النفايات التي تجمع من أحياء ومناطق السليمانية تنقل إلى منطقة "تانجرو" بأطراف المدينة حيث كانت فيما مضى مكاناً لطمر أو حرق هذه النفايات، لكنها الآن وبعد المرور بعدة مراحل من المعالجة تحول الى وقود وماء، بدلاً من أن تلوث البيئة.
أكوام من النفايات متكدسة في بوابة المعمل تنبعث منها راوائح لا تطاق، النفايات الصلبة تنقل إلى مكان معين لكي تنتج منها فيما بعد طاقة بديلة، أما ما يتبقى من النفايات السائلة فينقل إلى داخل حوضين لكي لا ينسل إلى المياه الجوفية ومنها إلى نهر تانجرو.
"آسيا" للطاقة المتجددة، اسم المعمل الذي تأسس في السليمانية عام 2020 على مساحة 2500 دونماً، والذي تجمع فيه نفايات المدينة. يحول المعمل يومياً ما بين 800 إلى 900 طن من نفايات المنازل إلى طاقة. 35 إلى 40 بالمائة من النفايات تتحول إلى وقود وما يتبقى عبارة عن رواسب سائلة.
مدير الجودة في مشروع "آسيا" للطاقة المتجددة، نجم الدين أنور، قال إن "المشروع يعالج النفايات الصلبة للمنازل ويحولها إلى وقود بديل يرسل إلى معامل انتاج السمنت. الوقود الناتج يدعى (RDF) ويستخدم كبديل للنفط الأسود أو الغاز ولا يلوث البيئة".
الوقود الذي ينتجه المشروع يستخدم لتشغيل معامل سمنت كاسن ولافارج ومحطات توليد الكهرباء، أما النفايات السائلة فيتم تصفيتها وإعادة استخدامها لسقي المساحات الخضراء وتنظيف المعمل.
ألف طن من النفايات تنقل يومياً إلى مشروع تانجرو، بموجب عقد بين القائمين على المشروع والحكومة
تتكدس يومياً أكثر من 1300 طن من النفايات في منطقة تانجرو جنوبي السليمانية، ويتسبب ذلك باختلاط العديد من المواد السامة والمضرة بمياه تانجرو التي تصب بعدها في بحيرة دربنديخان قبل معالجتها، وتشير دراسة لمنظمة "آزادبون" للتنمية المستدامة إلى أن 60 بالمائة من هذه النفايات هي نفايات غذائية و 20 بالمائة منها نفايات بلاستيكية.
ينقذون البيئة
"ما يقوم به معملنا هو لخدمة البيئة فقط وليس له أي منفعة لصاحب المعمل"، بحسب نجم الدين أنور، الذي أشار إلي أن المشروع إضافة إلى تحويل النفايات الصلبة لنوع من أنواع الطاقة، يعالج المياه الآسنة بحيث يتغير لونها من الأسود إلى لون مائل للصفرة يستخدم لسقي الأشجار غير المثمرة.
قسم من المياه التي يتم تصفيتها في المعمل يستخدم لإطفاء الحرائق.
مشروع معالجة نفايات السليمانية جرى التخطيط له منذ عام 2013، لكن الأوضاع الأمنية في العراق أجل إنشائه حتى 2019، قبل أن يبدأ العمل في نيسان 2020.
الجزء الأكبر من النفايات في العراق لا يتم معالجتها، بل تطمر مباشرة تحت الأرض أو تحرق، ما يلحق أضراراً بالبيئة، وتشير احصائية لوزارة البلديات والسياحة في حكومة إقليم كوردستان إلى أن أكثر من 660 مليار دينار تم صرفه خلال السنوات الخمس من عمر الكابينة الوزارية التاسعة لجمع ونقل وطمر النفايات.
ويقول مدير إعلام بلدية السليمانية، زردشت رفيق، إن ألف طن من النفايات تنقل يومياً إلى مشروع تانجرو، بموجب عقد بين القائمين على المشروع والحكومة، "سابقاً، كانت نفايات السليمانية تطمر في تانجرو ويتم التخلص منها على شكل طبقات، الأمر الذي كان يتسبب بأضرار كبيرة للبيئة والمياه الجوفية".
إعادة استخدام وتدوير النفايات من الطرق الناجعة لمواجهة التلوث البيئي في العراق الذي يأتي في المرتبة الخامسة بين بلدان العالم الأكثر تأثراً بتداعيات التغير المناخي، وفقاً لإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة.
الأستاذ الجامعي والخبير في مجال البيئة، د. صالح مجيد، قال بأنه اقترح تأسيس مشروع معالجة نفايات السليمانية قبل خمس سنوات.
وأوضح أن انتاج الطاقة البديلة بدل حرق النفايات يصب في صالح البيئة، كما أن النفايات السائلة يمكن استخدامها لأغراض الري بعد تصفيتها.
تصفية المياه الآسنة
يوجد في مشروع تانجرو حوضين مستطيلين مكشوفين تصب فيهما النفايات السائلة، لتمر فيما بعد بمراحل المعالجة والتصفية، حيث تتحول إلى مياه مائلة للاصفرار. حتى الآن تم معالجة أكثر من 25 ألأف و821 متر مكعب من المياه الآسنة.
في البداية كان العمال يخشون من التعامل مع هذه المياه، إلى أن بدد أحد موظفي المشروع، ويدعى دانا فرج، تلك المخاوف بعد أن جلب أسماك زينة ووضعها في أحواض صغيرة مُلأت بالمياه الصفراء، ونجحت التجربة.
"تجربتي نجحت، الأسماك كانت صغيرة لكنها بقي على قيد الحياة وهي الآن تتكاثر، بعد هذه التجربة تلاشت مخاوف العمال والموظفين"، بحسب دانا.
انتاج الوقود والطاقة في العالم أحد التحديات الرئيسية والمليئة بالتأثيرات السلبية لأنها تعجل تداعيات التغير المناخي، لذا تحث منظمة الأمم المتحدة على استخدام الطاقة البديلة من أجل حماية البيئة والصحة العامة.
الوقود كالفحم، النفط والغاز، مسؤولة عن انبعاث 75 بالمائة من الغازات الضارة و90 بالمائة من ثاني أوكسيد الكربون.
مياه مجاري المعامل، النفايات الطبية ونفايات المنازل تحتوي على مواد كيمياوية تختلط بمياه تانجرو التي تستخدم لري المحاصيل الزراعية، نسب المعادن الثقيلة فيها كبيرة
المهندس الكيميائي والخبير في مجال البيئة، محمد محمود، يصف جمع النفايات والتخلص منها عن طريق مشروع تانجرو بالمفيد للبيئة والمياه الجوفية، لأنه في غياب هذا المشروع، ستصب النفايات السائلة في نهر تانجرو أو تختلط بالمياه الجوفية، ما يؤثر على صحة الانسان وسلامة المحاصيل الزراعية وكذلك السكان المقيمين في المنطقة.
ويأمل محمد محمود أن يتم تغيير مسار مياه الصرف الصحي لمدينة السليمانية التي تصب حالياً في نهر تانجرو وتحويلها الى بركة ليتم تصفيتها والاستفادة منها فيما بعد لسقي المحاصيل والأشجار. واقترح محمد على الحكومة أن "تنشأ معملاً لإعادة تدوير النفايات الطبية والمعدنية للاستفادة منها كمواد بديلة وفي الوقت نفسه تنظيف البيئة".
وفقاً للتعليمات رقم 4 لسنة 2021 الخاصة بحماية البيئة من التلوث ورمي النفايات، يترتب على خلط النفايات الطبية مع النفايات الاعتيادية الأخرى عقوبات تبدأ من التنبيه وفي حال تكرار المخالفة تكون العقوبة التغريم بمبلغ يتراوح بين 150 ألف و 10 ملايين دينار، وفي حال الاستمرار في ارتكاب المخالفة تكون العقوبة بسحب إجازة العمل وإغلاق المكان.
المتحدث باسم بيئة السليمانية، مصطفى جمعة، قال إن "المياه التي تتبقى من نفايات السليمانية يسمى مياه آسنة، وهناك معايير خاصة لدى هيئة حماية البيئة لتصفية ومعالجة هذه المياه وإعادة استخدامها، حيث يمكن خلطها بالمصادر المائية والمجاري أو استخدامها لسقي المحاصيل، إذا استوفت تلك المعايير يمكن أن تصب مباشرة في مياه تانجرو".
لكن المياه التي يتم تصفيتها في المشروع لم تنل رضا هيئة البيئة لذا يمنعون خلطها بمياه تانجرو، "المياه بحاجة إلى مراحل أخرى من المعالجة، زرنا المشروع وأعطيناهم مهلة لكي يعالجوا الأمر".
ويأتي ذلك في حين حدد قانون إدارة وحماية الماء في إقليم كوردستان رقم (4) لسنة 2022 عقوبة السجن لفترة لا تقل عن ستة اشهر وغرامة تصل إلى 10 ملايين دينار على ارتكاب مخالفات تتعلق بتلويث الموارد المائية والإضرار بصحة الانسان والبيئة.
مسؤول شعبة السيطرة على السرطان في السليمانية، محمد عبدالوهاب، قال إن "مياه مجاري المعامل، النفايات الطبية ونفايات المنازل تحتوي على مواد كيمياوية تختلط بمياه تانجرو التي تستخدم لري المحاصيل الزراعية، نسب المعادن الثقيلة فيها كبيرة وهي ثمانية أنواع لها علاقة مباشرة بالإصابة بالسرطان".
ويقول إن إنشاء المعمل خطوة جيدة ويجب على الحكومة أن تفكر في حلول مماثلة في الأماكن الأخرى كالمستشفيات وحتى مياه الصرف الصحي للمنازل.
وزارة الصحة في حكومة إقليم كوردستان تعتبر التلوث البيئي من أهم أسباب الإصابة بأمراض السرطان، حيث سجلت تسعة آلاف و911 حالة إصابة بالسرطان خلال 2023.
فكرة المشروع اقتبست من مشروع مشابه لشركة ألمانية، لكن مشروع السليمانية لم يتمكن من مضاهاة الشركة الألمانية في معالجة الروائح المنبعثة، ويعترف نجم الدين أنور بأنه رغم اجتياز الماء المصفى الفحوصات المختبرية، لكنها لا تتوافق مع تعليمات هيئة حماية البيئة، لذا أحضروا أجهزة أخرى لتصفية المياه بشكل أفضل لتكون عديمة الرائحة والطعم.
وفقاً لإحصائية لمنظمة الأمم المتحدة، أكثر من 50 بالمائة من مياه المجاري تصب في الأنهر والموارد المائية الأخرى، 11 بالمائة فقط من مياه المجاري يتم معالجتها وإعادة استخدامها.
منظومات تصفية المياه تتغير وفق نوع المياه، فمياه مجاري المنازل تختلف عن المستشفيات، حيث يتم معالجة كل نوع في مصافي خاصة قبل أن تصب في الموارد المائية أو يعاد استخدامها في سقي البساتين، بحسب سرخيل هاوري، طالب دكتوراه في مجال إدارة الموارد المائية.
وقال سرخيل، "في إقليم كوردستان، على سبيل المثال في السليمانية، لا يتم فصل مياه الصرف الصحي وكلها تصب في تانجرو، وهو ما يسبب أضرار كبيرة لسكان المنطقة والزراعة فيها".
المشروع يواجه تحديات
بدأ العمل في المشروع منذ أربع سنوات، لكن الحكومة لم تقدم حتى الآن أي دعم مالي للمشروع باستثناء صكوك بدون رصيد، حسبما أكد مدير الجودة في مشروع آسيا للطاقة المتجددة.
من التحديات الأخرى التي يواجهها القائمون على المشروع تصاعد احتجاجات البعض من سكان المنطقة بسبب الأتربة والروائح المنبعثة من النفايات، ولم يخف نجم الدين أنور بأن معالجة الروائح المنبعثة ليست ضمن حدود إمكانياتهم، لأن كلفتها عالية، في حين لا تقدم الحكومة الدعم اللازم، وبالنسبة للأتربة، ونصب المشروع جهازين لهذا الغرض "انخفضت نسبة الأتربة إلى حدٍ ما".
كل ما يصيبنا من أمراض هو بسبب ذلك المعمل
يقع المشروع في منطقة "تانجرو" على بعد 10 كيلومترات عن مركز مدينة السليمانية، يمر في تانجرو نهر صغير وتضم مناطق سكنية وعدد من القرى.
آسو علي، من سكنة قرية "زالة جزا جاف"، التي تبعد 200 متراً فقط عن المعمل، قال إن "الروائح تسبب لنا إزعاجاً كبيراً، كان على الحكومة أن لا تسمح بإنشاء المعمل في هذه المنطقة القريبة من المناطق السكنية"، المشكلة تتفاقم في الصيف، وتضاف اليها مشكلة تصاعد الأتربة التي أجبرت السكان على مراجعة الجهات الحكومية المعنية عدة مرات.
"صحيح أن هذا المعمل بني من أجل الحفاظ على نظافة المدينة، لكنه يلحق بنا أضرار، بحسب آسو الذي طالب بإيجاد حل نهائي لمشكلة الروائح والأتربة.
المشكلة تطال سكان عدة قرى ومجمعات سكنية أخرى في المنطقة منها زالة العليا، بردكر، زالة السفلى وسموات، التي تقطن فيها 10 آلاف عائلة، تشتكي من مخاطر التعرض لضيق التنفس وأمراض الجلد.
ويقول اخصائي أمراض الصدر والمجاري التنفسية، كامران قرداغي، إن مراكز المدن في إقليم كوردستان أصبحت أماكن لانتشار الأتربة، المواد الكيمياوية والغازات التي تنبعث من عوادم السيارات التي تعد من أسباب الإصابة بأمراض المجاري التنفسية والرئة وللحساسية.
وكشف قرداغي بأن أمراض الربو، الحساسية والمجاري التنفسية كانت منتشرة بنسبة تتراوح بين 7 و 15 بالمائة، لكنها النسبة ارتفعت إلى 27 بالمائة، فضلاً عن ازدياد أمراض الحنجرة والأذن والأنف والعيون بشكل ملحوظ.
قانون حماية وتحسين البيئة رقم 8 لسنة 2008 في إقليم كوردستان وضع عقوبات مشددة لتلويث البيئة تتضمن الحبس والتغريم بمبالغ تصل 200 مليون دينار، حسب نوع المخالفة.
عدنان كريم، من سكنة قرية زالة جزا جاف، عبر عن استيائه من الوضع وقال، "كل ما يصيبنا من أمراض هو بسبب ذلك المعمل"، في إشارة إلى معمل آسيا للطاقة المتجددة.
دعوات لفتح مشاريع مماثلة في كل من كركوك، النجف وبغداد
الأتربة المتصاعدة من المعمل، في حال عدم معالجتها، ستسبب أضرارً بيئية وتلوث الهواء.
واشار الخبير في مجال البيئة، صالح مجيد، إلى أن "هذه الأتربة تسبب أضرار لسكان المنازل القريبة من المعمل، لذا يجب مراعاة هذه المشكلة، كما يتوجب معالجة النفايات السائلة بشكل تام".
من العقبات الأخرى أمام المشروع، اختلاط أنواع مختلفة من النفايات وعدم فرزها، لأن حاويات النفايات في المنازل والأماكن العامة توضع فيها النفايات الغذائية، الزجاجية، المعدنية والبلاستيكية معاً.
مدير الجودة في المشروع يقول بأن المبادرة تنفذ في السليمانية فقط، وبأنه تلقى دعوات لفتح مشاريع مماثلة في كل من كركوك، النجف وبغداد، "لكننا لم نتوصل الى اتفاق لأنهم طلبوا تخصيص حصص لهم"، دون الخوض في مزيد من التفاصيل.