تلقى أبو داوود قطعةً اسمنتية (بلوكة) ورصفها على الحائط ويده اليسرى تُمسك بظهره بينما تنتظر يده الأخرى قطعة ثانية.. وبصوت خفيض قال لولده أحمد الذي يعمل معه: "أعطني قطعة أخرى"، وهو يقف على خشبة يبلغ طولها (3) أمتار تسندها بعض القطع الأسمنتية من الجهة اليمنى تقابلها أحدى درجات سُلم الصعود (درج العمارة) في ايسره، لا تعيقه اصابته وهو يبني جداراً لأحدى العمارات قيد الإنشاء في منطقة الدواسة بجانب مدينة الموصل الأيسر.
أبو داوود (50) عاما يعمل بمجال البناء منذ (35) عاما، يصف حادثة وقوعه التي طرحته الفراش لأكثر من ثلاث أشهر، يقول وهو ينزع الكف عن يده اليمنى الذي يطفو فوقه اسمنت البناء: "أُصبت بعمودي الفقري عام 2012 وأنا أعمل بموقع قيد الإنشاء في حي العربي عندما افترت خشبة البناء تحت قدمي واوقعتني من ارتفاع 3 أمتار تقريبا، ثم جثيت على ظهري وابقتني بلا عمل لأكثر من ثلاث أشهر".
ويتابع: "لم يزرني اي أحد من طرف نقابة العمال بالرغم من انتمائي لها. ولم أحصل على أي تعويض"، يجدد قوله متحسراً: "ذهبت اليهم لكني لم احصل على شي".
قصة أبو داؤود واحدة من القصص التي مر بها عمال يعملون بأجر يومي ولا يملكون ضماناً صحياً واجتماعياً يضمن حقوقهم الأساسية في محافظة نينوى نتيجة لإصابات العمل، وسوء بيئة العمل.
85 بالمائة منهم على الأقل لايعملون بعقد عمل على مستوى العراق و93% في نينوى
دراسة حديثة كشفت النقاب عنها دائرة التخطيط في المحافظة لـ(كركوك الأن) تشير الى أن 96% من العمال الذين يعملون باجر يومي، هم بلا ضمان اجتماعي في حال وصولهم للسن القانوني للتقاعد و95% منهم يعملون بدون ضمان صحي.
وتشمل الدراسة التي اعدتها وزارة التخطيط فئة العاملين ضمن الفئات العمرية بين 10-30 سنة على مستوى العراق بضمنها نينوى، والتي بينت نسب العاملين بين الفئات العمرية المذكورة في القطاعين الحكومي والخاص والتي جاءت ب19% منهم يعلمون في القطاع الحكومي و81% يعملون في القطاع الخاص، كما أن نسبة كبيرة منهم لايعملون بعقد عمل يضمن حقوقهم وحقوق صاحب العمل.
يوضح مدير إحصاء نينوى نوفل سليمان لـ كركوك ناو، بأن "واقع الشباب بالقطاع الخاص لايجري بالصورة المطلوبة إذ أن 85% منهم على الأقل لايعملون بعقد عمل على مستوى العراق و93% في نينوى".
بعض الاجور لا تصل الى 10 دولار.
وخلال بحث سريع اجريناه في سوق العمل شمل بعض مواقع البناء والأسواق، كسوق الدواسة والفيصلية التي يوجد فيها مئات العمال، تبين أن نسبة كبيرة منهم لايعملون وفق عقود تضمن لطرفي العمل حقوقهم. كما تبين ايضا بأن بعضهم لم يذهبوا للتسجيل والحصول على عضوية نقابة العمال والضمان الاجتماعي بل لم يسمعوا بها من قبل.
بخطى وئيدة يسير أيمن وهو يعُد درجات السلم نازلاً بلهفة ليطرح مايقارب الـ 100 كيلوغرام من على ظهره في يوم شتوي شديد البرودة.
أيمن اسماعيل (22 عاما) يعمل بأجر يومي يكسب من خلاله 6-12 الف دينار مايقارب 4-8 دولار يوميا منذ عام 2012، تعرض هو الاخر، لإصابة في قدمه اليمنى للمرة الثانية عام 2018 بعد أن انزلقت عليه عربته الخشبية المستطيلة ذات العجلتين، وحشرت قدمه بين خشبتها الساندة وحصى الشارع وهي محملة بأكثر من 1 طن من كراتين العطور وسط سوق الفيصلية بجانب المدينة الأيسر.
يمر شريط سقوطه بجدار ذاكرته وهو يقول: "كُسرت قدمي مرتان أولها عام 2015 عندما كنت اعمل بباب السراي ثم كُسرت مرة أخرى قبل 3 أعوام تقريبا، وفي كلتا المرتين لم أحصل على إعانة اجتماعية أو صحية من قبل نقابة العمال، بل لا أعلم بوجود التأمين إن وجد ولم أذهب لمقر النقابة للاستفسار عن الأمر".
ووفقاً لنقابة العمال فرع نينوى فإن "التقصير يقع على العامل ورب العمل لان العامل يتهرب من دفع الرسوم ومستحقات الضمان الاجتماعي التي اقرتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والبالغ 12.5 شهرياً مما يتقاضاه من أجر عمله، كونه يعدُها ثقيلة من الناحية الإقتصادية".
كما عزت نقابة العمال وعلى لسان مديرها شفاء طه ذلك الى التقصير الحاصل من قبل وزارة العمل في مراقبة السوق الى قلة الإمكانيات المادية، مؤكداً انه "عادةً ما تتعذر الوزارة في بغداد بعدم وجود عجلات للنقل لامكانية التفتيش في مواقع العمل ومراقبة السوق".
وقال طه لـ كركوك ناو، ان " مايقارب (6000) عامل كانت حقوقهم مضمونة حتى دخول تنظيم داعش للمدينة. والان نقوم بمتابعة ملفاتهم في الدوائر المختصة".
في حال أصبحت طاعن السن أوحدث لي اصابة او شي لايوجد لدي معيل
" النقابة مسوؤلة في متابعة الامور التي تخص العمال في نينوى من شركات ومعامل والقطاع الخاص بشكل عام، ولا يوجد في محافظة نينوى بل في عموم العراق تأمين صحي للعامل. والتأمين كان موجود في النظام السابق، أما الأن لايوجد اي اهتمام بهذا الموضوع. ونحن نتابع ذلك من خلال امكانياتنا الفردية لمتابعة بعض المرضى عند الاصابة "، هذا ما يؤكده شفاء طه.
تتوالى الظروف الصعبة على ذوي الدخل المنخفض الذين أجبرتهم ظروفهم المادية الحرجة للعمل في أعمال شاقة وخطرة في بعض الأحيان وبأجور منخفضة إذا ما قورنت ببقية المحافظات العراقية في محافظةٍ لاتزال ندبات الحرب واضحة عليها والتي سُجلت فيها نسبة الفقر مايقارب 40% بأخر إحصائية لوزارة التخطيط .
أبوداؤود وهو يُعيد ارتداء كفه ليستأنف عمله يختتم حديثه مع كركوك ناو بالقول: "في حال أصبحت طاعن السن أوحدث لي اصابة او شي لايوجد لدي معيل.. على الله فقط".