كل صباح تقف سليمة محمد، التي ترعى عائلة من تسعة أفراد، حائرة في مطبخها الخاوي من الطعام، وعيون أطفالها تترقب ما ستقدمه لهم “في بعض الأيام لا أستطيع حتى تأمين الخبز لهم” تقول مشتكية وهي تشير الى خزانة المؤونة الخالية وتردد “لا أعرف ماذا أفعل”.
لا تتوقف السيدة الخمسينية التي تعيش في ميسان جنوبي العراق، عن الشكوى من وضعها المعيشي السيء منذ ان أصبح زوجها عاجزا عن العمل، لكنها ترفض أي فرصة عمل تتطلب خروجها من منزلها، مرددة “لا يمكنني الخروج .. لا احد هنا يفعل ذلك”.
لا يمكنني الخروج .. لا احد هنا يفعل ذلك
مع ازدياد أوضاع العائلة سوءا في ظل تداعيات فيروس كورونا وتراجع ما تحصل عليه من معونات انسانية، تلقت السيدة التي يعاني زوجها من مشكلات مزمنة في العمود الفقري، عرضا بالعمل في الخدمة المنزلية، رغم ذلك رفضته تحت وقع العادات الاجتماعية التي تمنعها من الخروج للعمل.
وفق تقديرات تعتمد على نسبتي النساء والرجال في العراق ونسبة النساء العاملات الى العدد الكلي للمؤهلات للعمل، فان نحو 15 مليون امرأة استسلمت للبطالة، وهي فعليا خارج سوق العمل.
وفي ظل أزمة اقتصادية دفعت الحكومة الى خفض قيمة الدينار (من نحو 120 دينارا للدولار الى 145) ومع تصاعد معدل الفقر بحسب وزارة التخطيط من نحو 20% في 2019 الى نحو 32% في ظل جائحة كورونا وتقلص قائمة المواد الغذائية الموزعة حكوميا ضمن برنامج الدعم الغذائي، تعاني بشكل أكبر العائلات التي تفتقد الى رجل يؤمن قوت يومها في مجتمع يشكل الرجال المحرك الأساسي لسوق العمل ويستحوذون على الفرص المتاحة وتغيب فيه النساء بشكل شبه كامل.
تقول الأساتذة الجامعية المتخصصة بالاقتصاد سعاد قادر، ان نظام الاقتصاد الريعي المعتمد طوال عقود رسخ تقاليد مجتمعية أدت الى تغييب النساء عن سوق العمل ومعها تراجعت مساهمتهن في دعم عوائلهن واخراجها من دائرة الفقر وإنقاذ الاقتصاد المتعثر للبلاد، فهن يتجنبن التفكير بالعمل في سوق يكاد يكون خاويا منهن.
8% من النساء في سوق العمل
تظهر احصاءات حكومية ان 13٪ من النساء فقط مستعدات للعمل، و8٪ منهن فقط يعملن بالفعل، في حين ان أقل من 1٪ منهن استطعن الوصول إلى مناصب صنع القرار في مجالاتهن، رغم الدور الكبير الذي يمكن ان تلعبه قوة المرأة الاقتصادية في رفع الاداء الاقتصادي في البلاد.
تعلق الدكتورة سعاد على تلك الأرقام “اليوم نحو تسعة نساء من بين كل عشرة لا يعملن ولا يرغبن بالعمل، هن يفضلن القيام بدور ربة المنزل والمحدد برعاية الاطفال وتحضير الطعام، ترسخ الأمر وأصبح عرفا اجتماعيا، قبل خمسين عاما لم يكن هذا الواقع قائما فالنساء كن يعملن في الزراعة وفي تربية الحيوانات وحتى في صناعات يدوية كثيرة”.
عقبة اجتماعية
من ذلك المنطلق يرى باحثون ان العقبة الأولى التي تحول دون وصول النساء الى سوق العمل، هي “عقبة اجتماعية”. تقول الناشطة ايمان علي “قبل ان يحصلن على عمل يفترض بهن ان يرغبن في الحصول على عمل، ولكن الغالبية لسن مستعدات لذلك”.
سليمة التي تسكن في منزل متهالك ضمن مناطق العشوائيات، والتي عليها تأمين المتطلبات المادية والمنزلية لسبعة ابناء وبنات اغلبهم في سن المدرسة اضافة الى زوجها عامل البناء السابق والمقعد منذ سنوات، استغربت من السؤال عن قدرتها هل يعلى العمل وامكانية انخراطها بسوق العمل.
بدت وكأنها غير متأكدة من صلة السؤال بمشكلتها، فهي لا تفكر في العمل كحل وتنتظر أن تزيد الحكومة مبلغ الاعانة الاجتماعية لعائلتها او أن يمد “الخيرون يد العون لها”.
تشارك آلاف النساء ذات الرؤية “هن لا يفكرن أصلا بالبحث والحصول على عمل، لذا فبين كل 10 نساء عراقيات هناك 9 غير نشطات اقتصاديا” تقول ايمان.
في صفوف الرجال الأرقام تكاد تكون معكوسة، فمن بين كل 10 رجال عراقيين هناك 8 نشطون اقتصاديا.
وتعد نسبة الـ 13% من النساء المستعدات للخوض في سوق العمل من مجموع النساء العراقيات، متدنية مقارنة بدول المنطقة والدول النامية الاخرى، إذ تشير الاحصاءات الى ان العراق يحتل ثالث ادنى مرتبة في نسبة النساء النشطات اقتصاديا من بين 189 دولة .
تلك النسب المتدنية لعمل النساء او لرغبتهن في العمل تعود الى جملة من العوامل المرتبطة بطبيعة المجتمع العراقي ونظرته لدور المرأة بشكل اساسي، التي تتركز على ان وظيفتها الأساسية تكمن في كونها “ربة بيت”، وبطبيعة سوق العمل، وتلك جعلت نسبة كبيرة من النساء لا يعملن “لأنهن ممنوعات فعليا من العمل”.
تقول دعاء حسن (30 عاما): “رغم حصولي على شهادة الماجستير الا انني لا اعمل.. رفض اسرتي لذلك الى جانب تدني الاجور وظروف العمل غير الملائمة، تشكل بمجملها عائقا اساسيا يحول دون انخراطي في سوق العمل”.
وفقا لدراسة قامت بها بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق (UNAMI) فان ثلاثة من بين كل خمسة من الرجال الكبار بالسن لا يعترفون بحق النساء بالعمل، واثنان من بين كل خمسة من الشباب يشاطرون الجيل الاقدم النظرة ذاتها.
تغير نسبة الرجال الذين يؤيدون حق المرأة في العمل في الجيل الجديد مقارنة بالأجيال السابقة، وفي مجتمع تشكل شريحة الشباب فيه نصف تعداد السكان، يمثل توجها واعدا رغم الطبيعة الابوية في النظام الاجتماعي والتي تعزز نفوذ كبار السن ودورهم ضمن العائلة.
لكن التغيير في القناعات الاجتماعية، والحصول على الاعتراف بحق المرأة في العمل رغم أهميته، لا يكفي لدفع النساء للانخراط في سوق العمل “فالادوار النمطية للجنسين محددة بشكل صارم، وهي غالبا ما تقيد النساء بقائمة طويلة من المهام والالتزامات داخل المنزل”، تقول الناشطة النسوية ايمان علي، وتتابع: “وعلينا ان لا ننسى بيئة العمل، فهل هي مناسبة للنساء؟ أم مليئة بالتحديات من تحرش واستغلال وقلة اجور وطول ساعات العمل”.
تقول سليمة محمد: “حصلت على فرصة عمل كمدبرة منزل لكنني رفضتها، فمن سينتبه الى أطفالي ويؤمن حاجاتهم حين يعودون من المدرسة.. لا استطيع قضاء وقت طويل خارج المنزل، تربية الاولاد هي وظيفتي”.
أعمال غير مدفوعة الأجر
بحسب منظمة العمل الدولية تمثل العناية بالمنزل والأطفال أعمالا غير مدفوعة الأجر، ووفق احصاءات فان المرأة العراقية تقوم بـ86% من اعمال العناية المنزلية غير مدفوعة الأجر، وهي تنفق (تقضي) ما لا يقل عن ست ساعات يوميا للعناية بالمنزل والاطفال، مقابل اقل من ساعة واحدة ينفقها الرجال للقيام بنفس النوع من العمل.
هذا يجعل المرأة تعاني فقرا في الزمن اللازم لقيامها بالأعمال مدفوعة الأجر، فضلا عن القيام بتلك الأعمال بكفاءة، في حين تؤكد احصاءات عالمية ان الدول التي يقضي فيها النساء وقت أقل في الأعمال المنزلية لديها معدلات اعلى من النساء العاملات مقابل أجور، فلكما قل معدل عمل المرأة غير المدفوع بأجر كلما زادت فرصتها في الحصول على عمل بأجر.
ثمن كبير لابقاء النساء في المنزل
بديعة احمد (44 عاما) أم لخمسة أطفال من محافظة نينوى، فقدت زوجها قبل نحو عشر سنوات، تعيش على دخل شهري يبلغ في المتوسط 300 دولار شهريا، تحصل عليه من راتب الرعاية الاجتماعية المقدم من الحكومة فضلا عن مساعدات يقدمها أقرباء ومعارف.
هذا المبلغ، الذي يوازي ما تحصل عليه سليمة ايضا، لا يكفي لتأمين متطلبات المعيشة الاساسية والحالات العاجلة من مرض او سفر.
تقول بديعة التي تركت دراستها الاعدادية حين تزوجت ولم تفكر في تعلم مهنة محددة: “لم أتصور سابقا ان اكمال دراستي أو تعلم حرفة معينة سيكون مفيدا لعائلتي. الآن لا يمكنني تعويض ما خسرته”.
وتضيف معلقة على عدم قيامها بأي عمل خارج المنزل لانتشال عائلتها من دائرة الفقر: “دون مؤهلات ماذا يمكنني ان اعمل غير الخدمة في بيوت الناس وهذا مرفوض اجتماعيا لدينا”.
دون مؤهلات ماذا يمكنني ان اعمل غير الخدمة في بيوت الناس وهذا مرفوض اجتماعيا لدينا
وتتابع السيدة التي تعمل أحيانا في خياطة الفرش والمنامات، متحدثة عن حاجات عائلتها الكثيرة التي تعجز عن تأميها: “ايجار منزلنا الصغير يدفعه بعض الاقارب كل بضعة أشهر، حين دخلت ابنتي الكلية لم نكن نملك ثمن شراء ملابس تليق بها”.
بديعة تذكر ان أشد ما يرعبها هو مرض احد أطفالها:س لأخذه الى اقرب مركز صحي حتى لو لم يتوفر طبيب مختص او علاج مناسب أو آخذه الى الممرض الذي يسكن قريبا منا، انا لست أمية واعرف ان هذا خطأ وقد يؤدي الى تفاقم الحالة الصحية وحصول مضاعفات لكن ماذا افعل لا استطيع تأمين متطلبات العلاج في العيادات الخاصة او حتى اجور النقل الى المستشفى العام”.
الصورة ذاتها تتكرر لدى الكثير من الأسر التي تعيلها نساء غير عاملات، في بلد دخل سلسلة حروب خارجية وداخلية منذ ثمانينات القرن الماضي خلفت ملايين الأرامل وفاقدات المعيل، وأدت أزمات متعاقبة الى اضعاف اقتصاده وزيادة معدل الفقر ليصل الى نحو 40% بحسب المسح العنقودي متعدد المؤشرات 2018.
وتظهر البيانات التي جمعها برنامج الغذاء العالمي (WFP) في العام 2016 ان اكبر المتضررين من ارتفاع نسبة الفقر هي الأسر التي تعيلها نساء، لأن اربع من كل خمس نساء معيلات لأسرهن او متكفلات بتحصيل دخل الأسرة، هن خارج قوة العمل في معظم المحافظات العراقية، في حين إن اربعة من كل خمسة من الرجال المعيلين لأسر يشاركون في سوق العمل.
تقول الدكتور سعاد قادر، ان العادات الاجتماعية تفرض على الكثير من النساء عدم البحث عن عمل حتى عندما يكونون بحاجة ماسة لدعم اسرهن ماليا “وهو ما ينعكس سلبا على جودة حياتهن وحياة اسرهن كما على التنمية الاقتصادية التي تتطلب دخول المرأة لسوق العمل”.
وتشير الى ان “الجيل الجديد بدأ يكسر تلك الحواجز وينخرط في النشاط الاقتصادي، لكن مازال الطريق طويلا لكي يكون عمل الفتيات مقبولا خارج قطاعات العمل الحكومي، خاصة بعد زواجهن ودخولهن في معترك تأمين متطلبات العائلة داخل المنزل”.
“زينة” ابنة “بديعة”، التي ستتخرج بعد أشهر من كلية التربية، تقول ان أمها كما كثير من النساء مثلها يرغبن في العمل لكنهن يخشين من المشاكل التي قد يواجهنها في بيئة العمل.
وتنبه “زينة” التي تعمل في منظمة مدنية، الى ان ادخال النساء في سوق العمل يتطلب دعما من الحكومات والمجتمع المدني “لكسر الحواجز الاجتماعية وفي ذات الوقت تشجيعهن على العمل بخلق بيئة آمنة لممارسة نشاطهن الاقتصادي”.
*التحقيق من مخرجات مشروع “صحافة البيانات” لمنظمة انترنيوز