*التحقيق من مخرجات مشروع “صحافة البيانات” لمنظمة انترنيوز
“طالما حلمت بتغيير هذا الواقع الذي لا يلائم عمل النساء، كل شيء في نظام العمل هنا مصمم للرجال ثم يقولون لك: لماذا المرأة غائبة عن سوق العمل؟ لو كنت انا من يدير المكان لأتخذت تدابيرا لجعل حياتنا الوظيفية أقل صعوبة”.
تقول سارة صباح (32 عما) وهي موظفة بالقطاع العام، منتقدة التحديات التي تواجه النساء في بيئة العمل “لا توجد دور حضانة قريبة لنضع اطفالنا فيها، ولا مواعيد عمل مرنة لنرتب أمورنا، هذه العقبات تبدو تافهة بالنسبة لمدرائنا ليس لأنهم معادون للمرأة لكن لأنهم اعتادوا على رؤية هذه المسائل كهموم نسائية لا شأن لهم بها”.
ترى ناشطات في مجال حقوق النساء، ان ظروف العمل غير المناسبة للنساء واحدة من الأسباب التي جعلت أكثر من 90% من النساء العراقيات خارج سوق العمل، مشيرة الى ان غياب تكافؤ الفرص الوظيفية بين الجنسين ادى الى محدودية وجود النساء في المناصب القيادية ما قلل بدوره فرص خلق بيئة ملائمة لاشراك المزيد من النساء في سوق العمل.
تعرب سارة عن قناعتها بأن “ندرة النساء في المناصب الإدارية تقضي على المساهمة المحتملة لوجهة النظر النسائية في صنع القرار، وتحرمها من المشاركة في عمليات التخطيط التي قد تؤدي إلى تهيئة المزيد من أماكن العمل الصديقة للمرأة”.
ما الذي يغيب النساء عن مواقع القرار؟
تقول الدكتورة سعاد قادر، ان غياب المرأة عن المراكز القيادية له تأثير كبير على فرص تمكين النساء وادخالهن في سوق العمل، وهي مشكلة تحتاج الى معالجة جذرية لأنها تعطل طاقات كبيرة كانت يمكن ان تساهم في خلق فرص تنموية مهمة للبلد.
وتوضح الأستاذة الجامعية المتخصصة بالاقتصاد، ان النساء يواجهن عقبات كثيرة اجتماعية وسياسية واقتصادية للوصول الى مواقع اتخاذ القرار “بعضها يرتبط بالثقافة السائدة في المجتمع وبيئة العمل وعقلية وطريقة ادارة المؤسسات الحكومية وبعضها يرتبط بالنساء انفسهن والحدود والادوار التي يرسمنها لحياتهن كما بجملة عوامل اخرى”.
في الجانب الاجتماعي تؤشر قادر وجود قصور في نظرة المجتمع للمرأة، دفعت الى تحديد لائحة مهن ووظائف معينة للنساء او مجالات عمل محددة وضيقة فيما المهن للرجال واسعة ومتنوعة “يتم تقييد النساء بمهن في الغالب ذات طابع انساني كالصحة والتربية والتعليم ويعتبرون ان تلك المهن مناسبة لشخصية وخصوصية المرأة، وهذا يمثل توزيعا جندريا للوظائف”.
وفي الجانب السياسي المعوقات كثيرة أيضا “فالأحزاب تعودت منح النساء مناصب شكلية في اطار تجميل صورتها، لذا نجد النساء غائبات عن اية مناصب فعالة داخل مواقع اتخاذ القرارات”.
بضع نساء لا يمكنهن خلق التأثير
في بيئة مؤسسية مليئة بالتحديات كوزارة الداخلية، هناك من يصارعن لتغيير الواقع كما الرؤية النمطية لعمل النساء وطبيعة المواقع التي يتقلدنها، كالرائد شيماء علي ابراهيم مديرة الشعبة النسوية في دائرة الشرطة المجتمعية في بغداد، فهي واحدة من بين قليل جدا من النساء العراقيات اللواتي حصلن على رتبة رائد، ويشغلن منصب اداري في الداخلية.
مع ذلك تقول الناشطة المدنية المعنية بحقوق المرأة أمل كباشي، ان “عددا لا يتجاوز اصابع اليد من النساء برتبة رائد “لا يمكن ان يكون كافيا لخلق التأثير في صناعة القرار بوزارة الداخلية”.
الواقع ذاته مترسخ وفق ما تظهره الارقام الرسمية في الوزارات والقطاعات الاخرى، فهناك اجمالا إمرأة واحدة تشغل منصب مدير عام او مساعد مدير عام مقابل كل عشرة من الرجال يشغلون المناصب نفسها في الوزارات والمؤسسات العامة.
لا تتجاوز نسبة النساء في منصب مدير عام 7.3%، فيما تقدر نسبة النساء في منصب مساعد مدير عام بـ 8.7%
وبحسب التقرير الذي اصدرته وزارة التخطيط العراقية في العام 2018 (واقع المساواة الجندرية في الوزارات والمؤسسات في العراق) لا تتجاوز نسبة النساء في منصب مدير عام 7.3%، فيما تقدر نسبة النساء في منصب مساعد مدير عام بـ 8.7%.
غالبية نسائية وغياب عن مصدر القرار
حتى تلك الوزارات التي توظف نسبة كبيرة من النساء لا تقوم بالضرورة بتمكينهن من الوصول الى مناصب اتخاذ القرارات او المواقع الادارية، فالنسبة العالية لتوظيف النساء في قطاع التعليم والتي تتجاوز الـ55% من اجمالي موظفي الوزارة، لم تنعكس على تقلدهن مناصب عليا هناك، ونسبة مديرات المدارس تقارب الـ30% مقابل 70% من المديرين الذكور.
تقول الناشطة في مجال تمكين المرأة ايمان علي، ان ذلك يكشف نمطية الثقافة السائدة في المجتمع كما يؤشر غياب خطط للدولة لمعالجة ذلك الخلل المستفحل “فوزارة غالبية موظفيها من النساء لماذا يكون غالبية مراكز صنع القرار الاداري وحلقات الادارة بيد الرجال”.
رغم ذلك الاختلال الكبير، فان النساء في مؤسسات القطاع العام (الحكومي) مازلن أوفر حظا في الوصول الى مواقع اتخاذ القرار، مقارنة بنسبة وصولهن الى مواقع اتخاذ القرار في مؤسسات وشركات القطاع الخاص، فبحسب قاعدة بيانات البنك الدولي يسجل العراق خامس ادنى مرتبة من بين 139 دولة في نسبة الشركات التي تشارك في ملكيتها نساء والتي لا تزيد عن 7%، فمقابل كل شركة تشارك في ملكيتها امرأة في العراق، هناك ثلاث شركات مماثلة في دول الشرق الاوسط، و7 شركات في الدول ذات الدخل المرتفع.
كما ان العراق يقف في ثالث ادنى مرتبة من بين الدول الـ139، في نسبة الشركات التي تضع النساء في وظيفة المدير العام، بنسبة حوالي 2% فقط، ومقابل كل شركة توظف امرأة في منصب المدير العام في العراق هناك ثلاث شركات تديرها نساء في دول الشرق الاوسط، وتسع شركات مماثلة في الدول ذات الدخل المرتفع.
ويشير باحثون الى ان أسباب تغيب النساء عن المناصب الادارية تعود الى مزيد من “التحديات الاجتماعية و الفروق في درجة الكفاءة والتأهيل المسبق”، اذ يلاحظ وجود عدد اكبر من الرجال الحاصلين على مؤهلات تعليمية عالية في مؤسسات الدولة، وبحسب تقرير وزارة التخطيط واقع المساواة الجندرية في الوزارات والمؤسسات في العراق فانه مقابل كل امرأة حاصلة على شهادة عليا (ماجستير او دكتوراه) تعمل في الوزارات والمؤسسات الحكومية، هناك ثلاث رجال يحملون درجات علمية مماثلة.
المتطلبات المزدوجة بين البيت والعمل
ويتفق نشطاء في مجال تمكين النساء مع باحثين اقتصاديين على التأثير الكبير للعوائق الاجتماعية في تعطيل المرأة الموظفة ومنعها من الوصول الى مواقع اتخاذ القرار.
تقول الناشطة ايمان علي: “الموظفة تعاني لايجاد الوقت الكافي لانجاز كل مهامها الوظيفية والمنزلية في آن واحد، الأمر الذي قد لا يترك لها فسحة لتطوير مهاراتها ورفع مستواها العلمي بسبب التزامها بالاعباء المنزلية”.
وهذا ما تعاني منه سارة صباح: “الوقت هو السبب، اريد في أحيان كثيرة تغيير بعض الامور ليجري العمل بانسيابية اكبر، ولكي يتطور الأداء، لكني لا أجد الوقت الكافي”.
وتوضح: “مديري في العمل مستمع جيد، كان يثني على مقترحاتي في السابق لتطوير العمل، لكنني لم اعد كالسابق، فانا الآن اعتني بطفلتي وبوالدي زوجي المريضين، فضلا عن المسؤليات المنزلية الاخرى، اشعر انني اركض في كل مكان، بينما يتطلب اكتساب مهارات جديدة او تنفيذ افكار جديدة وقتا وتفرغا”.
تأخذ سارة نفسا عميقا وهي تنظر الى الكتب المتراكمة على مكتبها الصغير، ثم تنظر الى النافذ وتردد بصوت منخفض “لا يستطيع المرء ان يفكر وهو يركض”.
وبحسب منظمة العمل الدولية تعمل النساء العراقيات داخل المنزل لست ساعات يوميا على الأقل، وهو الوقت الذي يوازي تقريبا عدد ساعات العمل اليومي في الدوائر الحكومية.
حواجز اجتماعية
وتلعب الحواجز الاجتماعية أيضا دورا في الحد من امكانات النساء العراقيات على تطوير قدراتهن وكفاءاتهن الوظيفية وبالتالي تقف عقبة امام تطورهن المهني، اذ يفتقد النساء عموما حرية التصرف، فالحق في العمل لساعات اضافية والحق في السفر والتنقل والمشاركة في الانشطة المختلفة مرهون دائما بموافقة الرجال في العائلة.
تقول رؤى عادل:”لم اصدق نفسي عندما وصلتني رسالة الكترونية تفيد بقبولي في تدريب متقدم لمدة اسبوع في مجال البرمجة في اقليم كردستان، فانا بحاجة الى التدريب المكثف لاكتساب مهارات تضعني في مقعد وظيفي افضل، ولكن شقيقي رفض سفري لحضور التدريب”.
تبتسم رؤى بخيبة امل وتواصل حديثها “لا استطيع التحرك دون موافقة اخي الذي لم ينجح في اكمال دراسته الجامعية.. خسرت اكثر من فرصة تدريبية في السابق، أما الان فأنا اتفادى التقدم لهذه الفرص من الاساس، لان الأمر يكون محبطا جدا في كل مرة”.
تقول الناشطة ايمان، معلقة على جملة المعوقات تلك: القوالب الجنسانية، نظرة الرجال النمطية الى النساء، وحتى نظرة المرأة النمطية تجاه نفسها، تعزز كلها صورتها كشخص غير مؤهل للقيادة واتخاذ القرار وبالتالي تحرمها من الوصول الى مواقع المسؤولية.
الشباب وخلق جيل من القياديات
رغم أن المشاركة الاقتصادية الضعيفة للمرأة العراقية مشكلة متجذرة وهي تتطلب تغييرا جذريا في نمطية التفكير وآليات العمل، إلا أن الشباب العراقي يبدو أكثر انفتاحاً على فكرة تمكين المرأة اقتصادياً ومحاولة إيجاد حلول لتعزيز دورها في المواقع القيادية، فمنذ العام 2014 اجتذبت سلسلة من البرامج التدريبية التي تهدف إلى تمكين الشباب في مجال ريادة الأعمال، مجموعة من الشابات لحثهن على بدء أعمالهن الخاصة.
تم تصميم برامج التطوير هذه لتشجيع الجيل الجديد على تطوير شركاتهم الناشئة الخاصة وتعزيز القطاع الخاص كوسيلة لمعالجة الاختلالات في الاقتصاد العراقي.
يوضح آرون بارتنيك، في تقرير “العقبات والفرص أمام ريادة الأعمال في العراق وإقليم كردستان” الصادر عن معهد الدراسات الإقليمية والدولية (IRIS) في العام 2017 ان “اقتصاد إقليم كردستان والعراق يستندان على القطاع العام بشكل غير متوازن، ومع الانكماش الاقتصادي الذي اجتاح المنطقة بعد العام 2014 تكشفت بوضوح مشاكل الاعتماد المفرط على وظائف القطاع العام”.
ذلك الانكماش الاقتصادي كشف عن مشكلة عميقة تتعلق بفرص العمل المتاحة للشباب التي ستظل طوال السنوات المقبلة محصورة بالقطاع الخاص في ظل عجز القطاع العام عن خلق وظائف جديدة، وهذا يمثل مشكلة مزدوجة للنساء اللواتي تفضل عوائلهن وكتقليد اجتماعي مترسخ العمل في القطاع الحكومي حصرا.
هذا الواقع يفرض تشجيع العمل في الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم (SMEs)، حيث تؤكد دراسة IRIS ان هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة “تمثل أكثر من نصف الوظائف الحالية في جميع أنحاء العالم وتخلق وظائف بأكثر من ضعف معدل الشركات الكبرى، وتأخذ زمام القيادة في عملية الابتكار من خلال توليد أفكار ومنتجات جديدة، وإنشاء أعمال تجارية جديدة”.
لكن نسبة مشاركة النساء في هذه البرامج تعد بدورها مشكلة، فالنساء خاصة في المحافظات الجنوبية يبدين رغبة متواضعة في المشاركة.
يقول ظافر حسن، مدير مشروع (ابتكار من اجل التنمية) احد مشاريع البرنامج الانمائي للامم المتحدة في العراق، ان نسبة مشاركة الاناث في البرنامج تباينت بين المحافظات المختلفة بسبب التباين في مستويات الوعي بهذه الانشطة والانفتاح الاجتماعي.
ويوضح :”خلال فترات نشاط المشروع بين 2015 و2018 كانت نسبة المشاركة الأعلى للذكور والاناث مسجلة في بغداد كونها الأكثر سكانا وانفتاحا، بينما تدنت بشكل ملحوظ في مناطق اخرى كالمثنى، ومن بين 2100 استمارة استلمناها من عموم العراق كانت هناك 21 فقط من المثنى (بنسبة 1.2%) بينها امرأة واحدة فقط”.
هذا يتطلب، بحسب حسن، الكثير من الجهود لتشجيع الاناث على المشاركة “نحاول ابراز مشاركتهم الفاعلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لنشجع الفتيات الآخريات، كما نختار اماكن التدريب بحذر للتأكد من توفير بيئة آمنة، ونحرص على ان تكون بيئة التدريب صحية وودية لجميع المشاركين ليحظوا بتجربة ايجابية يتحدثون عنها فيما بعد مع زملائهم”.
وعن مستوى أدائهن يقول مدير المشروع “في بعض الجوانب تؤدي النساء افضل من الرجال في مشاريعهن، ويعود ذلك الى اظهارهن التزاما اكبر، ويشكل دعم الاسرة عاملا اساسيا في نجاح الشابات في اطلاق مشاريعهن الناشئة واستمرارها، ولكن هذا الاداء يعود بشكل خاص الى ان ظهورهن اسهل، غير ان ذات الظهور يزيد من فرصهن في الحصول على وظائف في مؤسسات أخرى ما يدفعهن لاغلاق مشاريعهن الخاصة”.
رغم بعض المشاريع والمبادرات المدنية، فان التقاليد والقيود المجتمعية والمعوقات السياسية والاقتصادية وغياب برامج حكومية لتغيير الواقع، تبقي النساء بعيدات عن مواقع القرار والمناصب الادارية العليا.
فعدم وجود نساء في مراكز القرار يعني عدم وضع سياسات لمعالجة الغياب الخطير للمرأة عن سوق العمل والذي يعطل فرص زيادة التنمية البشرية
تقول الناشطة نوروز احمد، ان هذا يبقي نحو 15 مليون امرأة في العراق خارج سوق العمل “فعدم وجود نساء في مراكز القرار يعني عدم وضع سياسات لمعالجة الغياب الخطير للمرأة عن سوق العمل والذي يعطل فرص زيادة التنمية البشرية، وهذا يعني ابقاء دور النساء محصوراً بالبيت او في وظائف محددة لاتتعدى 10% من نسبة الوظائف المتوفرة في البلاد”.
تضيف نوروز: “لا توجد خطط ومشاريع تشمل الفضائين السياسي والاجتماعي ككل لتغيير ذلك الواقع. هناك عدم مبالاة غريبة، وكأن الأمر قضاء وقدر لا مناص منه”.