عند مدخل قرية "عسكر" تقع عيناك على صفوف من أشجار الصنوبر المزروعة على امتداد خمسة كيلومترات، في حين تضفي 7000 شجرة زيتون منظراً فريداً للمناطق الجبلية المحيطة بالقرية. هذه المبادرة البيئية رغم كونها فردية لكنها جزء من الجهود المبذولة لإدامة الحياة في القرى والحد من الهجرة منها إلى المدن.
الإصرار على مواصلة العيش في القرية وخدمة البيئة يأتي في الوقت الذي زاد فيه النزوح بعموم العراق بين أعوام 2021 و 2023 بنسب تتراوح بين 2 بالمائة و5 بالمائة، وذلك وفقاً لتقرير شبكة العمل الانساني HPN والذي استند الى بيانات المنظمة الدولية للهجرة IOM.
يقف وراء هذه الجهود الاستثنائية في قرية عسكر بناحية آغجلر التابعة لقضاء جمجمال، رجل عمره 70 عاماً يدعى "أنور سليمان". القرية تعرضت قبل أربعة عقود للقصف بالأسلحة الكيمياوية وحملات الأنفال التي حصدت حياة المئات من سكانها التي أخليت بالكامل.
خلال العقدين الماضيين، حين بدأ سكان القرية بالعودة، انطلق أنور بمهمة خدمة الاعتناء بالبيئة بشكل تطوعي من أجل زيادة السماحات الخضراء والحفاظ على نظافة البيئة. بصورة عامة، الحياة عادت الى القرية من جديد.
ما يقوم به أنور يتزامن مع استمرار هجرة السكان من القرى الى المدن، حيث تشير نتائج التعداد الأخير للسكان الذي أجري في 20 تشرين الثاني الماضي الى أن 16 بالمائة فقط يعيشون في القرى، في حين كانت النسبة بحسب تعداد عا 1997 نحو 26 بالمائة.
ضحايا القصف الكيمياوي وحملات الأنفال يعتنون بالبيئة
أنور، أحد الناجين من القصف الكيمياوي الذي تعرضت له قريته وأحد ضحايا حملات الأنفال التي فقد إثرها عدداً من افراد اسرته يقول "حتى الآن زرعت 13 ألف شجرة لأخدم بها بيئة قرية عسكر".
جرائم الأنفال ارتكبت من قبل النظام البعثي برئاسة صدام حسين ضد سكان مناطق مختلفة من إقليم كوردستان ومحافظة كركوك. وفقاً لإحصائيات حكومة الاقليم نحو 182 ألف كوردي راحوا ضحية حملات الانفال بعد أن دفنوا أحياء في صحاري غرب العراق، حكومة الاقليم حددت 14 نيسان من كل عام يوماً لاستذكار الفاجعة.
"هذا شغفي، كما أهدف لنيل رضا الله وتقديم خدمة بسيطة لقريتي".
الى جانب زراعة 7000 شجرة زيتون وتشجير مدخل القرية على امتداد خمسة كيلومترات، قام أنور أيضاً بتشجير مقبرة القرية فضلاً عن زراعة مئات الأشجار داخل القرية.
"قسم من الأشجار التي زرعتها احترقت خلال الصيف أو تعرضت لأضرار، لكنني أعتزم زراعة أشجار أخرى محلها".
رئس بلدية آغجلر، آمانج جوهر، يقول بأنه على اطلاع بالجهود التي يبذلها أنور، "البلدية تعاونت معه في زراعة أشجار الزيتون من خلال توفير عمال لسقي الأشجار في أشهر الصيف".
"وجود مثل هذه المشاريع وتوسيعها مفيد جداً للبيئة من ناحية مكافحة التصحر وآثار التغير المناخي، كما أنها مفيدة للجانب السياحي"، بحسب رئيس بلدية آغجلر.
التغير المناخي في العراق يؤدي بصورة مباشرة الى إخلاء القرى والهجرة الى المدن، بالأخص ما يتعلق بشح المياه وازدياد نسبة التوتر داخل المجتمعات.
مستعد لتوفير الشتلات مجاناً لأي شخص يرغب بزراعتها في القرية والاعتناء بها
حسب استطلاع أجراه المجلس النرويجي لللاجئين NRC في العراق، حوالي 40 بالمائة من المشاركين أشاروا الى أن نسبة التوتر زادت في المجتمع خلال عام 2022، وربطوا التوتر بموجة الجفافا في المنطقة، لكن النسبة تراجعت الى 4 بالمائة في 2023.
"هذا المشروع له علاقة قوية بنسبة الأمطار التي سجلت في عموم البلاد، لأن كمية الأمطار في 2022 كانت أقل مقارنةً بعام 2023"، وفقاً للمجلس النرويجي للاجئين.
آكو مصطفى، شاب من سكنة قرية عسكر، قال، "نقوم سنوياً برش محيط الأشجار بمبيدات نباتات الأدغال لكي لا تتسبب بأضرار للأشجار أثناء وقوع الحرائق".
مشاتل لخدمة البيئة
يملك أنور سليمان مشتلين صغيرين في القرية تؤمن له مصدر عيش وفي الوقت نفسه تخدم هذه المشاتل البيئة.
"مستعد لتوفير الشتلات مجاناً لأي شخص يرغب بزراعتها في القرية والاعتناء بها".
آكو مصطفى، الذي يساعد أنور في إدارة المشتلين قال، إن "الغرض من إنشاء المشاتل هو تعويض الأشجار التي تتضرر جراء الحرائق وغيرها بزراعة أشجار أخرى محلها. الآن أستطيع القول بأننا زرعنا أكبر عدد من الأشجار في قرية عسكر".
الحكومة المحلية في المنطقة من ضمنها بلدية آغجلر ترحب بمثل هذه الجهود الفردية، ويقول رئيس البلدية، "شجعنا المواطنين للحفاظ على البيئة وتحدثنا في المدارس عن دور وأهمية البيئة. قضية البيئة والتغير المناخي قضية عالمية ويجب أن نساهم في حماية بيئة المنطقة وتحسينها".
زيادة المساحان الخضراء يؤثر بشكل مباشر على تقليل انبعاث ثاني أوكسيد الكربون وانتاج المزيد من الأوكسجين، كما يشدد خبراء البيئة على أنها تساعد على زيادة نسبة الهواء النقي والحفاظ على نظافة البيئة.
وفقاً لوزارة الصحة في حكومة الإقليم، يعد التلوث البيئي أحد اسباب الإصابة بأمراض السرطان، حيث سجلت تسعة آلاف و911 حالة خلال 2023، وتشير الاحصائية التي نشرت في اليوم العالمي لمكافحة السرطان (4 شباط) الى أن سرطان الرئة ثاني أكثر الحالات شيوعاً.
وقال رئيس بلدية آغجلر، "خلال السنوات الأربع الماضية زرعنا حوالي أربعة آلاف شجرة في الناحية وذلك في إطار إنشاء ثلاث مساحات خضراء".
الدعم غير كاف
يقول أنور سليمان إن هناك بعض المشاكل والتحديات التي يعجز عن تجاوزها لكنه أكد بأنه لم يفقد الأمل.
في البداية كانت الحكومة تساعدني في أداء عملي، عن طريق توفير عدد من عمال البلدية للاعتناء بالأشجار داخل القرية وفي المقبرة، لكنها توقفت عن تقديم هذا الدعم منذ عامين".
للأسف المواطنون لا يتعاونون معنا بالشكل اللازم في زراعة لأشجار والاعتناء بها
وقوع الحرائق في ناحية آغجلر خلال الصيف، من التحديات الأخرى التي تعيق مشروع أنور سليمان.
خلال الصيف الماضي فقط، احترقت مساحة 12 ألف و397 دونماً من الأراضي ضمن حدود 15 قرية تابعة لناحية آغجلر، بحسب مدير الناحية، هيمن بهجت.
المنطقة تعتمد بصورة عامة على مياه الأمطار، ويمثل ذلك تحدياً آخر يواجه أنور سليمان.
مناخ المنطقة يمتاز بكونه جافاً وحاراً في الصيف ما يعيق نمو الأشجار.
وقال أنور، إن "خلال الأعوام الماضية زرعنا 1000 شجرة صنوبر، لكن بسبب افتقارن للخبرة لم ندرك بأنها لا تلائم بيئة المنطقة فجفّت جميعها".
واضاف، "للأسف المواطنون لا يتعاونون معنا بالشكل اللازم في زراعة لأشجار والاعتناء بها... غالباً ما أعتني بها لوحدي".
رغم التحديات الموجودة، أثبتت قرية عسكر بأن الجهود المبذولة لخدمة البيئة وإن كانت فردية تؤتي بثمارها.