بيدينِ منسدلتينِ، كان مستلقيًا على ظهرهِ و قناع جهاز الإنعاش يغطي وجهه المجعّد.
ينقبضُ صدرهُ وينبسط. ويصدر صوتًا خشنًا يبدد هدوء الغرفة، فيما كانت زوجته تضغط بقوة على صدره النحيل، وتتوسله بأن يسحب نفسًا عميقًا.
تقول رويدا (٥٠ عام) زوج المريض "خالد" وهي ترتدي ثلاث كمامات وقفازات زرقاء اللون " لا أعرف ماذا أفعل. يقول الطبيب إنه يحتاج للأوكسجين، لكن المشافي ممتلئة ولا تقدم خدمات جيدة. انتظر قدوم الشاب عبد الله الذي يأتي باسطوانة الأوكسجين إلى البيوت".
المشافي ما تزال مريضة
لم تكن مشافي الموصل قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من مصابي الفايروس لا سيما ومع كل موجة.
مباني المستشفيات الكبيرة طالها القصف خلال الحرب على تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) فاستحالت إلى غرف "كرفانية" بالكاد تتسع بالقليل من مرضى دون مرافقين.
خمس سنوات مرت على تحرير المدينة وما يزال القطاع الصحي يأن تحت وطأة الإهمال. حيث لم يعد إلى الآن بناء أي مستشفى من أصل ٤ مستشفيات رئيسية. منها مستشفى ابن سينا ثاني أكبر مستشفى في العراق والذي يوازي مدينة الطب في بغداد وما يزال يغص بالأنقاض.
جهد ذاتي لرتق الصدع
الفجوة التي خلقتها الحرب بين واقعٍ صحيٍّ متهالك وخدمات طبية في مؤسسات أهلية لا تتناسب تكلفتها مع فئات كثيرة من سكان الموصل. سقط بها العديد من ذوي الفئات الضعيفة والفقيرة. وتركتهم عاجزين.
الحال هذا دفع بالشاب عبد الله الى افتتاح عيادة مجانية في الموصل يجمع فيها من متبرعين أدوات عينية تخص المصابين بالفيروس لا سيما كبار السن. منها اسطوانات الأوكسجين التي تملأ العيادة ليسلمها إلى ذوي المريض فيرجعونها لاحقا بعد انتفاء الحاجة إليها.
ويبقى عبد الله قابعًا في عيادته الصغيرة حتى ساعات متأخر من الليل فيما تلفه اسطوانات الأوكسجين منتظرا من يحتاجها في هذا الوقت.
أشرف أطباء اختصاص على تعليمي كيفية تركيب الجهاز وتنظيم وقت الإعطاء وجهازه
يوقف وليد سيارته الخاصة أمام العيادة وعلى عجالة يعبئ داخلها اسطوانة الأوكسجين بمساعدة عبد الله. يقول وليد لـكركوك ناو" حفظت رقم عبد الله بهاتفي بعدما رأيت منشور له في الفيس. كنت متيقن بأن والدي الكبير بالسن سيصاب بالفيروس. وآخر شيء أفكر به الذهاب إلى المستشفى".
يقول عبد الله الخريج من كلية القانون بجامعة الموصل، لـ كركوك ناو "لم يكن بمقدوري أن أبقى متفرجا ومتألما في ذات الوقت عندما أرى حالة يهرعون بها إلى المستشفى لكنهم ينصدمون عندما يشاهدون أقسام العزل ممتلئة ولا سرير يحتضن المريض مواجهين الخوف من قلة اسطوانات الأوكسجين فانطلقت إلى افتتاح هذه العيادة وبإشراف أطباء اختصاص".
استطاع عبد الله على حد قوله من تقديم الدعم لأكثر من ١٠٠ حالة منذ بدأ الجائحة.
هاتفه لا يتوقف عن الرن. ونحن نقف معه لإعداد التقرير ورده أكثر من عشرة اتصالات منها من يطلب اسطوانة أوكسجين ومنها من يبغي إعادتها.
"أغلب الحالات التي تأتيني تحتاج الأوكسجين بحسب وصف الطبيب لذا أشرف أطباء اختصاص على تعليمي كيفية تركيب الجهاز وتنظيم وقت الإعطاء وجهازه. لكن للأسف هناك حالات لم تتماثل للشفاء أهمها تأخر الاستجابة للحالة"، يقول عبد الله.
يتناول جهاز اسطواني صغير ويربطه بقطعة معدنية ثانية ثم ويوضح " العمل هذا بعيد عن تخصصي الدراسي. أنا لا أفكر بالتعيين لأنه أصبح أبعد من الحلم بالنسبة للشباب".
حتى المتطوعون لم يسلموا من الاعتداء
ذات ليلة مظلمة باردة دفع شبابٌ في مقتبل العمر بابَ العيادة على الشاب عبد الله وبنبرة حادة تشوبها ملامح تهديد أبلغوه بأن مريضهم قد مات وأنه كان السبب في ذلك. يقول عبد الله " فكرت في الحال ترك هذا العمل لأنهم حملوني مسؤولية وفاته لكنني فكرت بالذين لا يجدون غيري في مساعدتهم".
الطبيب ايثار الطائي يقول لـ كركوك ناو "نحن الأطباء لم نسلم من الاعتداء رغم كوننا موظفين حكوميين فكيف بمتطوع لا ينتمي إلى مؤسسة تحميه".
وعن عبد الله يردف الطائي قائلا "سمعت به منذ بدأ الجائحة وأعرف أطباء يتعاون معهم ويقدمون له خدمات مجانا بسبب تهالك الواقع الصحي وغلاء أسعار العلاجات".
ويرى عبد الله أن خالدًا واحد من الأمثلة التي تدفعه للاستمرار حيث بات يتمتع بصحة جيدة بعد تحدٍ مع الفيروس وصل ذروته بنسبة ضئيلة من الأوكسجين بقيت في جسمه وصلت لأقل من 70 بالمئة لكن عبد الله واصل معه حتى استعاد الرجل الكبير عافيته وبات يجري له زيارة بين فترة وأخرى.
يقول خالد(٧٠ عام) وهو يقبض كفه ويضعها على فمه بعد رشقة سعال انتابته " لم أكن أتوقع أن يعود لي النفس بشكل طبيعي.. كنت أرى وجه عبود على رأسي بشكل غير واضح لكنه لم يفارقني".
بعد عامين على الجائحة ما زال الطلب مستمرا.
ولم ينقطع الطلب من المتطوع عبد الله رغم أكثر من سنتين مرت على الجائحة. عيادته أقفلها بسبب عدم قدرته على دفع بدل الإيجار فجعل من بيته الصغير أيضا عيادة تكتظ بالإسطوانات والعدد.
تقول والدته "كنت أخشى عليه من الإصابة. رغم أنه كان قليلا ما يأتي إلى البيت لكني الآن أشجعه على عمل الخير هذا".
جولة أخرى للشاب مع مرضى السرطان.
استطاع عبد الله مؤخرا أن يجمع من ميسورين. أموالا تقدر ب ٥٠ مليون دينار عراقي لعلاج مرضى بالسرطان غير مقتدرين علاوةً على سعيه إعلاميا للفت النظر إلى افتقار محافظة نينوى التي يقدر عدد سكانها بأكثر من أربعة ملايين نسمة. إلى جهاز الإشعاع السرطاني.
ما يضطر المرضى إلى الذهاب للعاصمة بغداد أو محافظة أربيل وهي رحلة تكلف على الأقل ٣ ملايين 2000 دولار تقريبا.
يقول عبد الله " أطلب الآن وفي كل يوم عبر مناشدات افتراضية ومطالبات بتزويد الموصل بجهاز الاشعاع الذي يجير غيابه مئات المرضى إلى الذهاب لمحافظات أخرى وتلقي الجلسات هناك وهو أمر مكلف لذوي الكثيرين".
وبرزت في الموصل مبادرات عديدة لا سيما بعد تحرير المدينة من التنظيم المتطرف. تهدف جميعها إلى بث المزيد من الحياة في مرافق ظلت مهملة من قبل الحكومتين. أو مساعدة فئات رزحت تحت الفقر بسبب الحرب وتداعيات الفيروس لتنشط أكثر في فترة الفيروس وما بعدها وما مبادرة عبد الله إلا واحدة منها.