يجلس ابو احمد في عقده الخامس من العمر امام خيمة اعتصامه في ساحة الحبوبي بمدينة الناصرية جنوب العراق، وفي عينيه نظرات التحدي وهو يقول "ثورتنا ستنتصر مهما طالت" بعدما اكمل مؤخرا ترتيب خيمته بمواصفات تدل على ان التظاهرات ستأخذ وقتا طويلا.
يقول ابو احمد لقد "شاركت في الاحتجاجات منذ الاول من شهر تشرين الاول العام الماضي 2019، ومستمر بها بعد مرور ثمانية اشهر"، ويطالب أبو أحمد بإصلاحات سياسية واقتصادية ومعاشية جذرية، رغم ما تعرضت له هذه الاحتجاجات من انتهاكات كثيرة وخسائر بالأرواح املا في تحقيق مطالبهم.
مئات المعتصمين كحال ابو احمد الذي يصفونه بـ"الثائر" مستمرون في تواجدهم بساحة اعتصام الناصرية في اصرار واضح على المضي في احتجاجاتهم الى نهاية المطاف، رغم التزامهم بالشروط الصحية في زمن انتشار فايروس كورونا وتقليل اعدادهم داخل الخيم على شكل وجبات اسبوعية.
رفض "الوعود المخملية"
المتظاهر سلام كاظم طالب في كلية القانون بجامعة ذي قار يتحدث عن دستورية التظاهر والاعتصام بشكله الحالي طيلة الاشهر الماضية، ويقول ان "كل ما تحدثت به الحكومة العراقية السابقة والحالية برئاسة مصطفى الكاظمي عن الاصلاح ومغازلة ساحات التظاهر تندرج ضمن الوعود المخملية".
كل ما تحدثت به الحكومة العراقية السابقة والحالية برئاسة مصطفى الكاظمي عن الاصلاح ومغازلة ساحات التظاهر تندرج ضمن الوعود المخملية
وطالب بتحقق المطالب المعلنة في عملية التغيير السياسي و"اولها محاسبة قتلة المتظاهرين وتقديمهم للمحاكم في خطوة تعبر عن حسن النية ".
ساحة اعتصام الناصرية اتخذت من ساحة الحبوبي وسط المدينة مقرا لها منذ انطلاق الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالإصلاح وهي تحافظ على شكلها لغاية اليوم.
وتنتشر فيها الخيام والسرادق التي تحيط بنصب الشاعر والثائر محمد سعيد الحبوبي احد قادة ثورة العشرين، وتمتد الى الشوارع المحيطة بها، وتبلغ ما يقارب 200 خيمة اغلبها مغلقة والاخر يتواجد بها اعداد قليلة من المعتصمين التزاما بالحجر الصحي.
التهيؤ لجولة اخرى
معتصمون شرعوا مؤخرا بتحديث وتأهيل وتأثيث خيامهم من جديد في اشارة الى الاستمرار والتحدي والتهيؤ لجولة اخرى من التظاهرات والتصعيد الاحتجاجي مع صدور دعوات تحت مسمى "وعد ترجع الثورة" وكذلك لمواجهة ظروف واجواء حرارة الصيف وتداعيات فايروس كورونا.
احدى الخيام وعشرات مثلها تم تغيير ديكوراتها من سرادق الحديد وغطاء القماش والبلاستيك الى غرف كبيرة مبنية من الطابوق والمحجر الخشبي ومؤثثة بأجهزة التبريد والانارة في اشارة واضحة لأهمية الساحة واعطاء الامل والدعم للمعتصمين في الاستمرار بتظاهراتهم وعدم ترك ساحة الاعتصام كما يقول مسؤول الخيمة "محمد حسن".
الناشطة المدنية جنان كاظم والتي تواكب الاحتجاجات منذ انطلاقها تجمعها وزميلاتها خيمة نسوية تقول لـ(كركوك ناو): ان "موقف المعتصمين من حكومة مصطفى الكاظمي لازال رافضا كونها جاءت من رحم المحاصصة الحزبية ولا تنطبق عليها الشروط التي اعلنت عنها ساحات الاعتصام، ومنها ان يكون رئيس الوزراء ومنظومته الوزارية من خارج الكتل السياسية الحالية".
وأوضحت ان المتظاهرين لا يثقون بحكومة الكاظمي كونه كان يشغل منصبا امنيا رفيعا في الدولة العراقية، و"كان شريكا لكل ما جرى وما تعرض له المتظاهرون من قتل واصابات دون الكشف عن المتهمين فيها".
وكان رئيس مجلس الوزراء يشغل منصب رئيس جهاز المخابرات الوطني منذ 2015، لغاية ترشيحه لهذا المنصب من قبل رئيس الجمهورية برهم صالح في 9 نيسان 2020.
ترقب سيد الموقف
المعتصمون في ترقب دائم لما يجري على الساحة السياسية ولديهم انطباع واضح عن كل التطورات وهم في نقاشات ليلية مستمرة حول مستقبل التظاهرات، والموقف من اجراءات الدولة العراقية حول تنفيذ مطالبهم، هذه النقاشات تستمر الى ساعات متأخرة وتخرج بنتائج تؤكد على الاستمرار وعدم التراجع.
عن اسباب هذا الاستمرار يقول المحامي احمد الزهيري احد الناشطين ان "التأكيد على زيادة زخم الاحتجاجات حالما تنتهي ازمة جائحة كورونا يأتي لعدم استجابة الحكومة العراقية لأي مطلب شعبي، واستمرارها في سياسة التسويف وعدم الخوض في مطالب المتظاهرين بشكل مباشر، واكتفاؤها بديكورات تشكيل الحكومة دون خطوات حقيقية تسهم في طمأنة الشارع العراقي".
اما الحاجة طوعة "ام عباس" وهي متطوعة في تقديم وجبات الطعام للمحتجين في ساحة الاعتصام فتقول لقد "قدمنا الكثير من التضحيات ومستمرون في ذلك وهي تقوم بإعداد وتقديم الطعام بوجبات بسيطة لا تتعدى الرز والمرق والخبز لقلة الدعم في ظل الظروف الحالية والاعداد القليلة من المعتصمين".
غياب العدالة واستمرار الفرار من المحاسبة
ذوو ممن قتل في التظاهرات ينظمون المسيرات بين فترة واخرى ويصدرون بيانات مشتركة تطالب الحكومة المركزية بتقديم ومحاسبة المتهمين بقتل ابنائهم الى القضاء العراقي وضمان حقوقهم الاخرى من خلال قوانين مؤسسة الشهداء والذين يبلغ عددهم فقط من محافظة ذي قار اكثر من 100 قتيل والاف المصابين والمعاقين.
يقول ابو الشهيد عباس العبادي ان نار قلبه لازالت مستعرة لفقد ولده وترك له ثلاثة اولاد لا معيل لهم، في حين لم يلمس اي اهتمام من قبل الحكومة بكل ما جرى ولم تقتص من قاتل ابنه ولا مساعدة اولاد "الشهيد" وامه التي تواصل البكاء ليلا ونهارا مفجوعة بابنها الوحيد.
التظاهرات الاحتجاجية في مدينة الناصرية سجلت العديد من المواجهات والضحايا وكذلك شهدت حوادث اغتيال لناشطين وناشطات خارج حدود ساحة الاعتصام كان اخرها اغتيال المتظاهر ازهر الشمري امام منزله وسط المدينة من قبل مسلحين مجهولين.
يقول وسام كاظم احد زملاء ازهر الشمري لـ(كركوك ناو) ان ازهر كان من الناشطين الاشداء طيلة اشهر الاحتجاجات، وكان يتحدث بصوت عال، وينشر الفيديوهات المطالبة بالإصلاح والرافضة لأي تصعيد غير سلمي والالتزام بإجراءات الحظر الوقائي الصحي في فترة فايروس كورونا.
"الا ان صوت الناشطين كان يخيف الطرف الاخر الذي لا يريد استمرار هذه التظاهرات، ما ادى الى اغتياله بأطلاق الرصاص من قبل مسلحين مجهولين دون ان تحرك الجهات الامنية والحكومية ساكنا للبحث عن الفاعلين" هكذا يقول كاظم.
التشكيك بالإجراءات الحكومية
الاجراءات الحكومية التي اعلن عنها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ومنها اطلاق سراح المعتقلين من المتظاهرين لم تلقى ترحيبا هنا في ساحة اعتصام الناصرية كما يقول المعتصمون.
مسيرات ليلية تسجلها ساحة اعتصام الناصرية بين الحين والاخر يشارك فيها العشرات من المعتصمين رفضا لحكومة الكاظمي في رسالة واضحة على نشاط الساحة وعدم جمودها بعد اكثر من شهرين من الهدوء بسبب الاوضاع الصحية والالتزام بإجراءات الحظر الوقائي.
هذه الرسائل تتخللها نشاطات في النهار احيانا ومنها التصعيد من خلال حرق الاطارات وقطع احد التقاطعات المهمة وسط المدينة وهو تقاطع بهو الادارة المحلية من اجل ايصال رسالة احتجاجية.
عن ذلك يقول المتظاهر وائل حسن "نريد اسماع صوتنا والتأكيد على قوة التظاهرات وعدم تراجعها كما تتصور الحكومة المركزية نتيجة الهدوء الحاصل في ساحات الاعتصام ".
شماعة "كورونا"
"كورونا حائط صد تختبئ خلفه الحكومة المركزية في مواجهة التظاهرات الاحتجاجية" هكذا يصف المتظاهر محسن جاسم واقع الاستمرار بالحظر الوقائي الصحي، والذي يرى "ان استمرار الحديث عن هذا الفايروس وتداعياته منح الحكومة متنفسا وحرية في التخطيط وحياكة الاتفاقات السياسية ومحاولة النيل من التظاهرات وتمييعها تدريجيا وهذا لن يحصل ابدا".
احباط وتشكيك في تحركات رئيس الوزراء الكاظمي الاخيرة كما يقول الناشط في الاحتجاجات وسام علي والذي يصفها بـ "الدوران في ساحة المؤسسات العسكرية بعيدا عن ساحات التظاهر والتي تعتبر اساسا محوريا في تحقيق النجاح والامساك بدفة العراق من جديد ووضعه على المسار الصحيح في حال تحقيق تلك المطالب".
ويضيف علي ان "تجاهل ساحات التظاهر والخوض في فلك ارضاء الكتل والاحزاب السياسية سيعيد التظاهرات من جديد قريبا وبتصعيد اعلى من السابق حتى تسمع الحكومة الجديدة الصوت العالي والالتفات لها والعمل على خط الاستجابة لها وهو الخيار الوحيد لدى المتظاهرين حاليا".
مدينة الناصرية سجلت تغييرات ادارية وامنية لعدة مرات منذ انطلاق الاحتجاجات في تشرين الأول العام الماضي في إطار الصراع السياسي فيها في ظل توقف شبه تام لمؤسسات الدولة ومنها احتراق مباني الحكومة المحلية على اثر تلك الاحتجاجات.
هذه التغييرات شملت تسمية ثلاثة محافظين اخرهم القاضي ناظم الوائلي وكذلك ستة قادة للشرطة اخرهم العميد حازم الوائلي الا ان المدينة لازالت على كف عفريت كون الادارات المتغيرة تتجاذبها الاحزاب الغائبة عن الساحة وتعمل من خارجها.
المحافظ الجديد ناظم الوائلي مضى على استلامه ادارة المحافظة اسبوعين بأمر اداري من رئيس الوزراء السابق المستقيل حينها عادل عبد المهدي ولا يحمل مرسوما جمهوريا كما يقر الدستور بدعم من احد الاحزاب المتنفذة قال في مؤتمر صحفي له "انه سيعمل على تحسين واقع المحافظة المنكوبة وانه يعمل بشكل دستوري وقانوني رغم التشكيك بذلك من قبل اطراف اخرى".
اما العميد حازم الوائلي قائد الشرطة الجديد يقول "انه سيعمل على تامين حماية ساحات التظاهر السلمي ويمنع اي احتكاك بين الاجهزة الامنية والمتظاهرين من خلال سحب قوات مكافحة الشغب خارج حدود المدينة وحصر عملها في اطار تامين حماية السجون وفتح ملف شهداء التظاهرات لأنصاف ذويهم في اجراء لأثبات حسن النية تجاه ما تتحمله المحافظة حاليا من ضغوطات شعبية وسياسية وامنية ".
ورغم كل هذه التطورات المتأرجحة في واقع مدينة الناصرية لازال المعتصمون يعدون العدة لمستقبل جديد في صورة الاحتجاجات للضغط على الحكومة المركزية وتحقيق مطالبهم المعروفة في تعديلات دستورية على صعيد قانون الاحزاب والانتخابات والهيئات المستقلة وعدالة توزيع الثروات.
وذلك من خلال تطوير فعاليات ساحة الاعتصام وتأهيل سرادقها استعدادا لموسم صيفي ساخن على الصعيد السياسي كما تركنا الحاج ابو احمد وهو يقوم بتأهيل خيمته من جديد.