اتجهنا الى شارع كركوك الدائري أو ما يسمى بالشارع الحولي في وضح النهار، ما أن أوقفنا مركبتنا على قارعة الطريق، حتى اقتربت منا بعد دقائق امرأة، وطلبت منا فتح نافذة السيارة، دون مقدمات طرحت سؤالين، هل لديكم مكان؟ كم من الوقت تريدون أن أقضيه معكم؟
الامرأة كانت سمراء ترتدي ملابس سوداء، حواجبها موشومة بلون اسود غامق، تخفي جزءاً من وجهها بغطاء رأسها، وتدل ملامحها على أن عمرها يتراوح بين 45 الى 50 سنة.
بعد أن علمت بأننا لسنا زبائن وأن القصد من مجيئنا إجراء متابعة صحفية، شعرت بالخوف وحاولت التنصل منا، لكن بعد أن طمأنناها بأننا سنحافظ على سرية هويتها، وافقت على التحدث لنا باختصار وقالت، "جئت من محافظة عراقية أخرى وأعمل مع ثلاث نساء أخريات في مجال الدعارة".
كركوك/ 2022/ امرأة تقف في شارع رئيسي بانتظار أن تتوقف مركبة وتتفق مع ركابها تصوير: كركوك ناو
يعرف هذا الشارع بين سكان مدينة كركوك بالشارع الحولي ويربط مدخل كركوك بالسليمانية وأربيل وعدة مناطق أخرى من العراق واقليم كوردستان، لذا يعتبر ممراً رئيسياً للمركبات الخصوصية والشاحنات.
"غالباً ما نصعد مع السواق الذين يأتوننا لوحدهم أو يرافقهم راكب آخر، إن كانت المركبة تقل عدداً أكبر حينها لن نجرؤ على الصعود معهم خوفاً على سلامتنا"، تقول الامرأة لـ(كركوك ناو).
تجولنا في الشارع الحولي من الساعة التاسعة صباحاً حتى الواحدة بعد الظهر وصادفنا نساء أخريات، معظمهن في الأربعينات من العمر.
جئن الى كركوك من محافظات أخرى
خلال شهرين زرنا الشارع الحولي عدة مرات لإجراء متابعاتنا الميدانية، في بعض الأحيان يستدعي سواق المركبات هؤلاء النسوة، وأحياناً أخرى هن من يتوجهن مباشرة نحو المركبات.
يخلو الشارع الحولي الذي يقع في أطراف المدينة من أمكنة عامة كالمحلات والأسواق الكبيرة لكي تتوقف فيها المركبات لشراء الاحتياجات مثلاً.
"أمارس الدعارة في كركوك منذ أكثر من عام، نقف يومياً عدة ساعات في هذا الشارع، في بعض الأيام نذهب مع أحد سواق المركبات ونحصل مقابل ذلك على مبلغ 25 ألف دينار"، هذا ما قالته امرأة أخرى صادفناها في الشارع الحولي.
لدي طفل صغير وقد انفصلت عن زوجي، لذا اضطر لجمع المال عن طريق للاستجداء، كل ما يهمني هو تأمين مصاريف شراء الحليب والحفاظات لطفلي
وتقول أنها تخرج أحياناً مع الزبائن الذين يتصلون بها هاتفياً دون الحاجة للمجيء الى الشارع الحولي، لافتة الى أنها تعطي رقم هاتفها للبعض ممن تثق بهم، "نفضل الخروج مع سواق الشاحنات، لأن هناك متسع من المكان في مركباتهم، وليسوا بحاجة لكي يدبروا مكاناً".
البعض من اولاء النسوة كن يتفقن مع الزبائن على مبالغ مقابل خدماتهن تتراوح بين 15 الى 25 ألف دينار، بعضهن مستعدات للخروج مع الزبائن مقابل خمسة آلاف دينار فقط.
من الصعب على الصحفيين الاستقصائيين الحصول على تصريحات ومعلومات بهذا الشأن، لذا يضطرون أحياناً للتصوير سراً لأن هؤلاء الأشخاص لا يريدون تسليط الضوء عليهم مطلقاً في الاعلام.
تقول امرأة أخرى وفدت الى كركوك بحثاً عن لقمة العيش، "لدي طفل صغير وقد انفصلت عن زوجي، لذا اضطر لجمع المال عن طريق للاستجداء، كل ما يهمني هو تأمين مصاريف شراء الحليب والحفاظات لطفلي".
تقول هذه الامرأة وكثيرات غيرها بأنهن تعرضن لمواقف قام فيها الزبائن برميهن في مناطق مهجورة بالمدينة بعد ممارسة البغاء معهن دون أن يدفعوا لهن شيئاً.
معظم تلك النسوة يرتدين ملابس سوداء محتشمة وغير متبرجات.
أعطيتها لكنها قالت بعد ذلك لم لا تمارس الجنس معي، فقلت لها بأنني مشغولو ليس لدي مكان
بعضهن ذكرن بأن بعض النسوة يمارسن البغاء تحت إشراف عصابات دعارة، لكن (كركوك ناو) لم يتمكن من التأكد من تلك المعلومة.
فضلاً عن الشارع الحولي تمارس بعض النسوة في مناطق أخرى من كركوك وفي سوق المدينة تجارة البغاء تحت غطاء التسول.
أحد المواطنين، طلب عدم الكشف عن اسمه، قال لـ(كركوك ناو)، "استوقفتني امرأة بينما كنت أقود سيارتي في أحد أزقة مركز المدينة وطلبت مني نقوداً، فأعطيتها لكنها قالت بعد ذلك لم لا تمارس الجنس معي، فقلت لها بأنني مشغولو ليس لدي مكان، لكنها ضحكت وقالت أعطني 25 ألف دينار ولا تشغل بالك فالمكان موجود".
بعض تلك النسوة يؤجرن غرف أو منازل بصورة مؤقتة لحين إتمام عملهن.
المخاطر الصحية
أغلب النسوة اللائي تحدث معهم (كركوك ناو) في شارع كركوك الحولي أكدن بأنهن لم يخضعن لأي فحوصات طبية، ولا يستعملن أي أدوية باستثناء حبوب منع الحمل كما أنهن لا يستخدمن وسائل الوقاية من الأمراض المنقولة جنسياً.
منذر نعمان، مدير قسم الأمراض الانتقالية في دائرة صحة كركوك قال لـ(كركوك ناو)، "للأسف هذه الظاهرة المقيتة تؤدي الى انتقال العديد من الأمراض، مثل الايدز وأمراض الجلد والفيروس الكبدي اضافة الى عدة أمراض تصيب الجهاز التناسلي".
دائرة الصحة ليس لديها احصائيات ومتابعات حول مدى خطورة تلك الأمراض التي تنتقل عن طريق ممارسة البغاء وعدد المصابين بها.
"ننشر على الدوام تعليمات وإرشادات حول الأمراض السارية المرتبطة بممارسة الجنس، لأن هؤلاء الأشخاص لا يستخدمون وسائل الوقاية"، بحسب المسؤول في دائرة الصحة.
العقوبات القانونية
أثناء متابعتنا الميدانية وخلال المرات التي تواجدنا فيها في الشارع الحولي لم نلحظ وجود أية مفارز للشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى في المنطقة.
لكن الناطق باسم قيادة شرطة كركوك، عامر نوري، قال لـ(كركوك ناو) بأن شرطة مكافحة الإجرام وشرطة الطوارئ ترسل باستمرار دوريات الى ذلك الشارع لإلقاء القبض على المشبوهين.
بموجب قانون مكافحة البغاء رقم 8 لسنة 1988، " يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات كل سمسار أو من شاركه أو عاونه في فعل السمسرة، وكل مستغل أو مدير لمحل عام أو أي محل آخر يسمح لدخول الجمهور فيه استخدام اشخاص يمارسون البغاء".
كما نص القانون على أنه يعاقب بالسجن مدة تتراوح بين 10 الى 15 سنة كل من استبقى شخصاً في مكان ما للبغاء بالخداع او بالإكراه والقوة والتهديد.
ويقول المتحدث باسم شرطة كركوك، "سنتخذ كافة السبل للقضاء على هذه الظاهرة في مدينة كركوك، للأسف هؤلاء الأشخاص يتواجدون في بعض الأماكن مثل الشارع الحولي أو الفنادق القديمة أو في التقاطعات المرورية ويمارسون البغاء تحت غطاء التسول".
كركوك/ 2022/ امرأة تقف في شارع كركوك الحولي بانتظار مجيء زبائن تصوير: كركوك ناو
وفقاُ لقانون مكافحة الدعار والبغاء، يتم ايداع من ثبتت بحقهم تهمة البغاء في دور الاصلاح لمدة تتراوح بين ثلاثة اشهر و سنتين، وفي حال هروبه من دور الاصلاح يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة ثم يعاد الى الدار لإكمال مدة حجزه. ويحق للقاض المختص انهاء الحجز الاصلاحي في حال قدم احد اصول المحجوزة او زوجها او من له الولاية عليها او احد اقربائها تعهدا يلتزم فيه حسن تربيتها وسيرتها وسلوكها، أو اذا تزوجت المحجوزة واقتنعت المحكمة من ان هذا الزواج لم يكن الغرض منه التملص من احكام هذا القانون. وكذلك اذا ثبت للمحكمة من التقارير الرسمية بان المحجوزة اصبحت بحالة تستطيع معها العيش "الشريف".
وأشار عامر نوري الى اعتقال أربع نساء بتهمة البغاء في الحملة الأخيرة التي أطلقتها القوات الأمنية في الشارع الحولي، كما تمكنت الأجهزة الأمنية من انقاذ امرأة اختطفتها عصابة دعارة في منطقة بنجا علي.
بغاء أم اتجار بالبشر؟
ترى مسؤولة مكتب كركوك لجمعية الأمل العراقية، سرود أحمد أن القضايا المماثلة لما تابعه (كركوك ناو) في شارع كركوك الحولي تعتبر قضايا اتجار بالبشر، "نحن نتابع هذه القضايا باستمرار".
إكراه النساء والفتيات على البغاء يندرج ضمن عمليات الاتجار بالبشر الذي تصل عقوبته السجن المؤبد مع غرامات مالية تصل 25 مليون دينار، وفي حال كانت الفتاة تحت سن الثامنة العشرة تكون القوبة اقسى، وفقاً لأحكام قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 8 لسنة 2012.
بموجب المادة 37 من الدستور العراقي يحرم الاتجار بالنساء والاطفال، والاتجار بالجنس.
مديرة فرع كركوك لجمعية الأمل العراقية التقت خلال المتابعة الميدانية لـ(كركوك ناو) بعض النسوة في الشارع الحولي وتحدثت معهن.
"تلك الامرأة كانت في الـ42 من العمر، لكن ملامحها توحي بأنها أكبر من ذلك، تشعر في كلماتها باليأس من الحكومة وبأنها ذاقت مرارة الحياة، لأن زوجها قتل بسبب النزاعات الطائفية وأصبحت المعيلة الوحيدة لأطفالها الثلاثة"، وتضيف سرود بأنها تحدثت مع تلك الامرأة التي أخبرتها أنها تمكنت بواسطة المال الذي تكسبه من التسول من جعل أطفالها يواصلون الدراسة، رغم أنها لا تملك أي راتب".
وتقول سرود أحمد أنه خلال الدقائق القليلة التي تحدثت فيها مع تلك الامرأة، وقفت أكثر من 10 مركبات وطلبوا منها الصعود معهم.
وقالت سرود، "ينبغي على الحكومة، وبالأخص وزارة العمل والشؤون الاجتماعية العمل سريعاً على تأمين رواتب للمعوزين لكي لا تجبرهم الظروف على اللجوء لمثل هذه الأعمال"، كما عبرت سرود عن استيائها من تهاون المنظمات الدولية بخصوص هذه القضايا، وإلقائها الملف على عاتق الحكومة.
ويلزم قانون مكافحة البغاء وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بتنفيذ برامج التأهيل السلوكي والثقافي والمهني "للبغايا" بهدف اصلاحهن وتمكينهن من كسب عيشهن بوسيلة "شريفة".
