ينظفون كل بقعة تتكدس فيها النفايات، ولا يقفون عند هذا الحد، بل يطلقون فيها حملة تشجير ويحولونها الى واحة خضراء ويشجعون المواطنين على حماية البيئة.
في ظل تحديات الجفاف والتصحر التي تواجه سنجار، برز فريق "حماة البيئة" كمبادرة شبابية صغيرة تخوض حرباً كبيرة من أجل حماية البيئة، بإمكانيات بسيطة وجهود تطوعية.
حيث تسأل أي عضو في الفريق التطوعي يجيبك بأنه يخشى على سنجار من التصحر والجفاف، لذا يسعون لتقليل أسباب التغير المناخي.
وفقاً لإحصائيات وتحذيرات الأمم المتحدة، يحتل العراق المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر تأثراً بتداعيات التغيرات المناخية،تشمل هذه التأثيرات مخاطر شح المياه، الجفاف، ارتفاع درجات الحرارة، التلوث، بالإضافة إلى العديد من الكوارث الطبيعية الأخرى.
آثار الحرب زادت من المشاكل البيئية في سنجار، حيث تشير احصائيات وزارة البيئة العراقية الى أن بيئة قضاء سنجار لا تزال ملوثة بالمخلفات الحربية، مساحة التلوث كانت تتجاوز 75 كيلومتر مربع والجهود متواصلة لإزالتها.
تم اختيار هذه المناطق لتعرضها لتراكم النفايات بسبب الإقبال الكبير عليها من السكان المحليين خلال موسم الربيع
في آب 2014، سيطر تنظيم "الدولة الاسلامية في العراق والشام-داعش" على قضاء سنجار، نتيجة لذلك تعرض الآلاف من سكانه لحملات القتل والاختطاف والتهجير، كما لحقت أضرار كبيرة ببيئة وطبيعة المنطقة.
من أفكار إلى أفعال... التنظيف والتشجير
مشعل نواف (25 سنة)، مقيم في مجمع "دوهلا" بسنجار ومؤسس فريق "حُماة البيئة" في القضاء.
واصفاً الدافع وراء تأسيسه لهذا الفريق مطلع العام الحالي: هدفنا منذ البداية كان تقديم خدمة بيئية لأهلنا وأرضنا التي داهمها التصحر.
وأشار الى أن اختيار اسم الفريق يعكس رؤية الفريق الشاملة لحماية البيئة بأكملها، "لا نقتصر على جانب واحد، بل نعمل على كل ما هو مفيد للبيئة".
بدأ الفريق أولى خطواته في أيار 2024 بحملة تنظيف واسعة شملت المواقع السياحية ومراكز المدن، مثل مركز سنجار، سنوني، كرسي، دوهلا، وصولاغ، والتي تشكل مساحات واسعة في القضاء.
"تم اختيار هذه المناطق لتعرضها لتراكم النفايات بسبب الإقبال الكبير عليها من السكان المحليين خلال موسم الربيع".
مشعل نواف وفريقه التقطوا صور للمناطق التي نفذوا فيها حملات قبل و بعد تنظيفها من النفايات ليوضحوا الفارق الكبير الذي طرأ على بيئة تلك المناطق.
متحدثاً عن هذه المرحلة قال مشعل، "أردنا أن تكون البداية من المناطق التي تشهد حضورًا جماهيريًا كثيفًا، فالبيئة النظيفة هي مسؤولية الجميع، وكان هدفنا الأساسي نشر الوعي بأهمية الحفاظ على هذه المساحات". لا تتوفر احصائية دقيقة عند فريق مشعل لكن الفريق جمع عرات الأطنان من النفايات.
تنقل بلدية سنجار النفايات التي تجمعها الى مكب يبعد 10 كيلومترات عن مركز القضاء، ما يتسبب بإزعاج كبير لسكان المنطقة حيث أن معظم النفايات يتم حرقها.
الوضع في باقي مناطق العراق ليس مختلفاً، لأن النفايات لا تعالج بل تطمر مباشرة تحت الأرض أو يتم حرقها وتنتج عنه أضرار للبيئة والصحة العامة.
بعد نجاح المرحلة الأولى المتمثلة بالتنظيف، أطلق فريق "حماة البيئة" مُبادرة التشجير والتي ركزت على زراعة الأشجار في مناطق رئيسية مثل المفارق الشرقية والغربية لقرية دوهلا،و سنوني، والمناطق المحيطة بالأسواق التجارية والنقاط الأمنية.
يوضح مشعل أن الحملة اعتمدت على خطة عمل مُتكاملة لضمان نجاحها، تضمنت تحديد المواقع عن طريق زيارة الفريق المناطق المُختلفة لتخصيص الأماكن المُناسبة للزراعة بناءً على عوامل التربة، الرطوبة، ومدى الاستفادة منها. وفي المرحلة التالية يتم تجهيز الأرض بشكل كامل لتكون جاهزة لاستقبال الشتلات.
الأشجار والخضرة من المكونات الرئسية للبيئة وحماية التربة والهواء من التلوث، كما تقلل من تأثيرات التغير المناخي، وتؤكد منظمة الأمم المتحدة على أن الحياة لا يمكن أن ندوم بدون الأشجار لأن زراعتها تساهم في خفض انبعاثات الكربون.
مبادرة التشجير لا تزال في مراحلها الأولى، مقارنةً بمرحلة إزالة النفايات، وقد أسفرت الحملة عن زراعة 160 شجرة بجهود ذاتية دون أي دعم من الحكومة أو المنظمات و من أنواع مختارة بعناية، مثل الكالبتوس، البيزيا، السدر، وهي أشجار مقاومة للجفاف وارتفاع درجات الحرارة.
وأشار مشعل الى أن الفريق يسعى لضمان بيئة مستدامة، "قبل زراعة أي شجرة، كنا نتواصل مع الأهالي وأصحاب المحلات أو النقاط الأمنية القريبة ونسألهم: هل ستعتنون بهذه الأشجار إذا زرعناها هنا؟ إذا كانت الإجابة نعم، نكمل العملية، أما إذا رفضوا، وهو أمر نادر، كنا نغير الموقع".
فريق صغير وتحدٍ كبير
يتألف فريق "حُماة البيئة" من 12 متطوعًا، بينهم 3 فتيات و9 شبان، التحدي الأكبر هو عدم وجود جهة توفر احتياجات الفريق، لذا يضطرون للعمل حسب أوقات فراغهم، هذا التنظيم المرن يسمح لكل عضو بالمشاركة بما يتناسب مع التزاماته الشخصية والمهنية.
يقول مشعل، "اختيار أعضاء الفريق لم يكن عشوائيًا، بل حرصنا على استقطاب أشخاص يمتلكون شغفًا حقيقيًا بالعمل التطوعي ورغبة في خدمة مدينتهم، مما ساهم في تشكيل فريق ملتزم وفعّال".
وأضاف بأنه رغم الحماس الكبير لدى الفريق، إلا أن العمل لم يكن خاليًا من التحديات.
المشاركة في حملة مدرسة طيرف كانت تجربة ملهمة، عندما ترى حماس الطلاب وتفاعلهم مع المحاضرات، تدرك أهمية توعية الجيل الجديد
نقص التمويل، جعل أنشطة الفريق تعتمد على جهود المتطوعين وتبرعاتهم المالية البسيطة.
قبل أحداث 2014 كان يعيش في سنجار 340 ألف مواطن من المكونات الدينية والعرقية المختلفة، مثلت الزراعة أحد أهم مصادر العيش الرئيسية للسكان، لكن الحرب ألقت بظلالها على كل شيء، حتى البيئة. يشتهر جبل سنجار والمناطق المحيطة به بزراعة التين، الزيتون، العنب، التبغ وغيرها إلى جانب انتاج العسل.
تقول خلاصة بكر، إحدى المُتطوعات وتبلغ من العمر 24 سنة، "أحببت شغف الفريق عندما رأيت أعمالهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فانضممت إليهم، لكن من أكبر الصعوبات التي واجهتني هي نقص وسائل النقل، ما جعل الوصول إلى بعض المناطق صعباً".
ويوضح أيمن حسين (25 سنة) ، مُتطوع اخر، من سكنة ناحية الشمال"كوني مسؤولًا عن عائلة، أواجه صعوبة في توفير الوقت والمال، لكن خدمة سنجار ورؤيتها أكثر جمالًا ونظافة يستحق كل هذا العناء"
مكافأة أيمن من عمله التطوعي هي كما يقول، "الكلمة التشجيعية من الناس تعني لنا الكثير، لأنها تؤكد أننا على الطريق الصحيح".
مكافحة التصحر
لا تقتصر جهود الفريق على التنظيف والتشجير،فهم يخططون لمشاريع مُستقبلية ويسعون لإعداد جيل جديد لحماية البيئة ومجابهة التصحر.
فريق "حماة البيئة" أطلق مبادرة جديدة استهدفت مدرسة "طيرف" المبنية حديثًا، وأوضح مشعل نواف، قائد الفريق "وصلنا خبر من أحد أعضاء الفريق بأن المدرسة بحاجة إلى تشجير وتوفير حاويات للنفايات، قمنا بزيارة المدرسة لتقييم احتياجاتها، ثم بدأنا بتحديد المواقع المناسبة لزراعة الأشجار".
خلال الحملة، تم زراعة 12 شجرة في مواقع مختلفة داخل المدرسة، بالإضافة إلى توزيع 9 حاويات نفايات على الصفوف.
ولم يقتصر دور الفريق على هذا، بل حرصوا أيضًا على تقديم محاضرة توعوية للطلاب حول أهمية الحفاظ على البيئة، بهدف ترسيخ الوعي البيئي لديهم منذ الصغر.
تقول خلاصة عن هذه التجربة، إن "المشاركة في حملة مدرسة طيرف كانت تجربة ملهمة، عندما ترى حماس الطلاب وتفاعلهم مع المحاضرات، تدرك أهمية توعية الجيل الجديد".
تداعيات التغير المناخي، أجبرت العديد من السكان على الهجرة من مناطق مختلفة من العراق، وبحسب احصائية لمنظمة الأمم المتحدة، نزح حوالي 147 ألف مواطن من مناطقهم في الفترة بين كانون الثاني 2016 و تموز 2024.
ويقول الخبير الزراعي، علي إلياس، إن التغيرات المناخية التي أثرت على المنطقة بدأت منذ ما يُقارب عقدين من الزمن، هذه التغيرات نتجت عن عدة عوامل، منها قطع ما يُقارب أكثر من مليون شجرة من غابات سنجار، والانبعاثات الغازية الصادرة عن معمل الأسمنت، بالإضافة إلى مخلفات الحروب التي ألحقت أضرارًا بالبيئة ، مشيراً إلى أن " الأراضي الزراعية في سنجار أصبحت شبه صحراوية، مما أدى إلى تفاقم معاناة الفلاحين".
في حديثه، قال إلياس "يومًا ما قد نضطر إلى مغادرة سنجار، ليس بسبب الحروب كما كان يحدث في الماضي، بل بسبب الجفاف،الجفاف الذي لا يرحم" ورغم كل ذلك، فقد عبّر عن تقديره للمبادرات البيئية التي تسعى للحفاظ على البيئة وضمان سلامتها، واصفاً إياها بأنها "خطوات ممتازة".
وأضاف الياس"في ظل هذه التحديات، تظل المبادرات الفردية والجماعية أملًا يمكن أن يخفف من حدة الجفاف ويعيد الحياة إلى سنجار".
وفقاً للإحصائيات الرسمية الصادرة عن الحكومة العراقية، يتعرض أكثر من 53% من مساحة العراق لخطر التصحر، وتقول الأمم المتحدة إن العراق يفقد سنوياً 100 ألف دونماً من أراضيه.
من أجل حياة أكثر استقراراً
رغم غياب الدعم من قبل الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، إلا أن فريق العمل حظي بدعم معنوي كبير من السكان المحليين، وتقول خلاصة، "من استطاع المساعدة ماديًا فقد دعمنا، ومن لم يستطع، لم يبخل علينا بالتشجيع والدعم المعنوي الذي كان له أثر كبير في استمرارنا".
وتضيف بأن المكتسبات ليست قليلة، بيئة المدينة أصبحت أجمل، لا تشاهد أكوام النفايات والناس باتوا أكثر وعياً، "البيئة النظيفة ليست لإضفاء الجمال فقط، بل تنعكس على الصحة وتوفر حياةً أكثر استقرار".
لا تزال سنجار تعاني من عدم وجود إدارة موحدة فيها ولا تتمتع بسلطة محلية، كما إنها من المناطق المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان، لذا يتطلع المواطنون لما يقدمه المتطوعون.
هدفنا ليس فقط زراعة الأشجار، بل زراعة الأمل
يقول أيمن إن سنجار عانت كثيراً بسبب الجفاف ومخاطر التصحر، وأن الوقت قد حان لتبديد جزء من هذه المخاوف، "نريد أن نثبت أن الشباب لديهم القدرة على إحداث تغيير حقيقي وإيجابي".
لم تقتصر جهود الفريق على زراعة الأشجار فحسب، بل امتدت لتشمل المتابعة الدائمة لضمان نجاح المبادرة، "قمنا بجولات تفقدية منتظمة لمراقبة الأشجار المزروعة، لضمان العناية بها ومنع أي إهمال قد يهدد نموها".
وأوضح مشعل قائلاً، "رغم كل الجهود الذاتية التي نبذلها، يبقى الدعم المالي ضرورة لا غنى عنها بالنسبة لنا، فهو المفتاح الذي يمكننا من توسيع نطاق عملنا، فبدلًا من زراعة 10 أشجار فقط، سنتمكن من زراعة 100 شجرة أو أكثر".
وقال مشعل، " نريد أن نظهر التغير يبدأ بخطوات صغيرة، وأن العمل الجماعي يمكن أن يحدث تغييرًا كبيرًا، سنستمر في عملنا، سواءً حصلنا أم لم نحصل على الدعم المالي".
"هدفنا ليس فقط زراعة الأشجار، بل زراعة الأمل"، بهذه العبارة اختتم مشعل حديثه.