"هنا خلقنا واقعاً حياً من رصيفٍ ميت لا حياة فيه"، هكذا يختصر جعفر علي، أحمد منظمي، "رصيف الكتب" الذي اصبح متنفساً معرفياً يساهم في دفع عجلة الثقافة إلى الأمام، في قضاء تلعفر، بعد نحو عقدين من العنف والدمار.
ويقول جعفر، " تجدُ أحدهم يعزفُ والآخر يلقي شعراً وثالثٌ يعلق لوحاته، وأطفال يعرضون رسوماتهم، وآخرون يتبادلون الكتب".
ويساهم الرصيف في اظهار الوجه الاخر، غير الذي اعتادت على نقله وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، الوجه الذي كان يتمثل بالتفجيرات والقتل والخراب.
ويؤكد علي ، ان "بين العناوين تجد كتباً تركمانية وتركية لا تتوفر في المكتبات، بل هي من مقتنيات الشاعر التركماني الكبير رضا جولاق اوغلو حيث تُعرض هنا دعماً منه للرصيف وتحفيزاً لاستمراره وتشجيعاً للرواد للقراءة".
المرأة التركمانية حاضرة في الرصيف.. رائدةً ومنظِمة
"من الجميل أن الرصيف تجاوز بعض العادات السائدة التي كانت تحرم المراة ارتياد هذه الاماكن، وباتت حواء تلعفر حاضرة بقوة في الرصيف بل تشارك في تنظيم فعالياته باعتبارها أحد أعضاء لجنة الادارة"، بحسب رؤى الافندي، من لجنة ادارة الرصيف.
وتقول الافندي لـ(كركوك ناو) أن "رصيف الكتب مشروعٌ لدعم وتحفيز المواهب المكبوتة في المدينة، وهو اول تجربة تُقام في تلعفر ليكون متنفساً للنشاطات الثقافية، لكلا الجنسين، حيث تشارك فتيات موهوبات في مجالات ابداعية عديدة بينها الرسم والخط والحياكة والشعر".
وحسب التقديرات الرسمية للجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط الاتحادية، لعام 2018، فإن 250,236 نسمة من مجموع سكان تلعفر البالغ 511,004 نسمة، هم إناث بأعمار مختلفة.
رؤى تواصل حديثها قائلة: "شخصياً أشارك في إلقاء كلمات وخواطر أدبية وأشجع على المشاركة الفاعلة للنساء في هذا المحفل".
الفعاليات في الرصيف تشجيع الأطفال على الحضور وخلق روح القراءة والابداع لديهم، وتشرف المرأة فيه على تقديم مسرحيات هادفة للأطفال في مجال زرع حب العلم والمعرفة والمحبة والسلام في نفوسهم.
"ونستثمر المناسبات لايصال رسائل اجتماعية، فعلى سبيل المثال قدمنا فعاليات خاصة باليوم العالمي لمواجهة العنف ضد المرأة" تختتم الافندي كلامها.
يشهد قضاء تلعفر غرب الموصل، نشاطاً ثقافياً واسعاً، عقب تحريره من سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)،حيث تم افتتاح عدة مكتبات ونوادٍ ثقافية، ورصيف الكتب هو مكمل لتلك النشاطات.
ويقع تلعفر، على بُعد 69 كم شمال غرب الموصل، وجميع سكان مركزها من القومية التركمانية، فيما ينتشر العرب والأكراد في بعض النواحي والقرى التابعة له، مثل ربيعة، وزمار، والعياضية، وخضع القضاء لسيطرة تنظيم داعش زهاء ثلاث سنوات، واختطف المئات من سكانها، بينهم نساء واطفال.
"لا يقتصر الرصيف على الكتب، كما يوحي اسمه، بل يشتمل على فعاليات عديدة متنوعة بينها إلقاء محاضرات وجلسات توعية صحية واجتماعية قصيرة، وورش سريعة تتعلق بالاسعافات الاولية والارشادات المرورية". هذا ما يوضحه أشرف سلطان، أحد أعضاء لجنة ادارة الرصيف..
ويقول: " كان للرصيف وقفات إنسانية وتعاطف مع حوادث شهدتها المدينة أو مدن أخرى، كما يضم الرصيف مبادرات ثقافية ومسابقات وإلقاء قصائد باللغات العربية والتركمانية والتركية إضافة إلى معارض الرسم والصور الفوتوغرافية والعروض الموسيقية من العزف على الات مختلفة والأعمال الفنية الأخرى".
ويوضح لـ(كركوك ناو) أن "هدف المشروع بالدرجة الأساس إشاعة روح التعايش السلمي والمحبة، وخلق بيئة للحوار والنقاش الهادف ومحاربة الأفكار الدخيلة، إضافة إلى التسويق لثقافة المدينة على اعتبار أنها مدينة عاشت العنف والدمار وانقطعت عن المدن الأخرى".
هنا تكتشف المواهب الشبابية وتكبر.
"كان لرصيف الكتب خلال الفترة القصيرة التي بدأت فيها فعالياته الفضل في ابراز مواهب شبابية وطاقات كانت غير مكتشفة لاحد" حسبما يرى أحمد محمد صالح، أحد رواد الرصيف.
ويؤكد لـ(كركوك ناو) أن "فعاليات الرصيف لاقت استحساناً كبيراً من قِبل مثقفي المدينة، بل إن رصيف الكتب بات واجهة ثقافية لتلعفر وملتقى لتواصل الأدباء الذين يفتقرون إلى مكان يجتمعون فيه ويتبادلون أطراف الحديث، ومؤسسات ثقافية واجتماعية وفرق تطوعية وأصحاب مكتبات تولت عرض عناوين في مجالات مختلفة".
وشهدت مدينة تلعفر خلال السنوات 2004-2010، أعمال عنف ذات طابع طائفي، خلفت آلاف الضحايا، والمهجرين في صفوف سكانها التركمان، قبل أن تسقط كلياً على يد عناصر داعش صيف عام 2014 وحتى أب 2017.
ويقدم كرار الداؤدي، وهو أحد منظمي الرصيف، تفاصيل أكثر بالقول، ان "رصيف الكتب يقع عند تقاطع البلدية وسط القضاء، أنشأه شباب من ناشطي تلعفر، وبات مكاناً يجتمع فيه مثقفي ومتذوقي الأدب والفن من تلعفر وخارجه".
ويوضح، ان " اولى فعاليات الرصيف انطلقت في تشرين الثاني 2021، وهو مستمر بعطائه بعد ظهر كل جمعة، وهو شبيه إلى حدٍ ما بشارع المتنبي في بغداد، حيث تتم فعالياته على الرصيف بجانب الشارع العام".
وعبر (كركوك ناو)، طالب الداؤدي المنظمات الدولية لدعم الرصيف من خلال تسقيفه، ليكون الرواد على مأمن أيام الأمطار في الشتاء والحرارة في الصيف وليكون المكان مناسباً بما يليق بالفعاليات.
بعد تحرير تلعفر من سيطرة داعش، في أب 2017، عاد نحو 60% من النازحين التركمان إلى مدينتهم بينما ينتشر الاخرون، الذين فضّلوا عدم العودة، في عددٍ من المحافظات الجنوبية والوسطى، لا سيما النجف وكربلاء وبابل، إلى جانب إقليم كوردستان، وكركوك وتركيا. وتسعى الادارة المحلية بالتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في القضاء إلى اعادة اعمار البنى التحتية وتقديم الدعم اللازم للسكان بغية تشجيع النازحين للعودة إلى منازلهم.
"لسنا بحاجة إلى الرئة لنتنفس بقدر ما نحنُ بحاجة إلى الثقافة والكتابة والابداع والرسم لنعبر للعالم اننا موجودون ونصنع الأمل والحياة"، يقول رئيس منتدى تلعفر الثقافي الشاعر زينل الصوفي.