قسم من أشجار "علي نادر" بلغ ارتفاعها مترين، وكانت زيادة المساحات الخضراء حلماً يراوده في طفولته، هذه المبادرة الفردية تنفذ في ناحية رزكاري، نسبة الخضرة فيها أقل من 5 بالمائة.
علي نادر، شاب يسكن في رزكاري التابعة لقضاء كلار بإدارة كرميان، يسعى لرفع نسبة المساحات الخضراء في اثنين من نواحي كرميان. بدأ علي مهمته التطوعية منذ عامين، زرع خلالها أكثر من 1000 شجرة "الكنار".
يزرع علي بذور شجرة الكنار في منزله ويعتني بها الى أن تصبح شتلات يزرعها بعد ذلك في ناحيتي رزكاري وباوه نور.
تحقيق حلم الطفولة
يقول علي بأن حب الأشجار والخضرة يسري في عروقه منذ أن كان طفلاً، "في صغري، كنت أزور القرية التي ولدت فيها كثيراً في الصيف، كنت أفكر كيف أجعل هذه المنطقة خضراء"، الآن وقد أصبح شاباً يريد تحقيق حلمه.
قبل سنوات بدأ بالتشاور مع بعض الخبراء والمختصين لتحديد نوع الأشجار الملائمة لبيئة كرميان، فاقترحوا عليه شجرة الكنار.
علي نادر معلم ابتدائية ويعمل مترجم لغة انجليزية، قرأ بعض البحوث حول شجرة الكنار، "تبين لي بأن الكنار هي الشجرة الأمثل لبيئة كرميان لأن لديها القدرة على تحمل الظروف القاسية".
تمتاز منطقة كرميان التي تضم ثلاثة أقضية، وهي إدارة تابعة لمحافظة السليمانية، بارتفاع درجات الحرارة وتصاعد الغبار في الصيف، ونسبة هطول الأمطار فيها قليلة خلال الشتاء.
الخبير في مجال البيئة والأستاذ في جامعة كرميان، عبدالمطلب رفعت، يقول إن الظروف البيئية في كرميان "متردية"، إذا استثنينا وجود نهر سيروان فيها.
"نسبة الخضرة قليلة، كما أن حماية البيئة والاهتمام بها لم تصبح ثقافة، البعض يدمرون بيئتهم من أجل مصالح خاصة، لا توجد توعية بشأن القضية"، حسبما قال عبدالمطلب.
ويأتي ذلك في الوقت الذي كشفت فيه (آكيو ئير)، وهي شركة سويسرية تعمل في مجال تكنلوجيا جودة الهواء، أن هواء العراق من "الأكثر تلوثاً" بين دول العالم.
بحسب وزارة الصحة في حكومة الاقليم، يعد التلوث البيئي أحد اسباب الإصابة بأمراض السرطان، حيث سجلت تسعة آلاف و911 حالة خلال 2023، وتشير الاحصائيات الى أن سرطان الرئة ثاني أكثر الحالات شيوعاً.
تتزامن مبادرة علي نادر مع الواقع المؤسف للمساحات الخضراء في إدارة كرميان، حيث تشير أرقام وبيانات عام 2023 الى أن نسبة الخضرة في 16 بلدية تابعة للإدارة كانت 5.7 بالمائة فقط وهي أقل بكثير من المعيار العالمي الذي حدد النسبة بأن لا تقل عن 30 بالمائة.
وقال عبدالمطلب إن "نسبة الخضرة في مكز قضاء كلار 10 بالمائة، وهي أقل من 7 بالمائة في المناطق الأخرى"، مشيراً الى أن "هذا العصر هو عصر التغير المناخي وأقل ما نفعله هو إيلاء الأهمية للغطاء النباتي لمواجهة هذا التغير، يجب أن لا نقلل من أهمية زراعة الأشجار".
وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، يأتي العراق في المركز الخامس بين البلدان الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية.
قضاء خانقين محاذي لحدود إدارة كرميان ويمتاز بنفس البيئة والمناخ تقريباً.
يقول عبدالمطلب، إن "الخطوة الأولى للتكيف وتقليل آثار تغير المناخ تبدأ بزراعة الأشجار".
زراعة الأشجار بشكل تطوعي عمل مهم للحفاظ على البيئة... زراعة 1000 شتلة تؤدي الى زيادة المساحات الخضراء لأن كرميان تعاني من قلة مساحة الغطاء النباتي
أياد محمد، ناشط بيئي في كرميان، قال "توجد مشاكل بيئية كثيرة في كرميان، على سبيل المثال، افتقار المنطقة لحزام أخضر في الجنوب لصد العواصف الترابية، حرق وتشويه بيئة نهر سيروان التي تعد مصنعاً لإنتاج الأوكسجين... المشاريع السكنية ألحقت أضراراً كبيرة ببيئة كرميان، فهي لا تلتزم بتخصيص المساحة المحددة للخضرة".
خطوة لمواجهة المخاوف
أطلق علي نادر مبادرته في عام 2022، كان يزور ضفاف نهر سيروان بسيارته الخاصة لإحضار عينات من تربة المنطقة التي تسمى "دهله".
بعد ذلك يشتري أكياس خاصة بزراعة الشتلات ويزرع بذور شجرة الكنار في منزله ويعتني بها حتى تصبح شتلات.
"عندما يحين موعد زراعة الشتلات، أطلب من بلدية ناحية رزكاري تحديد موقع لزراعتها، وأضاف علي، "خلال السنتين الماضيتين زرعت ما لا يقل عن 1000 شجرة كنار".
"هدفي الرئيسي من المشروع الى جانب التشجير، نشر رسالة للشباب والأطفال ليكونوا حماة للبيئة، على الأقل أن لا يصبحوا جزءاً من أسباب تدمير البيئة".
وقال عبدالمطلب رفعت، "زراعة الأشجار بشكل تطوعي عمل مهم للحفاظ على البيئة... زراعة 1000 شتلة تؤدي الى زيادة المساحات الخضراء لأن كرميان تعاني من قلة مساحة الغطاء النباتي".
صبيحة محمد (48 سنة)، معلمة تسكن في ناحية رزكاري قالت "ما يقوم به علي نادر عمل مقدس، حين علمت في بادئ الأمر بأنه قام بزراعة تلك الأشجار، تطوعت لسقيها، أردت أن تكبر ونستظل بها، لكنهم أخبروني بأنها لا تحتاج للسقي، لأن هذا النوع من الأشجار يحتاج لكمية قليلة من الماء... يسعدني ما قام به ودائماً ما أذكره لطلابي كنموذج يحتذى به".
وأشار الناشط البيئي أياد محمد الى أنه مطلع على ما يقوم به علي، "هذا شعور بالمسؤولية تجاه البيئة والتربة... الجهد كله على عاتقه لكن الفائدة تعم على الجميع".
الكنار أكثر ملائمة لبيئة كرميان
شجرة الكنار التي اختارها علي والتي وصل ارتفاعها الآن الى مترين، من الأنواع التي تتحمل التغيرات المناخية وتنمو في بيئات مختلفة، تحتاج للقليل من الماء، ولهذا أهمية خاصة بسبب قلة تساقط الأمطار في كرميان.
الكنار، ويطلق عليها ايضاً السدر أو النبق أو شوكة المسيح، من خصائصها أن جذورها تتغلغل في عمق التربة
الكنار من الأشجار الشوكية التي تحمل الرياح والجفاف والعطش وارتفاع نسبة الأملاح في التربة.
وجود كميات كبيرة من الكربوهيدرات في جذورها يساعدها على التحمل، كما أن الشجرة لها قابلية إصلاح الأضرار التي تلحق بها مثل الحرائق، وفقاً لمتابعات علي نادر.
ويقول علي، إن "أهمية هذه الشجرة لكرميان تكمن في قدرتها على التأقلم مع درجات الحرارة العالية، فهي تنمو أيضاً في المناطق الصحراوية التي تتراوح فيها نسبة الأمطار السنوية بين 50 ملم و300 ملم.
كما أن الكنار شجرة مثمرة ويستفاد من ثمارها كغذاء ومصدر للدخل وكذلك كعلف للمواشي.
ويرى الخبير في مجال البيئة والاستاذ في جامعة كرميان، عبدالمطلب رفعت أن من المهم زراعة أشجار مثمرة الى جانب الأشجار غير المثمرة، بالأخص في الأزقة وعلى أرصفة الشوارع، لأنها تجعل المواطنين يحافظون عليها من أجل ثمارها.
تباع ثمار الكنار في السوق كنوع من الفاكهة، أوراق الشجرة مصدر جيد لعلف المواشي كما تستخدم أغصانها الشائكة لنصب الأسيجة، أما جذورها فمصدر جيد للوقود حيث يمكن انتاج الفحم منها.
ما يقوم به عمل رائع ومفيد للبيئة، يهتم ببيئة المنطقة باستمرار، لكنه يزرع تلك الأشجار دون علمنا
ويقول علي نادر، إن "جذع شجرة الكنار متين جداً، لهذا يستخدم لصنع الأبواب والشبابيك والأثاث المنزلي".
من جهة أخرى، تمنع هذه الشجرة التربة من التعرض للتجريف والانهيار، "لأن جذورها تصل لأعماق التربة"، وتساهم في تخصيبها.
كل هذه الفوائد والمميزات دفعت علي لاختيار شجرة الكنار من بين آلاف الأنواع لإنجاح مبادرته.
"إنشاء غابات كثيفة من أشجار الكنار في محيط القرى يؤدي الى تخفيف الكارثة الطبيعية التي تواجهها كرميان، بالأخص مخاطر التصحر".
جادر علي (60 سنة) من سكنة ناحية رزكاري، قال "أتذكر حين زرع العام الماذي بضعة أشجار هنا، لم أكن أتوقع أن تنمو بهذا الشكل".
الخطوة لم تخلُ من التحديات
أوضح علي نادر بأن تنفيذ مبادرته لم يكن سهلاً، بالأخص وسط مجتمع لا يملك الوعي الكافي الذي يجعله يهتم بالبيئة والمساحات الخضراء.
"إحدى المشاكل التي تنهش جسد اشجار وبيئة كرميان، وجود المواشي والدواجن داخل المدن، إدارات هذه المناطق وقفت عاجزة أمام هذه المشكلة".
رئيس بلدية ناحية رزكاري، أرسلان أحمد، لم ينكر وجود هذه الظاهرة لكنه قال بأنها تتجه نحو الانحسار.
وفقاً لإحصائية للمديرية العامة لبلديات كرميان، توجد 243 حديقة ومتنزه كبير في كرميان.
وحول مبادرة علي نادر، قال رئيس بلدية ناحية رزكاري، "ما يقوم به عمل رائع ومفيد للبيئة، يهتم ببيئة المنطقة باستمرار، لكنه يزرع تلك الأشجار دون علمنا، لذا يتعرض لبعض المشاكل، يجب أن يبلغنا مسبقاً لكي نحدد له المواقع ونتمكن من حمايتها والاعتناء بها".
وألمح أرسلان الى أن البلدية ليس بمقدورها في الوقت الحاضر زيادة نسبة المساحات الخضراء، وأن جهودهم تركز على المحافظة على النسبة الموجودة، "لأننا نفتقر للكوادر وبحاجة لصهاريج مياه متنقلة".
وقال اياد محمد، إن "البعض لا يولون أهمية لجهود علي نادر، فيكسرون الأشجار أو يقتلعونها".
مبادرة علي نادر تنفذ بجهد فردي، لكنه يلقى أحياناً المساعدة من بعض أصدقائه أثناء زراعة الأشجار.