بعد عودتها الى سنجار، تسلقت "رنا" قمة جبل وتمعنت في مناظر المدينة وكيف طغى عليها اللون الرمادي، كانت اشبه بأرض جرداء غير مأهولة، لذا قررت بذل ما في وسعها لتجعل سنجار خضراء.
"قلت لنفسي، هذا الجبل موطني وبيتي، من يتخلى عن بيته ويدعه يحترق ويزول أمام أنظاره؟ في تلك اللحظة عاهدت نفسي على الانضمام الى المبادرة والتطوع من أجل زيادة نسبة المساحات الخضراء وخدمة المجتمع"، بحسب رنا بلو.
رنا شابة من أهالي سنجار، فرّقها النزوح عن موطنها وعادت بعد سنوات من الحرب لتجده قد تحول الى كتلة من الدمار، فقررت البحث عن فرصة لتساهم بعودة الحياة الى سنجار.
حملة "لنجعل من سنجار جنة خضراء" كانت الفرصة التي انتظرتها رنا. بإشرافها وقيادتها انطلقت حملة تشجير كبرى تهدف لزراعة مليون شجرة في قضاء سنجار خلال 10 سنوات.
نت من أوائل الذين أبدوا استعدادهم لدعم المشروع الذي كنت بحاجة ماسة اليه
حتى ما قبل أحداث 2014 –هجوم مسلحي تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام-داعش-، كان يعيش في سنجار 340 ألف مواطن من المكونات الدينية والعرقية المختلفة، معظمهم من الايزيديين، مثلت الزراعة أحد أهم مصادر العيش الرئيسي للسكان، لكن الحرب ألقت بظلالها على هذا القطاع.
انطلاق المبادرة: الشغف والإصرار
تشكل الفتيات الأغلبية في فريق المتطوعين الذي تقوده رنا ويضم 50 شاب وشابة، يخصصون من أوقاتهم للمشاركة في الحملة، بعضهم يعمل من الساعة 9 صباحاً حتى الـ5 مساءً.
تقول رنا بلو (25 سنة)، "هدفنا زراعة مليون شجرة من اجل إنعاش قطاع الزراعة في سنجار التي تشتهر بخصوبة أراضيها، نظراً لأن الزراعة والخضرة تشكل جزءاً من تاريخنا وتراثنا".
المبادرة دخلت طور التنفيذ في تشرين الأول 2023 بدعم من بيت التعايش في سنجار ومن المقرر أن تستمر حتى تشرين الأول 2033.
حين تحدث ميرزا دينايي عن فكرة المبادرة، "كنت من أوائل الذين أبدوا استعدادهم لدعم المشروع الذي كنت بحاجة ماسة اليه".
بيت التعايش، يدعم مالياً من قبل ميرزا دينايي، الحائز على جائزة أورورا للأعمال الانسانية التي منحت له في مراسيم جرت عام 2019 بالعاصمة الأرمينية، ييريفان، تثميناً لأعماله في مجال إغاثة النازحين، بالأخص الايزيديين.
وقال مدير بيت التعايش، ميزرا دينايي "في البداية كانت المبادرة تتمثل بزراعة 25 ألف شجرة كخطوة أولى نحو استعادة البيئة الطبيعية للمنطقة وإدامة الزراعة"، وأضاف بأنهم يتطلعون من خلال الاستمرار في المشروع الى تعويض الأشجار التي فقدت خلال السنوات الماضية.
وفقاً لإحصائيات وتحذيرات الأمم المتحدة، يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية والتي تشمل مخاطر شح المياه، الجفاف، ارتفاع درجات الحرارة والتلوث وكوارث طبيعية أخرى.
وفقاً لإحصائية غير رسمية لشعبة زراعة سنجار، حوالي 4000 شجرة تين جفت أو ذبلت ثمارها خلال عام 2023 بسبب تداعيات التغير المناخي والحرب.
تقول رنا بأنه منذ 2003، ما لا يقل عن مليون شجرة في سنجار تأثرت بالتداعيات وماتت فضلاً عن الأضرار التي لحقت ببيئة وزراعة المنطقة جراء أحداث 2014، ما دعا لمواجهة هذا الواقع المرير عن طريق إطلاق مبادرة "لنجعل من سنجار جنة خضراء".
"هذه المبادرة سيكون لها دور في مواجهة التصحر الذي يهدد المنطقة. إذا لم نتحرك بسرعة فسيؤثر التصحر ليس فقط على التربة بل على جميع مجالات الحياة"، وناشدت رنا السكان للتكاتف من أجل إعادة الحياة الى الأرض وتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
وفقاً للإحصائيات الرسمية للحكومة العراقية، أكثر من 53 بالمائة من مساحة العراق معرضة لخطر التصحر، وأن آلاف الأشخاص يهجرون مناطقهم سنوياً بسبب التصحر.
" تهديد حقيقي يواجه ستة آلاف شجرة معرضة للجفاف في قرية تيرف شمال جبل سنجار، نفس المشكلة ستطال المناطق الأخرى إن لم نتخذ إجراءات عاجلة، في هذا الإطار تصبح حملة زراعة مليون شجرة أمراً ملحاً لاستعادة طبيعة سنجار ومجابهة تداعيات تغير المناخ، على حد قول رنا.
الأولوية لأشجار التين والزيتون
مبادرة المليون شجرة تركز على زراعة الأشجار المثمرة، تحديداً الزيتون والتين في كافة مناطق سنجار لإنعاش البيئة وقطاع الزراعة في عموم القضاء.
تقول رنا إن "الشتلات يتم تكثيرها بالأقلام ويعتنى بها إلى أن تصبح شجيرات ومن ثم توزع على المستفيدين".
المشروع خصص رابطاً الكترونياً يستطيع المواطنون أو البستانيون المتضررون تقديم طلباتهم للحصول على الشجيرات ويتكرر ذلك كل فترة حسب موسم الزراعة ومدى ملاءمة كل صنف منها، بعدها يتم بحسب استمارة الطلب الالكترونية وبعد التقييم، تحديد عدد الشجيرات التي ستوزع على كل شخص من أجل زراعتها.
الى جانب ذلك، تزرع الأشجار من قبل فريق الحملة وتتم دعوة الشباب والمنظمات للمشاركة في الحملة.
هذا النوع من المبادرات يمكن أن تؤدي الى تأمين مصادر دخل لعدد كبير من المزارعين الذين يعجزون عن زراعة الأشجار في بساتينهم بسبب تردي أوضاعهم المالية
"حتى الآن زُرعت 25 ألف شجرة تين وزيتون في مشاتل بيت التعايش بناحية سنوني التابعة لسنجار"، بحسب رنا.
جرى تدريب الشباب على كيفية الزراعة والتكثير بالأقلام بطرق علمية وتمر العملية بعدة مراحل بدءاً من أخذ العُقل أو الأقلام من الشجرة الأم، ثم إعداد التربة الممزوجة بالسماد العضوي لزراعة الشتلات.
في المرحلة التالية يتم تدريب المتطوعين وإعدادهم للموسم الزراعي المقبل، وذلك بحضور خبراء، حيث يشرف حالياً مهندس زراعي على هذه المرحلة.
كما أوضح رنا بأن الهدف من التدريب إعطاء معلومات كاملة وصحيحة للمتطوعين حول أحدث التقنيات الزراعية من بينها اختيار الوقت والموقع المناسب مع تحديد التربة المناسبة وطرق الري النموذجية.
الحملة بدأت مؤخراً خطوة تطوعية أخرى لإعداد ثمانية آلاف شتلة تين، زيتون ورمان خلال ثلاثة أسابيع لكي توزع الربيع المقبل على المزارعين مجاناً.
يقول ميرزا دينايي بأن الحملة تشجع على زراعة أشجار الزيتون والتين لكي تصبح مصدراً معيشياً لسكان المنطقة الذي قضوا سنوات في النزوح وبدأوا بالعودة تدريجياً، "نوزع أشجار التين والزيتون على المزارعين مجاناً، بالأخص الذين تضرروا بسبب الجفاف".
يشتهر جبل سنجار والقرى المحيطة به بأشجار التين والزيتون، ويعرف قضاء سنجار غربي محافظة نينوى بأحد مناطق العراق التي تمتاز بإنتاج أجود أنواع التين، وتشتهر الى جانب التين، بإنتاج العنب، والعسل، والتبغ وعشرات المحاصيل الأخرى. ويعد زيتون سنجار من أجود الأنواع خصوصاً لإنتاج الزيوت.
تمتاز أشجار التين والزيتون بقدرتها على مواجهة آثار التغير المناخي. ينضج محصول التين في الفترة من نهاية شهر حزيران حتى نهاية تشرين الأول في درجات حرارة تتراوح بين 29 و 38 درجة مئوية، فيما يستمر موسم قطف الزيتون من تشرين الأول حتى نهاية العام، وينمو في درجات حرارة تتراوح بين 20 و 30 درجة مئوية، لكن كلا الشجرتين قادرتان على تحمل درجات حرارة تتجاوز 40 درجة مئوية.
مدير شعبة زراعة سنوني، بركات عيسى وصف حملة زراعة مليون شجرة في سنجار بأنها "ايجابية جداً" لإنعاش قطاع الزراعة وبيئة المنطقة، "هذا النوع من المبادرات يمكن أن تؤدي الى تأمين مصادر دخل لعدد كبير من المزارعين الذين يعجزون عن زراعة الأشجار في بساتينهم بسبب تردي أوضاعهم المالية".
في عام 2021، بلغ إنتاج محصول التين في ناحية سنوني التابعة لسنجار 75 طناً فقط من 150 ألف شجرة تين، وصل الإنتاج في عام 2019 إلى 150 طناً. وأشار بركات عيسى إلى أن هذا الفرق الملحوظ يعكس الانخفاض الكبير الذي طرأ على انتاج محصول التين، ويأمل أن تؤدي المبادرة الى رفع الانتاج.
مستفيدون ومتطوعون
مبادرة زراعة مليون شجرة في سنجار أفادت شريحة واسعة من المجتمع، وعززت التكاتف، فقسم منهم تطوع لإعداد الشتلات لكي يتولى آخرون زراعتها في موسمها، ومن ثم تتطوع المجموعة المستفيدة من جديد ليتولى غيرهم الزراعة، وتستمر العملية على هذا المنوال.
فائزة عمر (23 سنة)، تطوعت في سنوني لجمع الأقلام لمشتل بيت التعايش، "كما انني أعبئ الأكياس بالتربة الممزوجة بالسماد العضوي لكي تصبح جاهزة لزراعة الأقلام وأشارك في الاعتناء بالشتلات".
"لدي رغبة كبيرة في الزراعة والاعتناء بالأشجار، أشعر بالفخر كوني أقدم خدمة لمدينتي"، حسبما قالت فائزة.
هذه الحملات أصبحت مصدر إلهام لمبادرات أخرى، هذا العام أطلقت إحدى منظمات المجتمع المدني حملة لزراعة الشتلات في أربع مناطق شمالي قضاء سنجار لحمايتها من التصحر وزيادة نسبة المساحات الخضراء.
بايزيد خالد (25 سنة) شاب متطوع من أهالي مجمع خانصور يتولى ضمن مهامه في حملة التشجير جمع أقلم أصناف مختلفة من التين، "أحضرت ما بين 1000 و1500 قلم من أصناف التين والزيتون"، ويقول بأنه يهوى الزراعة منذ الصغر لأن والده كان يزرع التبغ.
المناظر التي اعتاد بايزيد على رؤيتها في صغره لم تبق على حالها، فاللون الرمادي بات طاغياً، "كنت أقول دائماً، ليتنا نستطيع إعادة الحياة الى مدينتنا... حين سمعت بالمبادرة التحقت بها دون تردد، في البداية كان عددنا قليلاً لكن الدعم يزداد يوماً بعد آخر".
حسب تقرير للأمم المتحدة، قبل حرب داعش، كانت الزراعة مصدر الدخل الرئيسي لحوالي 85 بالمائة من سكان سنجار ، لكن هذا القطاع تعرض لأضرار كبيرة.
عمر خلف (45 سنة)، أحد مزارعي سنوني المتضررين، استفاد من المبادرة، حين سمع بها من أصدقائه "توجهت مباشرة لتقديم المساعدة، لأنني أملك أرضاً تسع لزراعة ألفي شجرة، هذه المبادرة كانت مفيدة جداً لي ولأصحاب البساتين".
ويقول عمر إن سنجار بحاجة لمثل هذه المبادرات، "ازرعوا ولا تقطعوا، الأشجار مفيدة للجبال ايضاً".
في سنجار أيضاً، أطلقت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية الشهر الماضي حملة تطوعية بالتعاون مع البلدية لزراعة الأشجار في القضاء، وذلك في إطار مبادرة للأمانة العامة لرئاسة الوزراء لزراعة مليون شجرة بهدف مكافحة التصحر في جميع المحافظات.
التحديات ليست قليلة
تداعيات التغير المناخي تزداد وسارع يوماً بعد آخر، ويتطلب هذا خطة محكمة من قبل الحكومة حيث أن منظمات المجتمع المدني والمبادرات لا تستطيع لوحدها مواجهة هذه التداعيات.
تقول رنا بلو، "نحتاج الى الدعم اللوجستي لتوفير المستلزمات الرئيسية للمشروع، الى جانب تنظيم دورات تدريبية للمتطوعين لضمان استمرار ونجاح المبادرة".
لكن المشكلة تمثل في أن سنجار لا تزال تعاني من غياب إدارة موحدة، فهي بدون سلطة محلية، كما أن القضاء من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة اقليم كوردستان.
حول التحديات يقول بايزيد إن "أحد التحديات تتمثل بانعدام أو قلة وسائل النقل، إذا توفرت مركبات خاصة للمتطوعين ستسير الأمور بشكل أسهل".
الدمار وآثار الحرب تحديات أخرى تواجه البيئة في سنجار، فوفقاً لإحصائيات وزارة البيئة، لا يزال القضاء ملوثاً بالمخلفات الحربية، في البداية بلغت مساحة التلوث أكثر من 75 كيلومتر مربع، فيما تتواصل عمليات إزالة المخلفات الحربية.
رنا بلو لا تزال بنفس الشغف الذي كانت تتمتع به في بداية الحملة وتقول "نؤمن بأن كل شجرة نزرعها تحمل قصة خاصة بها، وكل قصة فرصة جديدة للحياة، في هذه المبادرة لا عيد فقط الحياة الى الأرض بل نعيد أيضاً الأمل الى أهلنا، زراعة هذه الأشجار هي لبناء المجتمع وتعزيز روح التعاون، لنترقب جميعاً ونحصد ثمار ما بدأناه".