“لن اشارك في الانتخابات القادمة.. لا أشعر بالثقة تجاه كل العملية” تقول “كريمة” (60 عاما) مدرسة الرياضيات المتقاعدة، وتضيف بنبرة حزينة وهي تدير رأسها جانبا “لم أُحدث بطاقتي الانتخابية فلا جدوى من المشاركة، الأمور محسومة واصواتنا مبيوعة”.
تشكك “كريمة” مثل ملايين العراقيين بنزاهة سير العملية الانتخابية وآلية الأقتراع واحتساب الأصوات، كما بجدوى الانتخابات في ظل ما تردده وسائل الاعلام عن سطوة المال السياسي والسلاح واستشراء الفساد نتيجة ضعف الدولة.
تلك العوامل مجتمعة منعت 10 ملايين عراقي من تحديث بطاقاتهم الانتخابية للمشاركة في الانتخابات المقررة في تشرين الثاني المقبل.
تعكس المشاركة الضئيلة في الانتخابات السابقة والتي بلغت نحو 44% العزوف المتوقع في الانتخابات المقبلة، بحسب باحثين، خاصة مع تراجع اهتمام العراقيين بالسياسة في السنوات الأخيرة نتيجة عدم ثقتهم بالمؤسسات السياسية وقادتها، بعد ان كانوا يظهرون اهتماما كبيرا عقب تغيير نظام حزب البعث في نيسان 2003.
أظهرت نتائج استبيان موسع أجراه البارومتر العربي في العام 2019، ان غالبية العراقيين لا يهتمون بالسياسة، اذ ان شخصا واحدا من كل أربعة يبدي اهتماما بتتبع الأمور السياسية والبحث في تداعياتها المحتملة.
تقول الدكتورة هديل قزاز، وهي خبيرة في مجال النوع الاجتماعي، ان نسب المشاركة في الانتخابات على مستوى العالم العربي قديما كانت عالية “لكنها تراجعت في الفترة الحالية اثر القمع والضغوط التي تعرض لها الناخبون من نساء ورجال لفرض ارادة جهات محددة”.
وتضيف:”ذلك القمع أثر على الحياة السياسية، فكان هناك رفض وانتشار أمني لمواجهة أي محاولات لتنظيم احتجاجات سلمية يعبر فيه المواطنون عن قضاياهم او حتى للحث على المشاركة في الانتخابات والادلاء باصواتهم لمن يريدونه”.
وترى قزاز، ان العسكرة وفرض القبضة الأمنية “يضعف دور المرأة السياسي، ويقلل من نسب مشاركتها”.
بحسب استبيان البارومتر العربي فان الاهتمام الذي يوليه العراقيون للسياسة تراجع في السنوات العشر الأخيرة، ففي حين كان خمسة أشخاص من بين كل عشرة يهتمون بالسياسة في العام 2011، تراجع الاهتمام الى اربعة اشخاص في العام 2013 وصولا الى نحو شخصين مهتمين بالسياسة فقط مقابل كل عشرة في العام 2019.
وتظهر مؤشرات الاهتمام بالسياسية، تباينا بين شعوب الدول العربية، فنسبة المهتمين بالسياسة بلغت نحو ثلاثة أشخاص من كل عشرة في العراق في السنوات الأخيرة، بينما بلغت في الجزائر شخصين فقط، وقابلتها في فلسطين نسبة أربعة أشخاص من كل عشرة وهي أعلى نسبة للأهتمام بالسياسة في المنطقة.
العمر والمستوى التعليمي
ووفق بيانات الاستبيان، فأن العمر أحد المؤثرات التي يمكن ان توجه فئة عمرية دون أخرى للاهتمام بمجال معين، فالعراقيون يهتمون بالسياسة كلما تقدموا في العمر وتحصل هذه الزيادة بشكل تدريجي، فأربعة من كل عشرة شبان يهتمون بالسياسة مقابل سبعة من كل عشرة لدى فئة كبار العمر. كما انه بتقدم العمر فان الرجال أكثر ميلا للاهتمام بالسياسة مقارنة بالنساء.
كما ان المستوى العلمي، يشكل عاملا مؤثرا في توجه الفرد العراقي نحو الاهتمام بالسياسة، فكلما أرتقينا بالمستوى التعليمي يزداد الاهتمام تدريجيا بالسياسة، ويكون الفرق واضحا في نسبة الاهتمام بين أدنى وأعلى مستوى تعليمي، فمقابل كل اربعة عراقيين أميين يهتمون بالسياسة، هناك سبعة من حملة شهادات البكالوريوس يهتمون بالمجال نفسه.
يفسر الباحث الاجتماعي بيار حاجي، ذلك بأن الشباب في مقتبل العمر لا يملكون ذلك الوعي بتأثير السياسة ويهتمون بهواياتهم وفرص الترفيه والعمل.
ويضيف :”ولأنهم في الغالب لا يملكون فرص الانضمام الى احزاب او الترشح في الانتخابات فيبدون اهتماما محدودا، لكن مع التقدم في العمر ربما يكتشفون ان كل شيء في محيطهم مرتبط بالسياسة حتى فرص العمل وتحقيقهم لتطلعاتهم الشخصية لذا يهتمون أكثر”.
وبحسب استبيان البارومتر العربي، يميل الرجال الى الاهتمام بالسياسة اكثر من النساء، فمقابل كل ثلاثة رجال يهتمون بالسياسة في العراق هناك سيدتان مهتمتان.
وترى الدكتورة هديل قزاز ان الاختلاف في النسبة بين الرجال والنساء هنا “لا يتعلق باهتمامهم الشخصي غالباً، بل بالحيز او المساحة التي تتاح لكل فئة، فالرجال يحصلون على مساحة أكبر لمناقشة الوضع السياسي سواء في الشارع ووسائل النقل او في المقاهي كما في أماكن العمل، بينما النساء حيزها يكون محصورا داخل البيوت وفي الصالونات المغلقة”.
تغييب النساء يعزز حضور الرجال
“زوجي لا يسمح بذلك” تقول هبة (25 عاما) وهي تخفض صوت مذيع الأخبار: “أنا كنت أشاهد الأخبار بشكل مستمر وكنت على اطلاع جيد بالأوضاع السياسية، لكن زوجي ظل يردد ان على النساء عدم الاهتمام بالسياسة، وفي الانتخابات الأخيرة قال انه لا داع لأذهب للتصويت… لهذا لم أعد أهتم”.
يؤكد بيار حاجي، ان “ما تواجهه (هبة) حالة اجتماعية شائعة وتعد تغييبا للنساء، فهن لا يحصلن في الغالب على مساحة جيدة لمناقشة الأحداث السياسية، ما ينعكس سلبا على خياراتهن واهتماماتهن وبالتالي حضورهن ومشاركتهن السياسية”.
من بين كل عشرة عراقيين هناك سبعة يعتقدون ان الرجال أفضل لقيادة دفة السياسة من النساء وان أيدوا في ذات الوقت تولي المرأة موقع رئاسة الوزراء وهذه الرؤية تنعكس سلبا على الخيارات السياسية للناخبين، وتؤدي الى تدني المشاركة السياسية للمرأة بصورها المختلفة.
كما تعكس البيانات الصادرة عن البارومتر العربي، تقبل النساء والرجال على حد سواء لفكرة تولي المرأة موقع رئيسة الجمهورية او رئيسة الوزراء، فمقابل كل سبعة رجال يوافقون على ذلك هناك سبع نساء موافقات أيضا.
انعكاس على حظوظ المرأة
الاعتقاد السائد بان الرجال افضل من النساء في قيادة دفة السياسة ينعكس سلبا على نسب النساء المتقدمات للترشح كونهن وفق تلك الرؤية يحظين بفرص أقل في الفوز.
إختارت “كريمة” التدريسية المتقاعدة، في المرتين السابقتين التي انتخبت فيهما مرشحين رجال فهي “اقتنعت الى حد ما” كما تقول ببرنامجهما الانتخابي او ببعض الوعود التي قطعاها للشعب في حينها.
لم تُفكر “كريمة” حينها بإعطاء صوتها لأي امرأة مترشحة، فهي ترى ان النساء الموجودات في الساحة السياسية “لسن منافسات حقيقيات، وليس لديهن صدى مقارنة بالمرشحين الرجال”.
ويلعب العمر دورا في التوجه المتعلق بتفضيل الرجال على النساء في الاختيار للانتخابات، اذ تظهر بيانات البارومتر العربي ان الاعتقاد بأن الرجال “قادة سياسيون افضل من النساء” يزيد في صفوف الأشخاص الأكبر سناً، فبين كل سبعة من عشرة أفراد من فئة الشباب يؤيدون ذلك الاعتقاد يقابلهم ثمانية من فئة كبار السن.
غالبية النساء الكبيرات في السن يدعمن ذات الاعتقاد كما هو الحال مع “كريمة” وغالبية النساء في عائلتها وعائلة زوجها كما تقول. الا ان النسبة تتراجع لدى الشابات اذ مقابل كل تسع نساء كبيرات في السن يؤيدين ذلك الاعتقاد هناك ست نساء من الفئة الأصغر عمراً.
بيانات الاستطلاع نفسه تظهر تقدما واضحا في نسبة الموافقين على تولي المرأة منصب رئيسة الجمهورية او رئيسة الوزراء، فبعد ان كانت نسبة المؤيدين تبلغ 50% في العام 2011 ارتفعت الى 70% في العام 2019، ويسجل فارق طفيف بين النساء والرجال في قبول المرأة كرئيسة، لكن النساء أكثر ميلا لقبول ذلك.
حملات تسقيط
تشكل النساء نصف عموم الناخبين المسجلين في محافظات العراق، بحسب دراسة للمؤسسة الدولية للنظم الانتخابية نشرت في 2019 تحت عنوان (التحليل الشامل للعملية الانتخابية والسياسية في العراق حسب النوع الاجتماعي).
رغم تزايد نسبة النساء المؤيدات لحق المرأة في المشاركة السياسية وحقها في الترشح للبرلمان وخوض المنافسة الانتخابية، ووجود تباين بسيط بين المحافظات في تلك النسبة، الا أن تأييد ذلك الحق لم يترجم على ارض الواقع بمشاركة فعلية في الترشيح، فمقابل كل ثمانية نساء مؤيدات لهذا الحق من كل عشرة نساء في أغلب المحافظات، هناك ثلاثة نساء فقط قمن بالترشح فعليا لانتخابات البرلمان عن كل محافظة.
تقول رحاب عبودة النائبة في البرلمان العراقي عن محافظة البصرة سابقاً “لم اكن معروفة بشكل سياسي كبير، ولم يكن لدي خط سياسي واضح، فانا كنت ضمن كتلة سياسية عندما اصبحت نائبة في البرلمان لدورتين”.
وتشير عبودة الى العديد من المشاكل والتحديات التي تواجه النساء اللواتي يقررن خوض المنافسة الانتخابية والدخول الى الحقل السياسي:”هن يواجهن الكثير من التحديات، بعضها تصل الى محاولة التسقيط. أنا لم أتعرض بشكل شخصي للإساءة لكن هناك مرشحات تعرضن لحملات تسقيط تلامس ثقافة المجتمع العربي، وأسيء لهن بقضايا بعيدة عن الجانب السياسي”.
وتتابع:”تلك الحملات لم تؤثر على طموحهن وحملاتهن السياسية للانتخابات فقط، بل حتى على عوائلهن وسمعتهن كنساء”.
محاولات الاساءة تلك والعديد من التحديات الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، تحول فعليا دون تفكير الكثير من النساء في دخول حقل السياسة او خوض المنافسة الانتخابية في بيئة تعمل على تغييب النساء ووضع الكثير من العراقيل أمامها.
النساء لا ينتخبن النساء
تحصل النساء عموما على أصوات اقل من الرجال في الانتخابات، فمقابل كل تسعة رجال يحصلون على أكثر من 15 ألف صوت هناك امرأة واحدة تحصل على قدر مماثل من الأصوات، بينما نجد النساء يتكدسن في قائمة الحد الأدنى من الأصوات، فمقابل كل ثلاثة رجال يحصلون على اقل من خمسة الاف صوت هناك سبع نساء يحصلن على قدر مماثل من الاصوات.
وترجع عبودة سبب ضعف التصويت للنساء في العمليات الانتخابية الى ان “أغلب النساء لسن فعالات في الجوانب العامة، ولا يحصلن على دعم شعبي كالرجال، فللرجل ظهوره الاعلامي الملفت والمكثف، فضلا عن علاقاته الاجتماعية على مستوى مدينته او عشيرته”.
الكوتا خيارهن الوحيد
اظهرت دراسة للأمم المتحدة أجرتها حول “النوع العربي” سنة 2019، ان كل عشرة مواقع برلمانية هناك ٣ للنساء و٧ للرجال. ولضمان حصول النساء على حصة من التمثيل في البرلمان العراقي جاء قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية متضمنا نظام الكوتا النسائية والذي ورد في الوثيقة الدستورية وأكد عليه قانون الانتخابات. وتلزم الكوتا النسائية على تحقيق نسبة تمثيل للنساء في البرلمان لا تقل عن 25% أي انه بين كل ثمانية نواب هناك امرأتان.
وتظهر البيانات أن نسبة النساء في المناصب البرلمانية في الدول العربية ليست لها علاقة بمدى أعتقاد العرب بأن الرجال قادة سياسيين أفضل، حيث تتباين هذه النسب مع حجم التمثيل البرلماني للنساء في دول المنطقة.
ففي تونس وهي أكبر الدول العربية من ناحية حجم التمثيل النسائي في البرلمان، هناك أربع نساء مقابل كل ستة رجال، بينما يرى سبعة من كل عشرة أشخاص في تونس أن الرجال قادة سياسيون أفضل، بحسب بيانات موقع الباروميتر العربي.
وتظهر دراسة “تمكين المرأة” لوزارة التخطيط العراقية لسنة 2011، أن ثلاث من كل عشر نساء عراقيات يدعمن مساواتهن مع الرجل في المشاركة السياسة، بالرغم من وجود تباين كبير بين المحافظات العراقية في مستوى الدعم ذلك.
ولا يستند ترتيب تباين المحافظات الى نمط ديني او أجتماعي محدد، أذ أن اثنين من كل عشر نساء في بغداد مؤيدات لحق المساواة السياسية مع الرجل، وهذه هي نسبة التأييد الأقل، مقابل اربع نساء في النجف، بينما سبع من كل عشر نساء في دهوك واربيل يدعمن هذه المساواة كأكثر المحافظات تأييداً لذلك.
تكشف دراسة اجراها جهاز الأحصاء المركزي لوزارة التخطيط العراقية لسنة 2011 عن أن المحافظات التي تسجل النسبة الأعلى للنساء المؤيدات لحق المرأة في الانتخاب، ليست بالضرورة ان تكون هي ذات المحافظات ذات النسبة الأعلى في تسجيل الناخبات.
فنسبة الناخبات في محافظة ميسان سجلت 51% من أجمالي الناخبين وهي أعلى نسبة بين المحافظات، بينما نسبة المؤيدات لحق المرأة في الانتخاب في نفس المحافظة هي 45%، وسجلت السليمانية 96%من الآراء الايجابية للمشاركة الانتخابية، بينما كانت نسب الناخبات هي الاقل بين باقي المحافظات اذ سجلت 43%.
تراجع الثقة يؤثر على حضور النساء
في ظل تراجع الثقة بالمؤسسات السياسية بعد نحو عقدين من الفساد وسوء الادارة، ومع حالة عدم الاستقرار وموجات العنف المتلاحقة، يتراجع عدد العراقيين المهتمين بالسياسة وبمخرجات العملية السياسية والانتخابية. وذات العوامل تؤثر على نسب مشاركة النساء.
ترى شاهيان احمد، وهي ناشطة مدنية، ان غياب الاستقرار السياسي وبيئة العمل الآمنة وعدم رسوخ التجربة الديمقراطية يبعد النساء عن العمل السياسي، متسائلة: “في بيئة سياسية غير مستقرة ومع انتخابات تشوبها الصراعات والشكوك وحملات التسقيط كيف يمكن للمرأة المنافسة؟”.
وتقول: “في هذه الأجواء الناشطات السياسيات يضطرن للانسحاب وعدم خوض معارك خاسرة، وتزداد قناعتهن بضرورة وجود نظام الكوتا لضمان الحق الأدنى لوصول النساء للبرلمان حتى وإن كان بعدد أصوات أقل من الرجال”.
رغم قرارها بعدم التصويت في الانتخابات المقبلة، تأمل “كريمة” ان تجد مرشحة “مثقفة ذات شخصية قوية وملمة بالشؤون السياسية، ومهتمة في ذات الوقت بتحسين واقع المرأة والطفل”، لتعيد النظر في قرار مقاطعتها.
تقول، ان تلك الصفات هي التي تبحث عنها في المرشحات لتمثيلهن تحت قبة البرلمان “لنشعر بضرورة المشاركة في الانتخابات واعطائها أصواتنا”.
التقرير من مخرجات مشروع المبادرة العراقية المفتوحة لكتابة التقارير المعززة بالبيانات والذي تديره منظمة أنترنيوز العراق