سفح جبل مقلوب كان حتى ما قبل ثلاث سنوات أشبه بمكب للنفايات، لكنه الآن تحول الى حقول ممتدة على مد البصر يُنتج فيها محصول البطاطا، وتوفر فرص عمل لعشرات النساء.
يقع جبل مقلوب في قضاء شيخان. المنطقة كانت مصدراً للروائح المنبعثة من النفايات التي كانت أيضاً تشوه منظرها، لدرجة دفعت خسرو رؤوف للتفكير في تنفيذ مشروع بيئي واقتصادي سيغير واقع المنطقة.
على مدار العقود الثلاثة الماضية كانت النفايات ترمى في المنطقة التي تبلغ مساحتها 25 ألف دونم وتبعد 30 كم عن مدينة الموصل و80 كم عن محافظة دهوك.
تقع هذه الأراضي بالقرب من نهر الخازر، وهي جزء من محافظة نينوى لكنها إدارياً تابعة لمحافظة دهوك. سفح الجبل أصبح الآن مركزاً لإنتاج البطاطا يشتغل فيه مئات العمال، معظمهم من النساء.
بث الحياة في أرض ميتة
خسرو رؤوف، الذي يملك جزءاً من تلك الأراضي قرر مع مزارعين آخرين في المنطقة تنظيف الأراضي وبدأوا المشروع بالتعاون مع خبراء الزراعة والبيئة وعدد من الدوائر الحكومية.
"جمعنا آلاف الأطنان من النفايات التي رميت في المنطقة بصورة عشوائية على مدار 30 سنة"، حسبما قال خسرو.
بعد تنظيف الأراضي، استخدموا معدات متطورة للتحقق من صلاحية التربة للزراعة، واستغرق ذلك سنة وثمانية أشهر من الفحص والمتابعة.
يقول خسرو، "بعد التأكد من عدم وجود عناصر ضارة في التربة من شأنها أن تؤثر على المحاصيل وصحة الانسان، قررنا مد شبكة مياه ري من نهر الخازر.
"الخطة كانت تنظيف ومراقبة الأراضي لتصبح خصبة وصالحة للزراعة، نهر الخازر كان مهماً لتنفيذ هذه الخطوة، وقال خسرو، "أعددنا تربة رملية بعد استخدام معالجة كيمياوية لزيادة العناصر التي فقدتها التربة بسبب النفايات والمخلفات".
"على سبيل المثال، كانت الأرض بحاجة لمادة حامضية لكي تتوازن، استخدمنا بعض المواد الكيمياوية"، الخطوة التالية كانت البدء بزراعة محصول البطاطا.
كافة مزارعي المنطقة قرروا زراعة محصول البطاطا من شهر شباط الى آذار، من هنا تحولت الأرض من مساحة واسعة من النفايات المضرة للمنطقة الى حقل زراعي مهم.
الحياة تعود الى جبل مقلوب
بعد ثلاث سنوات من هذه الخطوة، أصبح 25 ألف دونم من الأراضي حقولاً لإنتاج البطاطا وعشرات المحاصيل الزراعية الأخرى، ويقول خسرو بأنه لم يكن يتصور أبداً أن يتحول جبل من النفايات والمخلفات الى حقل يصدر انتاجه الى خارج العراق.
وأضاف، "أصبحت أمتلك أرضاً واسعة، أسست شركة خاصة بإنتاج البطاطا، 200 شخص يعملون عندي، 160 منهم نساء".
سفح جبل مقلوب في قضاء شيخان الواقع ضمن حدود بحافظة نينوى والذي يتبع محافظة دهوك إدارياً، بات الآن أحد أكثر الأراضي خصوبةً في المنطقة.
تمتاز محافظة نينوى بأراضيها الخصبة ما منحها المرتبة الأولى زراعياً بين المحافظات العراقية، لكن القطاع تراجع خلال العقد الماضي بسبب تداعيات حرب داعش وشحة المياه في بعض المناطق.
وفقاً لإحصائيات مديرية زراعة نينوى، تؤمن المحافظة 60 بالمائة من حاجة العراق للحنطة والشعير، وتخطط الحكومة حالياً لزيادة مساحة الأرض الزراعية واصفةً مساعيها خلال العامين الماضيين بـ"ثورة زراعية"، حسبما قال مدير زراعة نينوى، ربيع يوسف ألياس، في تصريح سابق لـ(كركوك ناو).
30 بالمائة من أراضي سفح جبل مقلوب التي تمثل نموذجاً للعودة الى الزراعة، تعود ملكيتها لمزارع ينادونه بـ"العم رحيم".
وقال العم رحيم بأنه حين رأى أكوام النفايات لم يكن يتوقع للوهلة الأولى أن يأتي يوم وتصبح الأرض أحد أكبر حقول انتاج البطاطا.
الحديد، مخلفات المنازل والمواد البلاستيكية كانت تغطي الأرض، فضلاً عن أطنان من النفايات التي توغلت الى جوف الأرض.
واشار العم رحيم الى أن "البطاطا كانت أول محصول زرعناه، لأن البطاطا تنمو بصورة جيدة، ثم بدأنا بزراعة محاصيل أخرى، حيث نزرع الآن الى جانب البطاطا، محاصيل اللوبياء، زهرة الشمس، الترعوزي (القثاء)، الحنطة والشعير".
النساء يحصلن علي حصة الأسد من فرص العمل
جني البطاطا وجمعها هي المهمة الرئيسية للعمال، ويرى العم رحيم بأنه عمل "سهل" تستفيد منه النساء بصورة أكبر، "تنظيف هذه الأراضي من النفايات هيأ فرص عمل لمئات العوائل"، فضلاً عن أن بيئة المنطقة اصبحت أكثر نظافة.
يعمل يومياً 100 شخص، 80 منهم نساء، في حقل العم الرحيم الزراعية.
سحر أمين، إحدى العاملات في الحقل، تتوجه لعملها يومياً من الساعة الرابعة فجراً حتى حوالي العاشرة صباحاً.
"مهمتنا نحن النساء هي جمع البطاطا، أما النقل فيتولاه الرجال، أعتقد بأن عملنا أسهل بكثير، نحصل على أجر يومي قدره 15 ألف دينار نؤمن به معيشتنا"، بحسب سحر.
بعد وصول العمال الى الحقل تقدم لهم وجبة طعام، وفي الساعة 10 صباحاً تقدم لهم وجبة أخرى، تقول سحر إن "معاملتهم لنا جيدة، إذا مرضنا أو مرض أطفالنا يعطوننا إجازة، ينقلوننا بسياراتهم، دائماً ما اقول لو لم تكن هذه الأرض قد نظفت لما حصلنا على فرص عمل، أريد الاستمرار في عملي".
نجيبة علي (43 سنة)، مزارعة تعيش في ناحية كلكجي التابعة لشيخان، تقول "زوجي توفي جراء حادث سير، توليت على عاتقي أعباء تربية أطفالي الأربعة، تنظيف هذه الأرض من النفايات أمّن مصدر عيشنا".
تأتي نينوى في المرتبة الأولى على مستوى العراق في انتاج البطاطا، حيث تصل المساحات المزروعة بهذا المحصول الى أكثر من 29 ألف دونم يقترب انتاجها من 124 ألف طن، وفقاً لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء لسنة 2022، وبلغت المساحة الإجمالية للأراضي المزروعة بالبطاطا في عموم العراق خلال نفس العام أكثر من 50 ألف دونم، وصل انتاجها الى 270 ألف طن.
وزارة الزراعة العراقية صدرت خلال عام 2022 أكثر من 30 ألف طن من البطاطا الى دول الخليج العربي رغم عدم إيقاف الاستيراد. البطاطا من النباتات المستهلكة لكميات كبيرة من الماء، وتنمو أكثر في تربة ذات درجة حموضة عالية.
يقول خسرو رؤوف "عاماً بعد عام، يزداد انتاجنا من محصول البطاطا الذي يعد من أشهر أنواع البطاطا ونصدر منه كميات الى باقي المحافظات وكذلك خارج العراق".
رزكار محمد، طالب جامعي، يعمل في الحقل الزراعي منذ بداية إحيائه قبل ثلاث سنوات، يقول رزكار بأن هذه الخطوة ساعدته على تأمين مصاريف الجامعة، "سعيد لأن 80 بالمائة من فرص العمل خصصت للنساء".
في كل من اقضية شيخان، عقرة وبردرش يتم يومياً جمع 200 الى 250 طن من النفايات من قبل شركة متعاقدة مع حكومة اقليم كوردستان، الأقضية الثلاثة قريبة من جبل مقلوب الذي كان حتى ما قبل ثلاث سنوات مكباً لنفايات المنطقة.
المهمة الصعبة: كيف تحول تربة مليئة بالسموم الى أرض خصبة
مدير زراعة بردرش، تحسين كوران، أحد المشاركين في عملية إحياء الأرض، قال "لتنفيذ هذه الخطوة استفدنا كثيراً من نهر الخازر، كما أن تربة المنطقة خصبة ومناسبة للزراعة.. لهذا السبب صدرت خلال السنوات الثلاث الماضية كميات من البطاطا الى خارج المحافظة".
يعتبر البطاطا غذاءَ اساسياً يستهلكه أكثر من ثلثي سكان العالم، وهي من المحاصيل التي تتحمل الجفاف، البرد وقلة الخصوبة، وذلك بحسب منظمة الأمم المتحدة التي تتوقع أن يزداد الانتاج العالمي من محصول البطاطا بنسبة 112 بالمائة ليصل الى 750 مليون طن بحلول 2030.
لافه بارزان، خبيرة زراعية حاصلة على شهادة الدكتوراه، تقول إن إحدى المشاكل التي تواجه الأراضي الملوثة بالنفايات البلاستيكية والمخلفات المعدنية صعوبة استخدامها للزراعة بسبب احتوائها على بعض أنواع البكتيريا وتفاعل النفايات مع التربة.
لافه بارزان الي كانت من بين الخبراء الذين فحصوا تربة الأرض قالت "بعد تنظيف الأرض لم يكن بالإمكان زراعة المحاصيل فيها بسبب تفاعل بعض المواد السامة التي تشكل خطراً على صحة الانسان بالتربة".
المنطقة كانت مليئة بالنفايات والمخلفات الحربية، "التربة امتزجت مع مخلفات معدنية ثقيلة كانت تشكل خطراً على المعدة وتعرض الانسان للإصابة بالسرطان"، وأضافت لافه "الخطوة الأولى كانت إزالة المواد السامة، استخدمنا المعالجة الكيميائية والفيزيائية، تقصينا كثيراً حول كيفية التخلص من هذه المواد المضرة".
نهر الخازر سهل لنا المهمة بشكل كبير، بعد التخلص من المواد المضرة، تم غسل الأراضي مباشرة بالمياه، استغرقت العملية حوالي سنة وثمانية أشهر.
بعد غسل الأرض، أعيد فحص التربة، تبين أنها بحاجة الى بعض العناصر الأخرى، "درجة حموضة التربة كانت قليلة، لذا لم تكن علمياً صالحة للزراعة، عالجنا هذه المشكلة ايضاً".
المهمة، بحسب لافه، تطلبت الكثير من التفكير والتخطيط، بعض خطوات العملية لم تكن لتنجح بالإمكانيات البشرية فقط، "على سبيل المثال فحص الأرض، حرثها ورش الأسمدة الطبيعية في عشرات الآلاف من الدونمات، احتجنا الى معدات متطورة جداً، نحن نتحدث عن آلاف الدونمات، يمكنني القول بأن نجاح المشروع كان مستحيلاً لولا مياه نهر الخازر".
الأسمدة الطبيعية تتألف من مخلفات المواشي والدواجن، تقول لافه، "في بعض الأحيان كنا نصنع اسمدة من أغذية متنوعة لكي تتعود الحياة للأرض، وفرنا للتربة العناصر التي كانت تفتقدها".
ترى لافه بارزان أن على الحكومة والمواطنين التعاون من أجل تجنب ما حدث مع أراضي سفح جبل مقلوب مع المناطق الأخرى، "التوعية مهمة الجميع".
