تتبعه مزاولة هذه المهنة في سن كبير، الا أنها المعيلة الوحيدة لعائلته واحفاديها الايتام، "زوجي وابني شهيد ولم نحصل على راتب شهداء".
أعلنت وزارة الزراعة هذا العام، عن تقديم أعلاف مجانية لمربي الجاموس والمواشي في المحافظات الجنوبية، دون ذكر مناطق أخرى مثل محافظة ديالى.
أبو علي يتحدث عن جواميسهم مصدر معيشتهم وصديقات الصبا العزيزات، فيقول وهو يحلب بيديه "السمرة" اسم جاموسته " أتذكر عندما كنت شاباً ان العلف ينبت في الأرض بالفطرة وتأكل منه الجواميس وأسعار العلف التجاري كانت مدعومة من الحكومة وفي 2012 ايضاً عملت الحكومة على دعم أسعار العلف فكان سعر الطن 200 الف دينار عراقي".
"هذا حاله هزيل ويمرض بشكل متكرر فهو لا يأخذ كفايته من الماء ولا الطعام" يتابع كلامه مشيراً الى الجاموس.
حتى نهر ديالى أصبح ملوثًا وتصنف نوعيته بدرجة رديئة، حسب دراسة بيئية نشرتها موقع مجلس النواب في عام 2022.
تشكو فاطمة من عزوف ابنها علي عن مساعدتها برعي الجاموس وبأنه قرر ترك مهنة الأجداد واتجه للعمل في السوق حمالاً وهو العمل الوحيد الذي وجده.
اما الحاجة علية فتخشى ان يؤثر عليها ضغط ابنها وابنتها عليها بأن تبيع اخر ما تبقى لها من جاموساتها، "قال لي ابني بيعيهن ولنفتتح مشروع بسيط نسترزق منه أفضل من تعب القلب بمهنة تريد منا المال أكثر مما تمنحنا اياه وتوافقه اخته الرأي" وهي اجبتهم "انتظروا موتي وبعدها تصرفوا كما يحلو لكم اما الآن"، تقول ام علي، "لا الومهم فهم شباب يريدون ان يصنعوا مستقبلا أكثر اماناً وراحة".
بلغ مجموع عدد رؤوس الثروة الحيوانية في العراق أكثر من 20 مليون رأس، منها أكثر من 462 ألف رأس من الجاموس في جميع المحافظات، حيث جاءت بغداد في المركز الأول، حسب إحصائية وزارة الزراعة لعام 2023.
أشار إبراهيم إلى أن موجات الجفاف المتعاقبة تسببت بنفوق أعداد كبيرة من الماشية، مما اضطر مربيها إلى بيع القسم من المتبقي منها لتجنب الكارثة، "هذه الحيوانات ترعى داخل وعلى ضفاف الأنهار، ومع جفاف نهر ديالى وقلة المرعى، لا يمكن لها أن تعيش بعيداً عن المياه".
تأثرت ديالى كبقية مدن العراق بالتغير المناخي، لان البلاد من أكثر دول العالم تأثراً بتداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري، "العراق خامس دولة هشة ومتضررة من ناحية التغير المناخي، نحن اعددنا خطط واستراتيجيات لمواجهة تأثيرات التغير المناخي ولدينا متابعة لجميع المحافظات" بحسب الدكتور جاسم الفلاحي- وكيل وزير البيئة حسب ما صرح به للصحافية خلال مقابلة اجرت معا معدد التقرير معها ضمن فعاليات (COP28) لسنة 2023.
علية جبارة المعروفة بـ ام علي، تشير الى القيمر الموجود في صينتيها وتقول "قيمر قبل أين عن قيمر هذا الوقت، لن يعود قيمر أيام زمان من حيث الدسم وسمك قوامه وطعمه، سابقاً كان القيمر خالص اما الآن كله مغشوش فلا الحليب مثل قبل دسم من جاموسة شبعة بالعلف الصحيح والصحي، لا الجاموس بصحته وقوته وانتاجه، مما يضطر الكثير من صانعات القيمر لخلط القشطة معه لزيادة كميته وتثخينه".