مسيحيو العراق: كل شيء من أجل البقاء

دهوك/ 2019/ مشاركة مسيحيي دهوك في احدى مناسباتهم الخاصة تصوير: عمار عزيز

عمار عزيز- نينوى

قد يكونون من أكثر المكونات الدينية مُسالَمَةً في بلاد ما بين النهرين، كان لهم أقل نصيب في اِثارة الصراعات الادارية، المسلحة والسياسية، ولكن في أغلب الأحيان كانوا هم الضحايا.

يوشك مسيحيو العراق أن يُجرَّدوا من أية منطقة جغرافية تابعة لهم بضمنها موطنهم التاريخي، ليسوا فقط في تراجع من حيث النفوذ والحفاظ على اللغة والثقافة، بل أن أعدادهم أيضاً في انحسار.

في تسعينات القرن الماضي، كانت أعداد المسيحيين في العراق تُقَدَّر بمليون و500 ألف نسمة، أي ما يقارب 30% من سكان العراق، وحتى نهاية حكم نظام البعث في 2003 كانوا يُقَدَّرون بحوالي 800 ألف مواطن.

وفقاَ لإحصائية اعلنتها الأمم المتحدة في عام 2017، قلت أعداد المسيحيين في العراق الى ما بين 200 ألف و 300 الف شخص.

سهل نينوى يعتبر الموطن الأصلي للمسيحيين

 "سهل نينوى يعتبر الموطن الأصلي للمسيحيين، غير أن الحروب وأحداث العنف أجبرتهم على هجرة موطنهم الأصلي دونما تفكير، لأن حياة الانسان عندنا أهم من أي شيء اخر" تقول كلارا ئيليا.

كانت عائلة كلارا تقطن في حي البتاوين في العاصمة بغداد، وقد توجهوا صوب اقليم كوردستان هرباَ من احداث العنف وتهديدات الجماعات المسلحة، ومنها تنظيم الدولة (داعش).

بسط تنظيم داعش سيطرته على الموصل في عام 2014، ووضع المسيحيين أمام ثلاثة خيارات: اعتناق الاسلام، دفع الجزية أو مغادرة مناطقهم دون أي أمتعة، لذا اختار معظمهم النزوح.

  تقول كلارا "كان عدد السكان المسيحيين في أحياء البتاوين في العاصمة بغداد يبلغ خمسة آلاف مسيحي، اِلاّ أن 90% منهم هاجروا صوب المحافظات الأخرى أو خارج البلاد.

أغلبية المسيحيين كانوا يقطنون في بغداد، ثم في المناطق الأخرى مثل نينوى، كركوك، دهوك وأربيل، فيما سكنت نسبة اقل منهم في المحافظات العراقية الأخرى.

cristian

كركوك/ 2019/ امرأة مسيحية من داخل تؤدي الطقوس الدينية في كنيسة العائلة المقدسة تصوير: كركوك ناو

 "اليوم اذا أردنا أن نزور بغداد، فسنضطر للإقامة في فندق، حيث لم يتبق أحد من أهالينا هناك، الوضع قد تغير الآن، أصبح العراق مثل الجحيم بالنسبة للمسيحيين، والباقون هناك ينتظرون الفرصة حتى يهاجروا أيضاً."

ما يزيد من قلق كلارا، هو أن المسيحيين اضافةً الى قربهم من فقدان جُلِّ مناطقهم الأصلية، أصبحوا في خطر زوال لغتهم أيضاً، نظراً لأن المسيحيين مُنضَوون تحت سلطة مكونات اخرى، ويتحدثون ويدرسون باللغة العربية بدل السريانية.

تعتبر الديانة المسيحية ثاني أكبر الديانات في العراق بعد الاسلام، وهي ديانة معترفة بها في الدستور العراقي ولغتهم التي هي السريانية محفوظة، وكما جاء في الدستور فيجب أن يُمنَح كلّ مكَوّن يمثل الأغلبية في المناطق التي يسكن بها حق استخدام لغتهم وثقافتهم الخاصة.

وأشار عماد فرج بولص، راعي كنيسة العائلة المقدسة في محافظة كركوك الى أن "الدستور أكد على حماية الثقافة والتراث المسيحي والتي هي الى حد ما محفوظة، ولكن مجيء داعش غير كل شيء، لغتنا وتراثنا أصبح معرضاً للخطر ويجب بذل جهود جدية لحمايتها من الزوال."

لغتنا وتراثنا أصبح معرضاً للخطر ويجب بذل جهود جدية لحمايتها من الزوال

بحسب احصائيات ادارة الكنائس في كركوك والتي حصلت (كركوك ناو) عليها سابقاً، تتواجد اثنا عشر كنيسة داخل المدينة، غير أن الأجراس تُقرع في واحدة منها فقط، فيما تم تفجير ما لا يقل عن سبعة كنائس باستخدام العربات المفخخة منذ 2003.

 "التراث المسيحي يلقى الاهتمام في كركوك واقليم كوردستان، حيث تتواجد مدارس سريانية، اِلاّ أن المسيحيين في محافظات وسط وجنوب العراق بحاجة للاهتمام" كما يقول عماد فرج.

تعرضت الكنائس والمواقع الدينية المسيحية في معظم مناطق العراق الى أعمال عنف، وتوقفت الترانيم والطقوس الدينية بعد اغلاقها.

كنيسة أم البشارة الصالحة في بعقوبة، مركز محافظة ديالى، أُفتُتِحَ مرةً أخرى في 2019 بعد مرور 14 عاما على اغلاقها بسبب تهديدات منظمة القاعدة وتعرض المسيحيين في المحافظة الى الاضطهاد.

في قضاء خانقين، شمال شرق ديالى أصبحت الكنيسة الوحيدة الموجودة في القضاء ملاذاً للنازحين منذ سنوات عديدة، فيما يضطر المواطنون المسيحيون للتوجه الى مدن اقليم كوردستان لاِحياء مراسيمهم ومناسباتهم الدينية.

وتوقفت أجراس معظم الكنائس في نينوى وبغداد عن القرع، نتيجةً لسنين طِوال من اقتتال الجماعات المسلحة.

في محافظة نينوى فقط، تعرضت 85 كنيسة، تقع 43 منها في سهل نينوى موطن أغلبية مسيحيي نينوى، لأضرار جسيمة، تم اعمار عدد قليل منها، حسب احصائيات مديرية كنائس الكلدان والسريان في نينوى ومديرية شؤون المسيحيين في وزارة الأوقاف بحكومة اقليم كوردستان.

تقول روبينا أو يملك عزيز، النائبة المسيحية في برلمان اقليم كوردستان "أصبحنا ضحية لسياسات ادارة العراق، للأسف، الدستور أقَرَّ بحقوق الأقليات الا أن ذلك لم يُطَبَّق على ارض الواقع، الناس مَلَّت من الكلام ويأِسوا من العراق، لذا يعتبرون الهجرة هي الحل."

تشير الأرقام التي أعلنتها كل من الحكومة العراقية وحكومة اقليم كوردستان الى أن عشرات الآلاف من العوائل المسيحية لا تزال في النزوح ولم تعد لمناطقها الأصلية، كما أن آلاف العوائل الأخرى –أكثر من 24 ألف عائلة في نينوى فقط- قد هاجروا الى خارج العراق.

 من مجموع أكثر من 700 ألف نازح يتواجد في اقليم كوردستان، يشكل المسيحيون نسبة 7% منهم، فيما أصبح 60 مواطنا من المكون المسيحي، بينهم أطفال ونساء، في عداد المفقودين بعد مجيْ داعش.

الاهتمام باللغة والثقافة المسيحية ليست في مستوى طموحنا

"الاهتمام باللغة والثقافة المسيحية ليست في مستوى طموحنا، قبل داعش كانت هناك 240 مدرسة باللغة السريانية أما الآن فانخفض عددها الى 187 مدرسة فقط" تقول روبينا.

مسيحيو العراق الذين يكافحون في وقت واحد من أجل حماية لغتهم، تراثهم وأرواحهم، يواجهون في عدة مناطق مخاطر التغيير الديموغرافي خصوصاً في مناطقهم بِسَهل نينوى.

في الأعوام السابقة، تَصًدّى المسيحيون في ناحية برطلة -15 كيلومتر شرق نينوى- لمحاولات انشاء مشروع سكني في الناحية، والتي كان من المقرر أن تباع لأناس آخرين ليسوا من المكوّن المسيحي، كما اعترضوا على قرار من الحكومة المركزية لنقل سجلات الأحوال المدنية للعوائل العربية التي نزحت اِبان سيطرة داعش الى سهل نينوى.

alqosh

سهل نينوى/ 2019/ القوش، أحد المَواطن التأريخية للمسيحيين   تصوير: عمار عزيز

"سهل نينوى هوالموطن الأصلي للمسيحيين منذ أمَدٍ بعيد و بالأخص تلكيف، تلسقف وقرقوش، و هم لا يزالون يسكنون تلك المناطق، و لكنهم يهاجرون في حال اندلاع أعمال عنف لأنهم مسالمون ولا يحبذون الاقتتال و الخلافات" بحسب نوزاد بولص، رئيس منظمة (سورايه) للثقافة و الاعلام.

يعتقد نوزارد أن السبب الرئيسي وراء تناقص أعداد المسيحيين يتعلق بنظام ادارة الدولة، خصوصاً تطبيق الحكم الاسلامي بعد عام 2003، "بسبب هذا الحكم لا يستطيع المسيحيون العيش في محافظات وسط وجنوب العراق."

ينص الدستور، الذي صوت لصالحه أغلبية العراقيين في 2005، بأن الإسلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع ولا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام، غير أن الدستور أكد أيضاً على ضمان كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية.

يقول نوزاد بولص بأن "لغة وثقافة المسيحيين ليست محمية، تعرضت عشرات المناسبات والمراسيم الدينية والثقافية للزوال، ولكن ليس في كل المناطق، الوضع في اقليم كوردستان وكركوك مختلف، فهنا يحترمون التراث المسيحي وطقوسنا الدينية."

فيما يخص مفاصل الحكم في العراق فاِنّ المسيحيين يتولّون أقل عدد من المناصب حتى في مناطقهم، في نينوى حيث تتسنم شخصيات مسيحية مناصب القائممقام في قضاءين ومديرية ناحية واحدة بالاضافة الى مديريتين عامتين.

 يمتلك المسيحيون مقاعد الكوتا في البرلمان العراقي في كل من بغداد، نينوى، كركوك، أربيل ودهوك، حيث تتنافس أكثر من سبعة أحزاب سياسية وعشرات المرشحين المستقلين للفوز بها في الانتخابات. أما في برلمان اقليم كوردستان فقد خصصت خمسة مقعد كوتا للمسيحيين، ما عدا مجالس المحافظات.

kanisa.xanaqi2

ديالى/ 2019/ كنيسة البشارة في خانقين أصبحت ملجأً للنازحين منذ سنوات عدة   تصوير: كركوك ناو

"جميع الحكومات المتعاقبة في العراق ظلمت المسيحيين وانتهكت حقوقهم، ومؤخراً سعى تنظيم داعش الى طمس هويتهم، نتيجة لذلك توزع المسيحيون على مناطق عدة في العراق ولم يبقوا في منطقة واحدة"، هذا ما قالته وحيدا ياقو هرمز، النائبة السابقة في برلمان كوردستان، وأضافت "لم يهنأ المسيحيون بالراحة والسلام أبداً، ظلوا عائشين في الخوف والهلع، مضى عليهم دهر وهم يعيشون بهذه الطريقة بسبب حكم الأغلبية وتعرضهم للمعاداة."

ترى وحيدا بأن الحل الوحيد لقضية المسيحيين في العراق من أجل البقاء ومواصلة الحياة يتمثل في نظام حكم مدني وديمقراطي بعيداً عن الدين، لكي يصبح البلد وطن الجميع.

مسيحيو العراق في مواجهة غير متكافئة، في خِضَمّ صراع تأريخي على موطنهم الأصلي دونما مشاركة منهم. بصيص الضوء الوحيد الذي يُرى في نهاية النفق يتمثل في أن معظم مناطقهم تقع في المناطق المتنازع عليها، ووفقاً للمادة 140 من الدستور يجب حسم مصير هذه المناطق بين الحكومة الفدرالية وحكومة اقليم كوردستان على ثلاثة مراحل تشمل التطبيع، التعداد ثم الاستفتاء. 

  • FB
  • Instagram
  • Twitter
  • YT