على شارع ملك محمود الحولي بمدينة السليمانية، تسبق مركبة حمل السيارة التي تقودها سناريا، والدخان الكثيف المنبعث من عادمها يؤثر على مدى رؤيتها.
في هذه اللحظات، تخفف سناريا من سرعتها وتأخذ هاتفها الجوال لتوثق بالفيديو ما تشاهده أمامها وترسله لدائرة المرور لمحاسبة سائق مركبة الحمل وردعه من الاستمرار في تلويث البيئة.
على مدار اليوم، تكتظ شوارع السليمانية بالمركبات، الى جانب صعوبة مهمة قيادة المركبات، تتجه نسبة التلوث في المدينة نحو ازدياد مضطرد. لدى سناريا قصص عديدة مع الأدخنة السامة وزحام الشوارع لأنها هي من تقود سيارة العائلة بعد إصابة زوجها بجلطة قلبية.
صباح كل يوم، تخرج سناريا مع طفلها البالغ من العمر سنتين، من منزلها الكائن في حي "كنة سورة" جنوبي السليمانية في الساعة 6:45 دقيقة لتوصل زوجها الى إحدى الدوائر الحكومية شرقي المدينة. من المفترض أن تستغرق المسافة الى هناك من 15 الى 20 دقيقة لكن بسبب الازدحام المروري تستغرق 30 دقيقة.
"بالرغم من أن وقت خروجنا مبكر جداً بالنسبة لزوجي لكن يجب على احدنا ان يضحي وإلا لن أستطيع اللحاق بدوامي، فلا يمكنني أن أقدم كل يوم أعذاراً لمديري بسبب التأخير"، حسبما قالت سناريا أحمد لـ(كركوك ناو).
وفقاً لإحصائيات هيئة حماية البيئة في اقليم كوردستان، توجد في الاقليم مليونين و400 ألف مركبة، 60 بالمائة منها خصوصية، كثرة أعداد السيارات تعني احتراق المزيد من الوقود الذي يلوث البيئة.
قطاع النقل العام ضعيف في المدن والأقضية ولا يلبي الحاجة بالشكل المطلوب
المتحدث باسم هيئة حماية البيئة في اقليم كوردستان، رزاق خيلاني، قال لـ(كركوك ناو)، إن "أحد أسباب تلوث البيئة في الاقليم وجود هذه الأعداد الكبيرة من السيارات على الشوارع، أغلبها خصوصية، بسبب ضعف قطاع النقل العام".
وفقاً لـ(آكيو ئير)، شركة سويسرية تعمل في مجال تكنلوجيا جودة الهواء، يعد هواء العراق من "الأكثر تلوثاً" بين دول العالم. وتلوث البيئة والهواء بحسب وزارة صحة الاقليم يعد من أحد أسباب ازدياد حالات الإصابة بأمراض السرطان، حيث سجلت في 2023 تسعة آلاف و911 حالة إصابة جديدة في اقليم كوردستان، كان سرطان الرئة ثاني أكثر شيوعاً.
جودة هواء اقليم كوردستان إن كانت مقبولة في السنوات العشر الماضية فهي الآن سيئة وقد تجاوزت النسب والمعايير المحددة بالأخص داخل المدن، التلوث طال ايضاً القرى بسبب الافراط في استخدام المواد الكيمياوية وحرائق الغابات والأدغال، حسبما قالت يريفان شاسوار، الحاصلة على شهادة الماجستير في جودة الهواء لـ(كركوك ناو).
تعمل حافلات النقل العام في اقليم كوردستان وفق نظام النفرات، الحافلة لا تغادر المحطة الأولى ما لم يصل عدد ركابها الى 10، أحياناً يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، فيما يضطر الآخرون في المحطات الأخرى للانتظار مدة طويلة لوصول الحافلة، لذا يلجأ أغلبهم لاستخدام سيارات الأجرة أو مركباتهم الخصوصية.
أسعد ملا كريم، مدير في مرور الاقليم، قال لـ(كركوك ناو)، "بالتأكيد قطاع النقل العام ضعيف في المدن والأقضية ولا يلبي الحاجة بالشكل المطلوب، الأمر الذي يجبر المواطنين على استخدام المركبات الخصوصية للتنقل".
في أغلب البلدان تم تطوير أنظمة الطاقة البديلة، من بينها انتاج السيارات الكهربائية بدل السيارات التي تعمل بالبنزين وزيت الغاز بهدف حماية البيئة ومجابهة التغيرات المناخية، ووفقاً لإحصائيات وتحذيرات الأمم المتحدة، يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية.
تقضي سناريا يومياً أكثر من ساعة على الطرق، فبعد توصيل زوجها الى دائرته عليها أن توصل طفلها للحضانة وتلحق دوامها في مؤسسة إعلامية تقع غربي المدينة في الساعة الثامنة صباحاً.
"هذه معاناتي اليومية منذ ثلاث سنوات، الساعة التي أقضيها في الشارع هي ساعة الذروة والكل يريد اللحاق بدوامه، الشارع يضج بالمركبات الخصوصية، بداية دوام المدارس تكون الشوارع مزدحمة"، تقول سناريا أحمد.
خدمة السيتي باص أو الحافلات الليلية في شارع الملك محمود، من مشاريع النقل العام التي يجري تطويرها لكن تنفيذه متوقف بسبب غياب الدعم الحكومي.
مدير النقل والاتصالات في السليمانية صديق محمد قال لـ(كركوك ناو)، "في جعبتنا عشرات المشاريع والخطط لتعزيز قطاع النقل العام، ليس في السليمانية فقط بل في عموم الاقليم، لكنها متعثرة بسبب غياب الدعم المالي، على سبيل المثال، صممنا خط الترام لمدينة السليمانية منذ 12 سنة والذي كلف ثلاثة ملايين دينار لكن لا يوجد من ينفذه، التصميم يقبع على رفوف المديرية".
وكالة حماية البيئة الأمريكية –تستند اليها معظم الدول في وضع قوانين ومعايير تلوث البيئة-، قامت بقياس ستة ملوثات رئيسية للهواء، بحيث تكون مؤثرة على صحة الإنسان في حال تجاوز النسبة المحددة، الملوثات هي: الأوزون الأرضي، ذرات الهواء المعلقة، ثاني أوكسيد الكربون، ثاني أوكسيد النتروجين، أول أوكسيد الكربون والرصاص.
تقول يريفان شاسوار إن كافة الملوثات مرتفعة في اقليم كوردستان، على سبيل المثال، ذرات الهواء المعلقة التي يبلغ قطرها أقل من 2.5 مايكرو وتُمتص بسهولة وتدخل رئة الانسان يجب أن لا تتجاوز نسبتها في الهواء بحسب المعايير 15 مايكروغرام، لكن نسبتها في مدن الاقليم تصل حالياً الى 65 مايكروغرام.
الى جانب المركبات، تضخ مولدات الكهرباء والمعامل ومصافي المنتوجات النفطية يومياً أدخنة سامة الى الهواء.
لو أن الجهات المعنية أخذت كتابنا بنظر الاعتبار، لم يكن من المفترض أن تكون هذه المركبات موجودة على الطريق
بحسب الخبيرة في مجال جودة الهواء، يريفان شاسوار، هواء اقليم كوردستان، بالأخص داخل المدن "ملوث"، لذا ترى أن من الضروري أن يكون هناك قانون يحدد معايير تلوث الهواء كمعظم الدول وان تكون هناك معايير محلية، فضلاً عن "منع استيراد المركبات الغير مطابقة للمعايير الدولية والمركبات التي لها محركات كبيرة ذات ثمان اسطوانات".
قانون حماية وتحسين البيئة رقم 8 لسنة 2008 في اقليم كوردستان وضع عقوبات مشددة لتلويث البيئة تتضمن الحبس والتغريم بمبالغ تصل الى 200 مليون دينار.
المتحدث باسم هيئة حماية البيئة، رزاق خيلاني، في الاقليم اشار الى أن دائرته ارسلت خلال الفترة الماضية كتاباً الى وزارة الداخلية طلبت فيه عدم تسجيل أي مركبة تم إخراج حجر العادم (حجر البيئة) منها، كما تم إبلاغ وزارة التجارة ومديرية التقييس والسيطرة النوعية في وزارة التخطيط بعدم السماح بإدخال مركبات الحمل التي تنبعث منها أدخنة كثيفة. حجر البيئة يعمل على تقليل الانبعاثات الضارة الخارجة من عادم السيارة والناتجة عن عملية احتراق الوقود داخل المحرك.
"لو أن الجهات المعنية أخذت كتابنا بنظر الاعتبار، لم يكن من المفترض أن تكون هذه المركبات موجودة على الطريق"، يقول رزاق خيلاني.
بسبب عدم وجود حافلات النقل العام على شارع ملك محمود يضطر زوج سناريا للعودة الى المنزل بسارة الأجرة، وهو ما يشكل عبئً مادياً على العائلة.
تقول سناريا، "لو أن خطوط النقل العام كانت فعالة والمواطن مطمئناً من وصوله الى مقصده في الوقت المناسب، لم يكن هذا العدد الكبير من الناس سيستخدم سياراتهم الخصوصية، أعتقد أن هذا ليس أمراً صعباً، فقط على الجهات المعنية أن تحتذي بدول الجوار".
حافلات النقل العام معظمها قديمة ولا تحتوي على أنظمة تكييف، وهذا سبب آخر يدفع المواطنين للابتعاد عن ركوب الحافلات.
مدير النقل والاتصالات في السليمانية قال بأن دائرته خاطبت وزارة النقل مراراً بشأن مشاكل النقل لكن "الحكومة لا تخصص أموال لتطوير النقل العام ولا تدعم القطاع الخاص للاستثمار في هذا المجال".
تلوث الهواء مشكلة عالمية، في المقابل تكمن أحد الحلول في زيادة المساحات الخضراء عن طريق التشجير.
تقول يريفان شاسوار بأنه لضمان بيئة نقية في أي منطقة يجب أن لا تقل نسبة المساحات الخضراء عن 25 بالمائة، وبحسب منظمة الصحة العالمية، لكي يعيش الانسان في بيئة صحية يتوجب تخصيص تسعة أمتار مربعة من المساحات الخضرة لكل فرد، "لكن النسبة في السليمانية لكل فرد هي ثلاثة أمتار ونصف وهذه النسبة تقل في أربيل لتصل الى مترين مربعين فقط".
وفقاً للقوانين والضوابط المعمول بها، يتم استيفاء مبلغ 70 ألف دينار من أصحاب مركبات الحمل و30 ألف دينار من أصحاب مركبات الأجرة و20 ألف دينار من أصحاب المركبات الخصوصية أثناء تجديد السنوية كرسومات تؤخذ تحت اسم الحفاظ على البيئة وصيانة الطرق.
ويرى المتحدث باسم هيئة حماية البيئة في الاقليم بأن الهواء في المدن ملوث، لكن نسبة التلوث لا تصل الى الحد الذي يهدد فرص الحياة فيها، "إذا بقيت عوامل تلوث الهواء بالأخص المركبات، المولدات والمصافي على حالها فسوف تزداد نسبة التلوث، لذا يجب وضع حد لأسباب التلوث".
منظمة الصحة العالمية تحذر من أن تلوث الهواء داخل المنازل وخارجها من التهديدات الكبيرة على الحياة والمناخ وتؤدي سنوياً للوفاة المبكر لسبعة ملايين شخص.
الساعة اقتربت من الرابعة عصراً ونفس المعاناة تتكرر بالنسبة لسناريا، حيث ستقضي حوالي ساعة أخرى وسط الزحام والأدخنة السامة للمركبات حتى تصل الى البيت، "ماراثون اليوم، روتين أواجهه كل يوم الى جوار أعبائي المنزلية الأخرى".
انتجت هذه المادة في إطار برنامج توسيع دور المرأة في تغطية القضايا البيئية. البرنامج ينفذ من قبل مؤسسة (كركوك ناو) بدعم وتمويل من وزارة خارجية جمهورية ألمانيا الاتحادية.