“لا أستطيع تذكر عدد المرات التي ملأت فيها استمارة للتقديم على وظيفة دون جدوى، واعتدت أن لا اجد اسمي في قوائم المقبولين وأن انتظر بكل صبر اتصال القبول الذي لا يأتي وأسمع ذات الحجج المتكررة”.
تقول “دعاء” (30 عاما) التي تحاول منذ ثلاثة اعوام الحصول على فرصة عمل سواء في القطاع العام او الخاص لكن دون جدوى، رغم محدودية وجود النساء في سوق العمل بالعراق وقلة الراغبات أصلا في العمل.
وفق بيانات حكومية فان 87% من النساء العراقيات غير مستعدات او لا يرغبن في دخول سوق العمل، فيما تواجه النسبة الباقية وهن من النساء الراغبات في العمل تحديات مختلفة تعيق حصولهن على الوظائف، بينهن “دعاء” التي تواصل محاولة الحصول على عمل حتى انها اعتادت كما تقول على أسئلة المقابلات التي لم تعد تربكها كما كان الحال في السابق.
مع محدودية نسبة النساء المستعدات للعمل والتي لا تتجاوز الـ 13% من النساء العراقيات، فان من المنطقي ان يحصلن جميعا على عمل، لكن هذا لا يحدث اذ ينتظر بعضهن لفترات طويلة قبل ان يحظين بفرص عمل.
العراق في ذيل قائمة العمالة النسوية
وفق بيانات وزارة التخطيط العراقية فان أقل من 8% من النساء المستعدات للعمل ينجحن في الحصول على عمل فعلا، اذ يسجل العراق رقما قياسيا في غياب المساواة الجندرية، فهو يأتي في ثاني ادنى مرتبة بنسبة العمالة النسائية من بين 130 دولة، بما في ذلك دول الجوار.
وتظهر بيانات البنك الدولي، ان النسبة العامة للعمالة النسائية في الشرق الاوسط ارتفعت من 15% الى 16% بين عامي 2014 و2017، الا ان العراق شهد هبوطا في نسبة تلك العمالة من 11% الى 8% خلال الفترة نفسها.
تعلق الأكاديمية المتخصصة بالاقتصاد الدكتورة سعاد قادر، على تلك الأرقام بالقول :”هذا يعني انه مقابل كل امرأة تعمل في العراق هناك امرأتان تعملان في دول الشرق الاوسط، وخمسة نساء يعملن في الدول ذات الدخل المرتفع”.
امرأة واحدة تعمل من بين كل عشرة، يعني فعليا ان غالبية النساء طاقاتهن معطلة
وتضيف ان وجود “امرأة واحدة تعمل من بين كل عشرة، يعني فعليا ان غالبية النساء طاقاتهن معطلة او على الأقل لا تصرف في سوق العمل المنتجة، وهذا يؤشر حجم قوة العمل المعطلة عموما في البلاد بما لذلك من تأثير على فرص التنمية”.
وتتابع الدكتورة سعاد موضحة النتائج “يترتب على ذلك خسائر في الانتاجية الكلية لعنصر العمل، الأمر الذي يعيق الوصول الى تحقيق نمو اقتصادي ونهوض لجميع قطاعات الاقتصاد القومي مما يضعف من قدرة البلد على الوصول للمستوى المطلوب من التنمية البشرية المستدامة التي لا تتحقق دون مشاركة المرأة وتمكينها”.
وفقا لتقرير اليونسكو الصادر عام 2019، فان 60% من النساء العاملات في العراق يعملن في مؤسسات القطاع الحكومي ويتركزن في وزارات محددة كالتعليم والصحة، غير ان تلك النسبة لا تشكل اكثر من ثلث القوى العاملة في الوزارات والهيئات الحكومية، فهناك ثلاث نساء يعملن في وزارات الدولة مقابل كل سبعة رجال.
التراجع عن العمل
تؤشر تلك الأرقام بحسب المستثمر محمد علي وجود مشكلة في السياسات الاقتصادية للدولة تنعكس سلبا على سوق العمل الذي لم يستطع لأسباب عديدة استقطاب النساء اليه فحسب، بل هو طارد للنساء، نتيجة بيئة العمل غير المناسبة اضافة الى الثقافة والتقاليد الاجتماعية السائدة.
يقول علي، الذي يعمل في مجال المستلزمات الطبية، ان النساء اللواتي ينجحن في تخطي التقاليد الاجتماعية ويخرجن من بيوتهن للانخراط في سوق العمل “كثيرا ما يعدن الى الداخل مرة اخرى ويغلقن الباب بقوة، بسبب ظروف العمل نفسها وحالات الاستغلال التي تحصل دون محاسبة”.
تؤكد دعاء ذلك الكلام: “حصلت على أول وظيفة لي في معهد خاص بالتعليم، كمعلمة بأجر شهري لا يتجاوز الـ 250 دولارا، وواضبت على العمل لنحو خمس ساعات يوميا رغم تدني الأجر، لكن معاهد التعليم ومعظم العمل المتوفر في القطاع الخاص عمل هش وقد لا يستمر، فسرعان ما اغلق المعهد ابوابه لعدم تحقيقه الأرباح وعدت انا الى المنزل”.
تقرير صادر عن وزارة التخطيط العراقية عام 2012 ان حوالي نصف النساء العاملات، أشرن الى وجود تمايز في الأجور لصالح الأقران الذكور في القطاع الخاص
يظهر تقرير صادر عن وزارة التخطيط العراقية عام 2012 ان حوالي نصف النساء العاملات، أشرن الى وجود تمايز في الأجور لصالح الأقران الذكور في القطاع الخاص، في حين اشار ثلثهن الى وجود هذا التمايز ايضا في وظائف القطاع العام.
تقول ليلى طه (43 عاما) وهي مدرسة ثانوية في مدرسة للبنات، ان ذلك يشكل عامل احباط بالنسبة للكثير من الفتيات “شقيقتي الأصغر تخرجت قبل اعوام من كلية الادارة، ولعدم وجود وظائف في القطاع العام عملت لفترات قصيرة في القطاع الخاص، لكنها كانت تشكو من وجود فرق في الراتب بحجة انها فتاة ولا تستطيع ان تقوم بكل متطلبات العمل”.
وتنبه ليلى الى مشكلة أكبر تحول دون دخول النساء لسوق العمل عموما وبالقطاع الخاص بشكل أكبر: “واجهت شقيقتي في فترات العمل المتقطعة العديد من حالات التحرش او المضايقات سوءا من الزبائن او من باقي العاملين معها، لم تتحملها ففضلت ترك العمل”.
تضيف “ليست كل الفتيات يمكنهن تحمل ذلك، او يملكن شخصية قادرة على التعامل مع هذه المشاكل المتكررة، كما ان الكثيرات لا يستطعن البوح بما يواجهنه لأن المشكلة قد تتعقد حال سماع بعض افراد العائلة بذلك”.
توظيف النساء يزيد الدخل السنوي
لا تقتصر اهمية المشاركة الاقتصادية للنساء ودخولهن الفعال في سوق العمل على تحسين ظروف حياتهن الخاصة او ظروف عوائلهن فحسب بل يساهم ذلك في تحسين الاقتصاد العراقي بشكل مباشر.
تقول منظمة العمل الدولية، ان العراق اذا نجح في دفع %25 من النساء الى العمل، فإن اجمالي الناتج المحلي السنوي يمكن ان يرتفع الى 2527 دولارا للفرد الواحد في البلاد، اي ما يعادل 11% من نسبة تعادل القيمة الشرائية، بما يعني تحقيق زيادة اجمالية في الدخل القومي تصل الى 73 مليار دولار.
لا تقتصر مشكلة النساء في سوق العمل بالعراق على النسب المتدنية لمشاركتهن وحجم حضورهن المحدود في السوق فقط بل تتعداه الى وجود عدم توازن في التمثيل النسائي بالقطاعات المهنية المختلفة، فهناك اختلال في توزيع النساء العاملات على الوزارات والمؤسسات المختلفة في القطاع العام، اذ يتجمع عدد كبير منهن في الوزارات الخدمية في حين يقل توظيفهن في القطاعات الصناعية والأمنية.
هذا ما يؤكده تقرير وزارة التخطيط العراقية الصادر عام 2018، فتحظى بعض الوزارات بنسبة عالية من الموظفات النساء، كالبنك المركزي الذي يوظف سبع نساء مقابل كل ثلاثة من الرجال الموظفين، وكذا الامر بالنسبة لوزارة التربية والتعليم التي توظف ست نساء مقابل كل اربعة رجال، في حين يتناصف الرجال والنساء الموظفون في وزارة المالية.
غير ان هناك وزارات اخرى تعاني من التدني الشديد في نسبة النساء الموظفات فيها، وفي مقدمتها وزارة الداخلية التي لا تتعدى نسبة النساء فيها 2%، ووزارة النفط التي لا تتجاوز نسبة النساء فيها 10%.
هذا التباين الحاد في توزيع النساء على القطاعات او الوزارات المختلفة يظهر ان لكل 12 امرأة تعمل في البنك المركزي، هناك تسع نساء يعملن في وزارة التربية، مقابل امرأتين فقط يعملن في وزارة النفط، وامرأة واحدة فقط تعمل في وزارة الداخلية.
تؤكد الدكتور سعاد قادر، ان العوامل الاجتماعية الى جانب سياسات الدولة هي التي تخلق ذلك التباين “إذ تفضل النساء مهن مثل التعليم سواء في القطاعين الحكومي أو الخاص فضلا عن الوظائف المكتبية، كما تفضل اسرهن اعمالا لا تتطلب ساعات عمل طويلة وتضمن لهن الحد الادنى من الاحتكاك مع الذكور، بينما لا تقوم الدولة بأي تحرك جدي لتحسين بيئة عمل النساء في قطاعات كثيرة”.
تقول دعاء “لقد كانت هناك بعض الفرص الجيدة التي أهدرتها بنفسي بسبب معرفتي بانها سوف تتسبب لي بمشكلات مع العائلة، اشعر انني محاصرة بين متطلبات العمل وبين ضغوط العائلة والتقاليد الاجتماعية التي تملي شروطها علينا”.
وتضيف:”انا لا استطيع العمل في مكان بعيد عن المنزل، ولا استطيع العمل في ساعات المساء، ولا العمل في وظائف بمواقع لا تحظى بسمعة جيدة. عندما يعرض علي مدراء العمل اي من هذه الشروط في مقابلة العمل اكتفي بالتلويح برأسي باحباط..ثم اخرج من الباب ولا اعود مجددا”.
وتجد دعاء نفسها عالقة بين كماشتي التقسيم الاجتماعي النمطي، الذي يحدد مهن مفضلة وأخرى مزدراة، اذ يوضع عمل النساء في مهن التدريس والاعمال المكتبية في حقل الأكثر أمنا والأكثر “اخلاقية” من مهن تسويق المبيعات او الشرطة او الفنون والصحافة.
وهذا يفسر سبب غياب النساء عن وزارة الداخلية رغم اهميتها وعلاقتها مع مختلف شرائح المجتمع، فهذه الوزارة التي يزيد عدد منتسبيها عن نصف مليون موظف يبلغ عدد النساء العاملات فيها كضابطات 350 امرأة فقط.
تقول امل كباشي، الناشطة المدنية التي تعمل على تفعيل دور النساء في وزارة الداخلية ان “المؤسسة الأمنية بطبيعتها ذكورية، لا تسمح بدخول النساء”. وتضيف: “المجتمع لم يتقبل بعد فكرة عمل المرأة في اقسام الشرطة وهذا يعرقل زيادة عدد النساء في وزارة الداخلية”.
تصف شيماء علي ابراهيم، وهي احدى المنتسبات في الوزارة، نفسها بالمحظوظة “لأن اسرتها كانت داعمة لها في قرارها بالعمل في سلك الشرطة”.
تقول :”لم يكن للرفض المجتمعي تأثير كبير علي، لأن اسرتي كانت متقبلة لعملي في سلك الشرطة، ولكن التحدي الحقيقي كان في الرفض من داخل المؤسسة من قبل زملائنا الذكور من منتسبي الشرطة، لانهم كانوا يحملون الفكرة النمطية نفسها عن عمل النساء في هذا المجال، لكننا لم ننسحب حتى باتوا وبشكل تدريجي أكثر قبولا لوجودنا الى جانبهم”.
غيابهن يؤثر في كفاءة المؤسسات
يرى باحثون اقتصاديون ان اختلال توزيع النساء بين القطاعات المهنية المختلفة لا ينعكس سلبا فقط على التنوع في خيارات النساء العاملات أو الاجور التي يحصلن عليها، بل يؤثر سلبا على قدرة تلك القطاعات على تقديم خدماتها بشكل مناسب.
هذا الرأي يؤكده توفيق حنون، مدير دائرة الشرطة المجتمعية في البصرة “الكوادر النسوية لها اهمية خاصة في العمل الذي نقوم به كوننا نعمل بشكل مباشر مع العوائل، لذا فان وجود عناصر نسوية في هذا المجال يشجع النساء على التوجه الى مراكز الشرطة المجتمعية والتحدث عن المشاكل التي يواجهنها”.
ذلك يدفع “حنون” بشكل مستمر للمطالبة بتعزيز تواجد العنصر النسائي في دوائر الشرطة المجتمعية، فغيابها يؤثر سلبا على عمل تلك الدائرة.
لكن الدولة لم تقم بما يكفي للتغلب على هذه المشكلة، كما ترى أمل كباشي: “يمكنها ان تقوم بتخصيص نسبة محددة من الوظائف الشاغرة في وزارة الداخلية وبقية الوزارات، للنساء حصرا ولكنها لم تعمد بعد الى اتخاذ هذه الخطوة”.
ماتزال دوائر الشرطة تفتقر الى العدد الكافي من المنتسبات النساء، ما يتسبب بعزوف بعض الضحايا النساء عن التقدم بشكواهن الى مراكز الشرطة
وتضيف :”ماتزال دوائر الشرطة تفتقر الى العدد الكافي من المنتسبات النساء، ما يتسبب بعزوف بعض الضحايا النساء عن التقدم بشكواهن الى مراكز الشرطة”.
سهيلة حسن، التي تخرجت بتفوق قبل ست سنوات من كلية الزراعة، لم تجد أي فرصة عمل فقررت أخيرا متابعة دارستها العليا رغم ظروف عائلتها الصعبة، على امل ان يساعدها ذلك في الحصول على عمل بالقطاع العام او الخاص.
تقول “نعم النساء غائبات عن سوق العمل، لكن ليس لأن غالبيتهن لا يرغبن بالعمل، بل لأن الدولة لم تعمل على مساعدتهن بخلق الفرص وظروف العمل المناسبة لهن، هناك اهمال وسوء تخطيط من الدولة التي تدفع بعشرات الآلاف لكليات لا توفر دراستها فرص عمل مستقبلا لأصحابها”.
وتوضح:”ماذا يعني ان تدرس التاريخ او الجغرافيا او الزراعة او علم الاجتماع. أين ستعمل لاحقا.. انا تخرجت ولا توجد مشاريع زراعية يمكنني ان اعمل فيها.. والعمل في القطاع الحكومي لأمثالي ينحصر في التدريس لكن الوظائف الحكومية غير متاحة منذ سنوات”.
سلسلة مشاكل ومعوقات تضع غالبية النساء العراقيات خارج سوق العمل، بينها ما يرتبط بالتقاليد الاجتماعية وبينها ما يرجع الى سوء التخطيط وفشل السياسات الحكومية، والنتيجة تعطل الاستفادة من طاقات بشرية قادرة على زيادة فرص التنمية المتعثرة داخل البلاد.
* التحقيق من مخرجات مشروع “صحافة البيانات” لمنظمة انترنيوز