بمرور الأيام كانت الأرض المهجورة أمام بيت شيرين تتحول تدريجياً الى مكب للنفايات وأصبح منظرها والروائح المنبعثة منها مصدر إزعاج لسكان الحي. قررت شيرين التحرك حرصاً منها على بيئة منطقتها وخوفاً من تحويل جنس قطعة الأرض التي كان من المقرر أن تنشأ عليها حديقة الى أرض سكنية.
قطعة الأرض تقع على الشارع الرئيسي لحي "مجيد بك" وسط مدينة السليمانية، مساحتها 800 متر مربع. بلدية السليمانية خصصتها ضمن خططها لإنشاء حديقة. رغم أن تاريخ تأسيس الحي يعود لثمانينات القرن الماضي لكن قطعة الأرض هذه بقيت مهجورة.
في عام 2019، قدمت شيرين كمال، محامية، والتي قضت سنوات طفولتها وهي تشهد تحول قطعة الأرض الى مكب للنفايات، طلباً الى البلدية للسماح لها بإنشاء حديقة على قطعة الأرض.
"كنت أريد أن نتخلص من النفايات التي كانت ترمى هناك، في بعض الأحيان كانوا يذبحون المواشي فيها ويتركون مخلفاتها، الروائح لم تكن تطاق ومنظرها لا يسر الناظرين، عشت مع هذه المناظر منذ طفولتي"، استذكرت شيرين.
نقطة البداية
ما جعل شيرين تعجل خطواتها كان رؤيتها لإحدى شاحنات (صهاريج) نقل الاسمنت التابعة لشركة بناء وهي تتخلص مما تبقى فيها من الاسمنت وتركها على الأرض المهجورة أمام منزلها. شيرين وثقت ما شاهدته بتصوير مقطع فيديو وفي اليوم التالي أبلغت الشركة عن عزمها "تسجيل دعوى قضائية ضدها إن لم تقم بإزالة الاسمنت".
وقالت شيرين، إن "الشركة اعتذرت وتعهدت بتنظيف قطعة الأرض بأقرب وقت، ثم جلبوا جرافة ومركبة حمل وأزالوا أكوام الاسمنت والنفايات".
الخطوة التالية لشيرين كانت متابعة الطلب الذي قدمته للبلدية، وتقول، "لحسن الحظ قبلوا طلبي وبدأت العمل".
مكب عمره 40 سنة يتحول الى بستان زيتون
بعد تنظيف الأرض من النفايات استأجرت شيرين أربعة عمال على نفقتها الخاصة من أجل تجهيز حفر لزراعة الأشجار، وكلفها ذلك 200 ألف دينار.
فضلاً عن ذلك، اشترت 100 شتلة زيتون بمبلغ 100 دولار وشاركت مع والدتها وزميلاتها في زراعتها.
بعد مرور خمسة أعوام على الطلب الذي قدمته للبلدية، أصبح مكب النفايات بستان زيتون تعتني بها شيرين ووالدتها يومياً، فيما تساعد البلدية عن طريق توفير الماء.
هذه الخطوة جاءت نظراً لأن بلدية السليمانية توقفت منذ سنوات عن إنشاء الحدائق والمتنزهات داخل المدينة وأصبحت عاجزة عن الاعتناء بالحدائق الموجودة بالشكل اللازم.
وأوضح مدير حدائق السليمانية، بهروز سالار، بأن النقص في كوادر البلدية وغياب الدعم المالي من الأسباب التي أجبرتم على إيكال مهمة إنشاء الحدائق للمستثمرين عن طريق إعطائهم قطع أراض لبناء وحدات سكنية بشرط تخصيص 25 بالمائة من مساحة الأرض لإنشاء الحدائق.
"إنشاء الحدائق يتطلب الإدامة، يتقاعد سنوياً 15 موظف في بلدية السليمانية دون تعيين آخرين مكانهم".
لا توجد إحصائية رسمية تحدد نسبة المساحات الخضراء في السليمانية، لكن الحكومة المحلية تدّعي بأن السبة قريبة من 15 بالمائة وهي أقل من المعيار العالمي الذي يشترط أ لا تقل النسبة عن 30 بالمائة.
مدير حدائق السليمانية يقول بأنهم ممتنون لأي مواطن ينشئ حديقة أو يزرع أشجار أمام منزله بشرط الالتزام بالتعليمات.
حسب تعليمات البلدية وقسم الحدائق، لا تمانع البلدية قيام المواطنين بتحويل الأراضي الموجودة أمام منازلهم الى بساتين أو حدائق على أن لا يتم تسييجها ولا تبنى فيها غرف ولا تستخدم لأغراض خاصة.
تقول شيرين كمال، "في البداية اعترضت البلدية على نوع الأشجار واشترطت أن لا تكون اشجار مثمرة لأن التعليمات لا تسمح بذلك، لكنني أصريت على أن تكون مثمرة فوافقت البلدية أخيراً".
باكورة ثمار الزيتون نضجت هذا العام، مراسلة (كركوك ناو) شاهدت ذلك بنفسها، كما أن أطفال الحي يأكلون منذ عامين من ثمار اثنين من اشجار التوت المزروعة في الحديقة.
"هذا العام كان باكورة انتاج أشجار الزيتون والذي وصل الى حوالي 10 كيلوغرامات"، بحسب شيرين.
زرعت شيرين قرابة 100 شجرة زيتون في الحديقة البالغة مساحتها 800 متر مربع، يحيط بها عدد من أشجار التوت والتين.
الحكومة: متى ما أردنا سنزيلها
شيرين مثال لعشرات آخرين في السليمانية ممن بادروا بزيادة نسبة المساحات الخضراء عن طريق إنشاء حدائق صغيرة وأشجار أمام منازلهم، بالأخص في الأماكن التي خصصت مسبقاً من قبل البلدية لإنشاء الحدائق.
شوخان عبدالله (38 سنة)، تسكن في حي شعبي بالسليمانية، تقول بأنها حين اشترت قطعة أرض لبناء منزلها ً في الحي استفسرت عن قطعة الأرض المهجورة الموجودة أمام منزلها فيما إن كانت خدمية أم لا.
"بالتزامن مع بناء منزلنا بدأنا بإنشاء الحديقة، بعد أن علمنا بأن الأرض المهجورة مخصصة لبناء حديقة ضمن خطط البلدية"، وتضيف شوخان بأنها تكفلت بالمهمة لأن البلدية لم تكن مستعدة لتحويلها الى حديقة، وفي نفس الوقت لم تعترض على مبادرتها.
تبلغ مساحة الحديقة التي تعتني بها شوخان مع زوجها 100 متر مربع فقط، لكن إجمالي مساحة الأرض المخصصة لبناء الحديقة في خرائط البلدية أكبر بكثير، قسم منها حولت الى حدائق من قبل الجيران.
"مهمة الاعتناء بالحديقة ليست سهلة إطلاقاً، لأن لدي أربعة اطفال لأعتني بهم أيضاً، أحياناً نستأجر بستانياً على نفقتنا الخاصة، وهذا يكلفنا الكثير".
هذا يعني إن البلدية تستطيع إزالتها متى ما أرادت حتى لو كان عمر الأشجار أكثر من 10 سنوات حسبما شدد المتحدث باسم مديرية الحدائق
مسؤولو بلدية السليمانية قالوا بأنه ليست لديهم إحصائيات حول مساحة الأراضي التي تكفل المواطنون بتحويلها الى حدائق، لكنها ليست قليلة.
تضطر شوخان في الصيف لشراء الماء من الصهاريج المتنقلة لسقي الحديقة، ويتراوح سعر الصهريج بين 15 ألف ديار و20، "لكننا مع ذلك سعداء كوننا نرى منظر الخضرة أمام منزلنا".
الوضع مختلف الى حد ما بالنسبة لشيرين كمال، لأن البلدية توفر لها الماء عن طريق الصهاريج اسبوعياً كما يتولى بستانيو البلدية تنظيف الحديقة مرة كل شهر، لكن مشكلة سقي الحدائق لا تزال أحد العوائق أمام زيادة نسبة المساحات الخضراء في السليمانية.
أنشأت في السليمانية 506 حديقة ومتنزه حتى عام 2024، سبعة منها متنزهات كبيرة و85 منها عبارة عن جزرات وسطية -أنشأت بين الشوارع الرئيسية- ، وذلك وفقاً لإحصائيات مديرية الحدائق.
شيرين لم تخف بأن أحد الأسباب التي دفعتها لإنشاء الحديقة كان خشيتها من تغيير جنس الأرض الى قطعة أرض سكنية.
وقالت إن "أحد الأخطاء التي ارتكبتاها في البداية كان صغر حجم الشتلات التي جلبناها، حيث كان ارتفاعها يتراوح بين 20 و30 سنتمتر، تطلب نموها وقتاً كثيراً".
حالياً تشرف شيرين بنفسها على سقي الحديقة عن طريق نصب خزانين واستخدام نظام التقطير، جميع المصاريف تكفلت بها شيرين لكنها تقول إن جيرانها أعربوا عن استعدادهم لتقديم العون متى ما طلبت منهم ذلك.
أحد التحديات الأخرى التي واجهت المبادرة تتمثل في أن مثل هذه الحدائق تعد غير قانونية رغم الحصول على موافقة البلدية، "لأن البلدية لم تتولى إنشاءها بنفسها"، بحسب مدير حدائق السليمانية بهروز سالار.
هذا يعني إن البلدية تستطيع إزالتها متى ما أرادت حتى لو كان عمر الأشجار أكثر من 10 سنوات حسبما شدد المتحدث باسم مديرية الحدائق، علي حامد.
"نحن لا نمنع أحداً من تحويل الأراضي التي تقع أمام منازلهم الى حدائق إن كانت مخصصة لذلك الغرض في خرائط وتصاميم البلدية، لكننا أبلغناهم أيضاً بأنه ليس لهم الحق في منعنا من إزالتها متى ما أردنا ذلك".
يجب أن ندرك بأن كل شجرة تتطلب الكثير من الجهد حتى تنمو ويصل عمرها الى 10 سنوات، لا يعقل أن تزال حينذاك
تأتي هذه المبادرات في وقت تشدد فيه الحكومة المحلية في السليمانية على أنها تعجز في الوقت الحاضر عن إنشاء مزيد من الحدائق والمتنزهات بسبب عدم توفر الميزانية اللازمة، وقال علي "كل قطعة أرض مساحتها دونم أو أكثر ليس لدينا الامكانية لتحويلها الى حديقة".
لكنه أوضح بأن "أي شخص يقرر تحويل قطعة الأرض الواقعة أمام منزله الى حديقة على أن تكون مخصصة أصلاً لبناء حديقة نستطيع توفير 200 الى 500 شتلة ومساعدتهم في السقي والتنظيف".
كبديل لزيادة نسبة الخضرة، تلزم بلدية السليمانية الشركات الاستثمارية تخصيص 25 بالمائة من مساحة الأراضي التي تمنح لهم لبناء وحدات سكنية للمساحات الخضراء، ويعد ذلك جزءاً من القوانين والضوابط المعمول بها في اقليم كوردستان.
معروف مجيد، رئيس منظمة تعنى بالبيئة، يشدد على أهمية هذه المبادرات من أجل زيادة نسبة الخضرة، لكه يرى بأنها تواجه بعض العراقيل.
"حين لا تقوم الحكومة بواجبها لبناء الحدائق، يجب أن يكون لديها على الأقل تصميم أساسي (ماستر بلان) لهذه المواقع، لأنه من غير المعقول أن تزيل فيما بعد الأشجار التي زرعها المواطنون حين تقرر إنشاء الحديقة بنفسها".
وأضاف معروف، "يجب أن ندرك بأن كل شجرة تتطلب الكثير من الجهد حتى تنمو ويصل عمرها الى 10 سنوات، لا يعقل أن تزال حينذاك".