"نحن في نقاش مستمر حول نتاجات ثورة تشرين، نسأل أنفسنا ماذا غيّرنا و ما الذي يجب أن نفعله"، يقول سمير أحمد، أحد منظمي تظاهرات ساحة التحرير في بغداد بأن السؤال الأهم هو ماذا حلّ بـ"الثورة" بعد مقتل المئات و خطف وجرح الآلاف من المتظاهرين؟
هذا السؤال يراود العشرات من ناشطي ومنظمي التظاهرات في بغداد و المحافظات الأخرى وسط وجنوب العراق التي انطلقت في تشرين الأول 2019 و انتهت بعد ثلاثة عشر شهراً.
هؤلاء الناشطون، من أمثال سمير أحمد، وأغلبهم عادوا من حافة الموت، تركوا مدنهم ومعظمهم يعيش الآن في اقليم كوردستان بعيداً عن أهاليهم، بعد أن تعرضوا للخطف، التعذيب، التهديد بالقتل والإهانات. سؤالهم الجدي هو "هل انتهت الثورة؟"
قصة موت محتوم
سمير أحمد (27 سنة)، اسم مستعار لأحد منظمي تظاهرات ساحة التحرير في بغداد، شارك منذ اليوم الأول من انطلاق التظاهرات في 1 تشرين الأول 2019، قبل أن يتعرض للخطف في شباط 2020، ويصف طريقة خطفه قائلاً بأن "شعرة واحدة" كانت تفصله بين الحياة والموت.
ينأى سمير عن ذكر اسمه الحقيقي خوفاً من الانتقام والقتل لمشاركته في التظاهرات. كانت الساعة تشير الى التاسعة والنصف من ليلة 22 شباط 2020، تناول سمير العشاء مع أحد اصدقائه في منطقة الكرادة ببغداد قبل العودة الى ساحة التحرير، وفي طريق العودة توقفت ثلاث مركبات أمامهم، نزل منها عدد من المسلحين واختطفوهما.
"بعضهم كانوا ملثمين، وضعونا داخل مركبتين منفصلتين بالقوة "، واضاف سمير "عصبوا عيني بقوة، وضعوني تحت أرجلهم ولم أعرف أي شيء بعدها عن مصير صديقي... اقتادوني بالمركبة لساعة أو ساعة ونصف، ثم أنزلوني في مكان ما وسجنوني في غرفة دون أن يفكوا رباط عيوني."
"لم أكن أميز الليل من النهار، كانوا يحضرون لي وجبة واحدة أو وجبتي طعام في اليوم متألفة من البطاطس والماء فقط، عاملوني بصورة سيئة جداً، كانوا يحققون معي دائماً تحت التعذيب، أرادوا أن أقول ما كانوا يريدونه."
كانوا يحققون معي دائماً تحت التعذيب، أرادوا أن أقول ما كانوا يريدونه
يقول سمير أحمد بأن عينيه ويديه كانت مربوطة على الدوام، "كانوا يوجهون السباب لأهلي و رفقائي في ساحة التحرير، يبدو أنهم راقبوني عن كثب، كانوا مطّلعين على جميع تحركاتي وأسراري، وكأنهم كانوا معي في نفس الخيمة في ساحة التحرير."
خلال التحقيقات أجبروا سمير تحت التعذيب على أن يقول "القنصلية الأمريكية والألمانية دعمونا مالياً"، وأضاف "كانوا يوثقون التحقيقات بالفيديو، لأنني سمعتهم يقولون قبل بدء الحقيق بأن آلة التصوير غير جاهزة."
"أرادوا مني أن أذكر اضافة الى أمريكا وألمانيا، اسماء بعض القادة السياسيين المعروفين في العراق بصفتهم يقدمون الدعم لنا."
لم يعرف سمير ما الذي حلّ بصديقه، لكن خلال الأيام الثلاثة التي كانوا فيها مخطوفين، خصصت ساحة التحرير جزءاً من نشاطاتها للمطالبة بإطلاق سراح هذين الناشطين.
"المكان الذي احتُجِزت فيه كان هادئاً جداً، لم اشعر بوجود محتجزين آخرين في ذلك المكان."
في ليلة 25 شباط، بعد 72 ساعة من اختطافه، أخرجوا سمير من الغرفة التي احتجز فيها ووضعوه معصوب العينين داخل مركبة.
"أحسست بأن الموت بات قريباً جداً، كان احساساً فظيعاً، تصرفاتهم و قيامهم بسحب زناد السلاح أشعرني بأن الوقت قد حان لقتلي"، وتابع سمير الذي روى الشهر الماضي (كانون الأول) ما حدث له لـ(كركوك ناو) مجهشاً بالبكاء، "كنا نطالب بوطن تكون فيه كرامة الانسان محفوظة و نتخلص من يد الميليشيات."
قادوا المركبة قاطعة نفس المسافة التي قطعتها ليلة خطف سمير، فجأةً طلب أحد المسلحين من السائق أن يتوقف.
"أنزلوني، فكوا قيود يدي ووضعوا فوهة مسدس عل رأسي، قلت في نفسي هذه آخر لحظة في حياتي"، ويضيف سمير "قال المسلح: عليك أن لا تتحرك من هنا أو تزيل العصابة عن عينيك لمدة عشر دقائق... ثم أغلقوا باب المركبة و غادروا."
أنزلوني، فكوا قيود يدي ووضعوا فوهة مسدس عل رأسي، قلت في نفسي هذه آخر لحظة في حياتي
وقع سمير مغمياً عليه، وقال والدموع تنزل من عينيه وهو يروي تلك اللحظات العصيبة "لا أعرف كيف عدت من الموت ونجوت."
بعد استعادته لوعيه، رأى مجموعة من الشباب يحاولون ازالة العُصابة عن عينيه و رش الماء على وجهه، "كانوا يظنون بأنني قد تشاجرت."
أعطى سمير رقم هاتف والده للشبان، بعدها وصل أهله وأقاربه في أربع مركبات الى المكان الذي تُرِك فيه والذي كان طريق بغداد-الكوت الرئيسي.
"نزل أهلي بسرعة من المركبة وحضنوني، وبعد أن وصلت الى المنزل رأيت والدتي راقدة على الفراش بعد أن تدهورت حالتها الصحية بسببي، كان بيتنا اشه بمجلس عزاء."
بعد ثلاثة أيام من نجاته، غادر سمير بغداد متجهاً الى أربيل، لكنه عاد بعد شهر دون أن يزور ساحة التحرير.
"شاركت في بعض الاجتماعات والتقيت ببعض الشباب خارج ساحة التحرير"، بعد فترة عاد مرة أخرى الى اربيل بعد أن أحس بأنه يتعرض للمراقبة وأن حياته باتت مهددة.
في الوقت الحاضر يلتقي سمير و عشرات ناشطي تظاهرات تشرين في أربيل والسليمانية يناقشون مكاسب "ثورة تشرين"، يحددون مكامن الخلل ويتساءلون ما الذي أثمر عنه مقتل المئات من الشباب؟
"ما الذي غيرته "ثورة تشرين"؟
لطالما راود هذا السؤال سمير و رفاقه، فيقول "من الناحية السياسية و الاقتصادية لم تكن لها أهداف محددة... لكن من الناحية الاجتماعية و رفع وعي المواطنين فقد تحققت مكاسب كثيرة."
"فعلى سبيل المثال، نشأ الوعي عند الجيل الجديد بأن هذه السلطة و الكيفية التي تدار بها البلاد غير مناسبة، علاوةً على ذلك لم تُبقِ هذه الثورة أي حدود للتمييز القومي، المذهبي، الديني والتعصب الجنسي، جميعنا ناضلنا معاً من أجل الوطن."
لم تُبقِ هذه الثورة أي حدود للتمييز القومي، المذهبي، الديني والتعصب الجنسي
التظاهرات التي شهدتها العراق امتدت من المطالبة بتوفير الخدمات و فرص العمل الى المطالبة بحلّ الحكومة، اجراء انتخابات مبكرة و تشكيل مفوضية مستقلة.
انحلّت الحكومة و تم تشكيل مفوضية جديدة للانتخابات، لكن ما لم يحدث لحد الآن هو اجراء انتخابات مبكرة وتوفير فرص العمل والاصلاح، كما يؤكد سمير. "قلنا بأن ادارة البلاد بالطريقة التي كانت عليها منذ 17 عاماَ أثبتت فشلها، لا يمكن حكم البلاد على أساس طائفي وقومي، يجب أن لا تُنتهك حقوق الانسان ويجب ضمان حرية التعبير."
ويضيف سمير "لم نقدر على تغيير تلك الأشياء، العراق قد فقد سيادته و لم يبق فيه أي تقدير لأفراده، نرى مجموعة من المافيات تدير البلاد."
لكن سمير لم ينس ذكر مكاسب تلك التظاهرات ويقول "ثورة تشرين غيرت بعض الشباب ممن كانوا يحملون أفكاراً تعصبية أو توجهات طائفية بعد مجيئهم لساحة التحرير و مشاركتهم في الفعاليات... دائماً ما اقول بأن ساحة التظاهرات كانت أكثر فائدة من آلاف الندوات و ورش العمل حول مسألة بناء السلام في العراق."
ويعتبر المتظاهرون استقالة رئيس الوزراء مكسباً آخر، "لكننا في الوقت نفسه غير مقتنعين بحكومة مصطفى الكاظمي، فلم نشهد تغييرات ملحوظة، لم نكن نتحدث عن تغيير الأوجه، بل كنا ننتقد نظام الحكم، أردنا أن تكون القوانين والقرارات للجميع وأن نحترمها... لا تزال الميلشيات والأحزاب تزداد قوتها و تنتهك حقوق الانسان وتستولي على قوت المواطنين"، كما قال سمير الذي شدد على أن قانون الانتخابات لم يرض طموحهم.
أخطاء "ثورة تشرين"
يوجه منظمو التظاهرات انتقادات جدية لأنفسهم ويصفونها بـ"أخطاء الثورة"، ويعتقدون بأنها كانت السبب وراء عدم وصولهم لأهدافهم المرجوة.
وقال سمير أحمد "لم نتمكن من اختيار هيئة لقيادة الثورة، لكي نستطيع عن طريقها ايصال مطالبنا بصورة جيدة و جمع المتظاهرين تحت خيمة واحدة."
واضاف "عدم وجود قيادة كان السبب وراء نجاح رئيس الوزراء الجديد في استخدام رموز الثورة لصالحه من خلال منحهم مناصب في حكومته."
قادة "الثورة" بالأمس وهاربون من التهديدات اليوم
لا توجد للآن احصائية رسمية بخصوص منظمي التظاهرات أو الناشطين الذين يختبئون الآن في مناطق مختلفة من العراق ممن يواجهون التهديدات بالقتل والخطف بصورة مستمرة، وذلك حسب المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق بسبب حساسية القضايا و التستر عليها خشية تعرضهم لانتقام الفصائل المسلحة.
سارا أياد (21 سنة)، ناشطة تعيش في احدى مدن اقليم كوردستان، قالت لـ(كركوك ناو) "كنت مراقباً بصورة مستمرة في بغداد، كانوا يراقبون الحي الذي أعيش فيه والمكان الذي أذهب اليه، لذا غادرت بغداد."
شاركت سارا للمرة الأولى في تظاهرات بغداد في 27 تشرين الأول 2019، كانت مشاركتها في البداية بصورة متقطعة، ثم قررت مع خطيبها البقاء في ساحة التحرير باستمرار.
"عندما أصبحت احدى ناشطات ساحة التحرير، تلقيت في البداية تهديدات عن طريق صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي، وفي أحد الأيام نُشِرَت صورتي مع خطيبي في بعض الصفحات وتعرضت للإهانة، لكن ذلك لم يثبطني، الى أن داهموا ساحة التظاهرات بالأسلحة وأصبحت حياتنا عرضة للخطر"، حسبما قالت سارا.
وفقاً لإحصائية للمفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق، قُتِل 498 متظاهر و 14 شخصاً من القوات الأمنية منذ بدء التظاهرات الى جانب اصابة 23 ألف و 55 شخصاً آخرين بجروح.
كما اعتُقِل خلال تلك الفترة ألفان و 547 شخصاً لا يزال 226 منهم محتجزين، اضافة الى خطف 72 شخص، حسبما قالت عضوة المفوضية العليا لحقوق الانسان بسمة أحمد لـ(كركوك ناو).
ولفتت بسمة الى "عدم وجود احصائية رسمية تخص عدد هؤلاء الأشخاص الذين غادروا ديارهم بسبب تلقيهم التهديدات، لأن هذه القضايا حساسة و سرية."
لا توجد احصائية رسمية تخص عدد هؤلاء الأشخاص الذين غادروا ديارهم بسبب تلقيهم التهديدات، لأن هذه القضايا حساسة و سرية
خلال فترة التظاهرات، أُحرِقَ 387 مقر حزبي، مبنى حكومي ومنازل المواطنين، كما أحيلَت 216 قضية متعلقة بالانتهاكات الى المحاكم.
وفقاً لتقرير أعدته المفوضية، وحصلت (كركوك ناو) على تفاصيلها من بسمة أحمد "لم تستطع الحكومة تنفيذ مطالب الجماهير والناشطين وفشلت في اتخاذ الاجراءات اللازمة بخصوص الجرائم التي ارتُكِبَت بحق المتظاهرين واعلان نتائج التحقيقات."
ويأتي ذلك رغم الوعود التي قطعها مصطفى الكاظمي في بداية توليه منصب رئيس الوزراء بمعاقبة المجرمين والذين يستهدفون المتظاهرين.
تقول بسمة "لحد الآن يقوم ضباط ومنتسبو الشرطة باتخاذ القرارات بشأن قضايا المتظاهرين المعتقلين و المتهمين في قضايا الانتهاكات بدلاً من المحاكم."
أوضاع ناشطي التظاهرات اليوم مماثلة لما كانت عليه خلال التظاهرات، تقول سارا أياد (21 سنة) "لا أستطيع العودة الى دياري، عدت مرة واحدة الى بغداد في منتصف كانون الأول الماضي، لكن سارة سوداء كانت تراقب تحركاتي يومياً فاضطررت لمغادرة بغداد مرة أخرى... لا توجد هنا جهة نشتكي عندها، الأوضاع بقيت كما هي ولم يتغير شيء."
خالد الخالدي، الذي يراقب حقوق الانسان في العراق وقد تولى خلال شهر تشرين 2019 رصد الانتهاكات بصورة ميدانية قال لـ(كركوك ناو) "لا يزال ناشطو التظاهرات يعيشون في خطر كبير وأغلبهم يقيمون في اقليم كوردستان خشية تعرضهم لانتقام الفصائل المسلحة... هذه الفصائل تخشى عودة التظاهرات التي ليست في مصلحتهم."
وطالب خالد الحكومة والمنظمات الدولية والمحلية بأخذ تلك التهديدات بجدية، لا أن تتعامل معها كقضية النازحين.
تقول سارا أياد التي تعيش حالياً في اقليم كوردستان بأنها "تشعر بالحزن" وتضيف "بالنسبة لنا، ساحة التحرير لم تكن مكاناً للتظاهر فقط، كنا نؤمن بأن ساحة التحرير ستكون بداية حياة جديدة للعراقيين، تلك الحياة التي لم تستطع ثورة تشرين تحقيقها."
بالنسبة لسمير أحمد، "ثورة" تشرين لم تنته بعد، "بدأنا الثورة من أجل وطن يعيش فيه الجميع بأمان، تلك الثورة لا تزال متأصلة في نفسي."
"مستمرون، و سنفكر فيما سنفعله والآلية التي سنتّبِعها في المستقبل."