اقتلعه مسلحو تنظيم داعش من أحضان والدته وفرّقوه عن والده وهو ما زال في التاسعة، علّموه حمل السلاح وأقحموه في الجبهات الأمامية للمعارك، وبعد ذلك تركوه وحيداً وجريحاً تحت ركام أحد المنازل المدمرة.
توماس عبدالله حمو، شهد كل تلك الأحداث المريرة دون إرادته وهو لا يزال في مقتبل العمر، أحداث يصعب على طفل في التاسعة معايشتها.
في آب 2014، حين هاجم تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) قضاء سنجار، وقع توماس ذو التسع سنوات مع أربع من شقيقاته، أشقائه، زوجات اشقائه وأطفالهم وعدد من أبناء عمومته في قبضة مسلحي التنظيم.
"في البداية عاملوني كرقيق ، لكنهم دربوني فيما بعد على حمل السلاح، ولم يكن ذلك بمحض إرادتي، حتى أنني لم أكن استطيع الفرار"، هذا ما قاله توماس، الذي بلغ الآن الخامسة عشرة من عمره، لـ(كركوك ناو).
قضى توماس ثلاث سنوات في قبضة داعش، وصل الى حافة الموت قبل أن يلتم شمله بأسرته مرة أخرى. "في مدينة الرقة (مدينة سورية كانت تسمى عاصمة داعش في ذلك البلد) علّموني كيفية استخدام الأسلحة، خضعت لعدة دورات تدريبية، تدربت على استخدام المسدس، الكلاشنيكوف، البي كي سي وحتى قاذفات الـRPG."
خلال تلك الفترة التي قضاها في الأسر، نسي توماس لغته الكوردية و اصبح يتحدث باللغة العربية.
لم يكن توماس الشخص الوحيد في اسرته الذي وقع في قبضة مسلحي داعش الذين قطعوا عليهم الطريق خارج سنجار، كان توماس يستقل مركبة مع تسعة أشخاص آخرين. "أرسلناهم بمركبة الى خارج سنجار، صوب الجبل، أردناهم أن ينجو من الأسر، لم تتسع المركبة لنا جميعاً، لذا قررت أنا ووالدة توماس وأحد ابنائي الآخرين واثنين من بناتي الهروب من مركز القضاء مشياً على الأقدام"، حسبما قال عبدالله حمو، والد توماس لـ(كركوك ناو).
توماس هو الطفل السابع في عائلته، لجيه شقيقتان اصغر منه عمراً، مع شقيقين و أربع شقيقات أكبر منه.
في الرقة علّمني مسلحو داعش كيفية استخدام الأسلحة
"علمنا بأنهم غادروا المدينة ووصلوا الجبل سالمين، في اليوم التالي سمعوا بأن هناك طريقاً يوصلهم الى اقليم كوردستان، آخر ما سُمِع عنهم أنهم وصلوا الى الطريق بين ناحية سنوني و مجمع دوكري، بعدها وقعوا في قبضة تنظيم داعش"، تلك هي المعلومات التي حصل عليها والد توماس فيما بعد.
في تلك الفترة، فرّ معظم الايزيديين نحو جبل سنجار وحاصر مسلحو داعش الجبل، بعد ذلك تمكن بعض النازحين من دخول الأراضي السورية وعادوا من هناك الى اقليم كوردستان.
في الساعة 11 من صباح يوم 4 آب 2014، أوقف عدد من مسلحي داعش توماس وعائلته، لكنهم أخلوا سبيلهم، حسب ما رواه توماس وأفراد عائلته، بعد ذلك وقعوا في كمين مسلحين عراقيين في تنظيم داعش وتم اعتقالهم.
"فرّقونا عن بعضنا، اقتادوني الى مقر فرع الحزب الديمقراطي الكوردستاني في سنجار، وبسبب الغارات الجوية نقلوني الى تلعفر، ومن هناك الى الموصل، ومن ثم الى الرقة، أعادوني مرة أخرى الى بادوش ومن هناك الى الموصل"، حسبما قال توماس.
قضى توماس عاماً ونصف تحت تأثير الدروس والخطب التي كان يُلَقَّن بها من قبل داعش. "بعد فترة، قاموا بتدريب و تسليحي، المعركة الأولى التي شاركت فيها كانت في الموصل، كنت في الخط الأمامي للمعركة"، يقول توماس.
اعتاد مسلحو التنظيم ارتكاب المجازر وأعمال العنف أمام أعين توماس وأطفالٍ آخرين.
وقال توماس، "رأيت كل ذلك، قتل الناس وذبحهم، بِتْتُ أعتاد ذلك المنظر، لكنني لم أقتل أحداً."
شهد توماس عدة معارك اخرى، ضد قوات سوريا الديمقراطية(قسد) في سوريا و ضد القوات العراقية في نينوى، وغالباً ما كان يستخدم كدرع بشري في الخطوط الأمامية.
حول مساعيه لتقصي مصير ابنه توماس قال عبدالله حمو، "لم نكن نعرف فيما إن كان حياً أم لا، علمت بعدها من أحد المختطفين الذين تم تحريرهم من اسر داعش بأنه لا زال حياً، حيث قال بأنه رآه عند أحد مسلحي داعش وأنهم يأخذونه للمعارك كدرع بشري".
علمت من أحد المختطفين الذين تم تحريرهم من اسر داعش بأن توماس لا زال حياً
خلال تلك الفترة، أدت وساطة عدد من الشخصيات و الأموال الى أن يلتم شمل عبدالله حمو بالمختطفين من اسرته، باستثناء توماس و احدى شقيقاته.
يقول توماس بأنه لم ير أياً من افراد عائلته خلال مدة اسره ولم يجرؤ على البحث عنهم خوفاً من بطش داعش.
بمرور الوقت، بدأت القوات العراقية عملياتها العسكرية لاستعادة نينوى، وفي منتصف 2017 وصلت الى قلب مدينة الموصل.
في أحد ايام شهر تموز من عام 2017 شارك توماس مع مجموعة من مسلحي داعش في مواجهات مسلحة ضد القوات العراقية، حين تعرضوا لقصف جوي.
"كنت داخل أحد المباني وتعرضت لجروح طفيفة، أنقذني مسلحو داعش و توجهنا الى منزل مهجور، لبثنا في ذلك المنزل عدة أيام دون ماء وطعام، طرق النجاة كانت مسدودة، اضطررنا لشرب بولنا من شدة العطش."
قصفت الطائرات الحربية المنزل، و سقط توماس و عدد من مسلحي داعش تحت أنقاض المنزل، فيما لاذ البقية بالفرار.
"بقيت تحت ركام المنزل لعدة ساعات، كنت أعاني من جروح بليغة، عثرت القوات العراقية علي بمساعدة معاون أحد أمراء داعش المعتقلين وأخرجوني من تحت الأنقاض ثم نقلوني الى مستشفى للقوات الأمريكية في حمام العليل."
إضافة الى الجروح التي اصابت رأسه ووجهه، انكسرت ساقا توماس، ومع استعادته الوعي خضع للمساءلة من قبل القوات العراقية. "قلت بأنني ايزيدي، وسأل أحد الضباط عن والدي ثم ذهب"، حسبما قال توماس.
تمكنت القوات العراقية عن طريق شرطة الموصل و المنتسبين الأمنيين من المكون الايزيدي من العثور على والد توماس، حيث كان حينها يقيم مع عائلته في مخيم كبرتوو للنازحين في دهوك.
صُدِمنا بالحال التي رأيناها عليه هناك، فلم تتبق منه غير العظام، قضى اياماً دون طعام
"كان أسعد خبر سمعته في حياتي، حين أخبروني هاتفياً عن المكان الذي يتواجد فيه ابني، وصلنا بسرعة مع والدته الى حمام العليل وصُدِمنا بالحال التي رأيناها عليه هناك، فلم تتبق منه غير العظام، قضى اياماً دون طعام ومصاباً بجروح قل أن ينجو"، كما قال عبدالله حمو.
بعد توقيعه تعهداً خطياً، تسلّم عبدالله ابنه توماس ونقله الى مستشفىً بدهوك.
"صرفت حوالي 15 ألف دولار لعلاج ابني دون أن أتلقى مساعدة من أحد"، ورغم ذلك لم تنته فصول أحزان تلك العائلة بالعثور على توماس، فلا زالت مصير ابنتهم المختطفة طي المجهول، اسوةً بمصير آلاف آخرين من الايزيديين.
أُجريَت لتوماس ثلاث عمليات كبرى و بقي تحت العلاج لثلاثة اشهر. التحق بعدها بمدرسة دينية قبل أن يعود الى الدراسة الاعتيادية. ويقول توماس "كنت أعرف اللغة العربية فقط، لكنني تعلمت اللغة الكوردية مجدداً في غضون أربعة أشهر."
الى جانب العلاج الجسدي، تلقى توماس العلاج النفسي. "في بداية عودته كان يتحدث كثيراً عن داعش و عما رآه وفعله وما أجبروه على فعله، لكنه الآن قد كَبُر ولا يتحدث عن تلك الأمور"، حسب والدة توماس.
كونه من المختطَفين الايزيديين، تم تجنيد توماس دون رغبته في سن صغيرة، ولم يواجه بعد نجاته من تلك التجربة أي مساءلة من قبل القوات العراقية أو المحاكم.
عادت عائلة توماس الى سنجار في أيلول من عام 2020 تاركين وراءهم حياة المخيم.
"لا يزال توماس في حالة نفسية غير مستقرة، أحياناً ينتابه الغضب، ثم يبكي ثم تعود اليه السكينة، نبذل جهدنا معه لكي يندمج بالمجتمع و برفاقه ويستعيد حياته الطبيعية"، حسبما أضاف عبدالله حمو.