لجأت نادية لحرق نفسها من فرط العنف والقسوة التي عانتها في حياتها، لكن ذلك ضاعف من مصائبها وباتت لا تستطيع استرداد حقوقها عن طريق القانون.
"تحملت كل التعنيف الذي تعرضت له من قبل زوجي، قلت لنفسي ربما سيندم على أفعاله لأن بيننا أطفال، لكن لم يعد بمقدوري تحمل المزيد".
نادية اسم مستعار لامرأة كركوكية، تزوجت من الشخص الذي احبته في العام 2019، وسرعان ما بدأت المشاكل بينهما، "كان يشعر بالغيرة، وصل الأمر به للنوم بمعزل عني، بعد ذلك اكتشفت أنه على علاقة مع امرأة أخرى"، حسبما روت نادية لـ(كركوك ناو).
رزقت نادية بتوأم (ولد وبنت) من زوجها وهما الآن بعمر الثالثة.
"في إحدى الليالي تأكدت من خيانة زوجي لي، علمت بأنه لن يتغير وبأنه لم يعد يريدني، لذا لم أتمكن من النوم تلك الليلة، بعد ذلك اصطحبت أطفالي معي وأودعتهم عند بيت والدي لكي يعتنوا بهم، رجعت على الفور الى منزلي و أضرمت النار في جسدي".
تقول نادية أنها في ذلك اليوم من شهر كانون الثاني 2022 هددت زوجها بأنها ستحرق نفسها إن لم يترك تلك الامرأة، لكنه لم يعر أي اهتمام لتهديداتي وذهب الى غرفة أخرى".
"كنت أركض في أرجاء المنزل وأصرخ من شدة النار التي كانت تلتهم جسدي، احترق أثاث المنزل ، تحول المنول الى قطعة لهب ودخان، توجهت الى باب الحوش عسى أن ينجدني شخص ما، أخمد زوجي وبعض الجيران النار".
احترق جزء كبير من جسد نادية، خصوصاً وجهها، يداها وقدماها لكن الحروق لم تصل الى أحشائها ونجت من خطر الموت. بعد الحادث، تفاقمت المشاكل بين نادية وزوجها.
منذ مطلع عام 2022 حتى نهاية شهر آب الماضي، نُقل 190 شخص الى مستشفى الحروق التابع لمستشفى آزادي بمدينة كركوك بسبب حوادث الحرق أو الاقدام على حرق النفس، توفي منهم 29 شخصاً بسبب خطورة درجة الحروق، وكان عدد الذكور من المصابين خمسة فقط والبقية إناث، حسب إحصائية رسمية حصل عليها موقع (كركوك ناو).
في حين شهد عام 2021 تسجيل 242 حالة حرق أو الإقدام على حرق النفس ثلاثة منهم ذكور، كما توفي منهم 62 شخصاً.
مصدر في مستشفى الحروق، طلب عدم الكشف عن اسمه لأنه غير مخول بالتصريح، قال لـ(كركوك ناو)، "الأشخاص الذين أقدموا على الانتحار حرقاً وتم نقلهم الى مستشفى الحروق كانوا قد تعرضوا للعنف الأسري والمشاكل الاجتماعية، معظمهم نساء وبينهم أطفال، وهم من جميع القوميات والمكونات".
وفقاً للأطباء، فرص بقاء الأشخاص الذين تتراوح نسبة حروقهم بين 40 و 50 بالمائة على قيد الحياة ضئيلة، في الوقت الذي اشار فيه المصدر الى أن "الذين نقلوا الى المستشفى وصلت نسبة حروقهم الى 90 بالمائة أو أكثر".
يضم مستشفى الحروق بكركوك 12 سريراً فقط، ويستقبل المستشفى مصابين من محافظتي ديالى وصلاح الدين كذلك، لذا يتم أحياناً نقل المصابين بالحروق اضطرارياً الى مستشفى الحروق بمدينة السليمانية.
كنت متأكدة من أن زوجي كان يعتني بي ويتصرف معي على ذلك النحو لكي لا أذكر اسمه في إفادتي للشرطة
تلقت نادية في بادئ الأمر العلاج في مستشفى حروق كركوك، قبل أن تُنقل الى مستشفيات السليمانية، حيث بقيت تحت العناية الطبية عدة اشهر.
"خلال الفترة التي رقدت فيها بالمستشفى كان زوجي يعتني بي، وذات يوم حضنني باكياً وقال لي أنه سيظل معي حتى الموت رغم ما أصابني وبأنني أم أولاده، اعتنى بي كما يُعتنى بطفل صغير، هناك أعرب عن ندمه وقال بأنه هو المذنب"، تقول نادية.
"كنت متأكدة من أن زوجي كان يعتني بي ويتصرف معي على ذلك النحو لكي لا أذكر اسمه في إفادتي للشرطة"، وهذا بالفعل ما قامت به نادية، حيث قالت في إفادتها خلال التحقيقات، "كنت مستاءة جداً واقدمت على حرق نفسي، لا ذنب لزوجي فيما حدث"، بذلك لم يتعرض زوج نادية لأية محاسبة أو عقوبة قانونية.
وتشير إحصائية لقيادة شرطة كركوك الى تسجيل 16 حالة "انتحار" في المحافظة خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2022، 11 منهم كانوا إناث.
وتم تسجيل 149 حالة عنف أسري في كركوك في الشهرين الأولين من هذا العام، 122 حالة منها ارتكبت ضد النساء، في الوقت الذي كان عدد حالات العنف الأسري المسجلة في العام الماضي 500 حالة، شملت مشاجرات بين الأزواج والخيانة الزوجية.
وقال الناطق باسم قيادة شرطة كركوك، المقدم عامر شواني، لـ(كركوك ناو)، "أية حالة حرق أو الإقدام على حرق النفس يكون العنف سبباً لحدوثها، هناك العديد من القضايا التي لا يقدم فيها الضحايا على حرق أنفسهم بل يلجؤون لطرق أخرى للانتحار، لأنهم يخشون من بقائهم على قيد الحياة".
حسب الإجراءات التي تتخذها الأجهزة الأمنية، تتجه فرق التحقيق الى مكان حادث الحرق أو الإقدام على الانتحار حرقاً، لأخذ إفادات الضحايا إن كانوا على قيد الحياة".
"جميع حالات الحرق التي حققنا بشأنها كانت متعلقة بالعنف الأسري"، واشار المقدم عامر شواني الى تسجيل أكثر من 13 حالة حرق وقتل وانتحار منذ مطلع هذا العام، مستشهداً بقضية حدثت قبل اسبوع تتعلق بامرأة انتحرت بسبب خلافات مع زوجها.
وفي 23 شباط من هذا العام، أقدمت امرأة في قضاء داقوق تبلغ من العمر 38 سنة على حرق نفسها وفارقت الحياة على إثر ذلك، بعد أن علمت أن زوجها تزوج عليها.
وفي 4 تموز الماضي، تمكنت شرطة طوارئ كركوك من إنقاذ امرأة كانت تنوي قتل نفسها وأطفالها.
لم تنته مشاكل نادية بعد حادث محاولة الانتحار، بل زاد الوضع سوءاً.
"مباشرةً بعد تقديم إفادتي وتحميل نفسي ذنب ما حدث، تغير سلوك زوجي، بل أصبح أسوء من ذي قبل، وندمت لأنني برّأته من المسؤولية وحرقت نفسي".
خضعت نادية لعدة عمليات تجميلية لوجهها وجسدها، آخرها كانت في دبي، "لكنني لم أستعد جمالي، تعرض وجهي لتشوهات وأصبت بمشاكل نفسية"، رغم ما كانت تمر به، لم تسلم نادية من المشاكل.
امتد زواجها حتى شهر حزيران 2022 وسط جو من المشاكل والعنف، "في أحد الأيام قال لي زوجي، أصبحت مشوهة ويجب أن ننفصل، قال بأنه سيتزوج من امرأة أخرى وخيّرني بين الانفصال أو البقاء لوحدي مع اطفالي، فاخترت الطلاق وأنا الآن أعيش مع أطفالي في بيت والدي"، هذا ما قالته نادية التي تنتظر الجلسة الأخيرة للمحكمة لكي تنفصل عن زوجها نهائياً.
وفقاً لآخر إحصائيات مجلس القضاء الأعلى، تم تسجيل 197 حالة طلاق في كركوك خلال شهر آب 2022.
المحامية آهنك أنور، قالت لـ(كركوك ناو)، "تأتينا كل سنة قضايا حرق النفس، أحياناً تتهم النساء أزواجهن بكونهم السبب والدافع وراء ذلك، لكن هذا ليس كافياً لإدانتهم، لأن ذلك يتطلب وجود شاهدين يؤكدان تورط الزوج في تحريض الزوجة على حرق نفسها، أو وجود دليل مسجل عن طريق كاميرات المراقبة".
بموجب القانون، لا تقبل المحكمة شهادة المقربين من الضحية، فمثلاً لا تستند المحكمة الى شهادة مقدمة من أبناء الضحية ضد والدهم، بحسب آهنك أنور، التي تقول أن إثبات تورط المتهم في القضية "صعب جداً"، الأمر الذي يجعل من النساء ضحايا في معظم الأحيان.
وتنص المادة 408 من قانون العقوبات العراقي على أنه " يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات من حرض شخصا أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار اذا تم الانتحار بناء على ذلك، وتكون العقوبة الحبس اذا لم يتم الانتحار ولكن شرع فيه".
وجاء في تلك المادة أيضاً، " اذا كان المنتحر لم يتم الثامنة عشرة من عمره أو كان ناقص الادراك أو الارادة عد ذلك ظرفا مشددا. ويعاقب الجاني بعقوبة القتل عمدا أو الشروع فيه"، ولا توجد عقوبة للشخص الذي شرّع في بالانتحار.
أقدمت على حرق نفسها في منزل والدي، لذا لم تتم إدانة زوجها في الحادث
"قضايا قتل النفس حرقاً كثيرة، لكن قلّما تلجأ العوائل للمحاكم وتحاول التستر على الحادث، أو تقول أن ابنتهم فارقت الحياة، فلا جدوى من تسجيل دعوى قضائية"، وتضيف المحامية آهنك بأن النساء والفتيات يتحملن جزءاً من مسؤولية عدم وصول قضاياهن الى المحكمة بسبب قلة وعيهن وإلمامهن بالقانون.
لا توجد في كركوك ملاذات أو مراكز خاصة بإيواء النساء والفتيات المهددات بالقتل أو اللائي يتعرضن للعنف الأسري لأسباب مختلفة، بالأخص العائلية منها.
"شقيقتي حرقت نفسها بسبب التعنيف والضرب المتواصل الذي كانت تتعرض له من قبل زوجها، لأنهم حرموها أيضاً من اطفالها، كانت مثل غيرها من النساء اللائي لم يكن حتى ذووها يدافعون عنها"، تقول سامية (31 سنة).
سامية اسم مستعار لفتاة سردت لـ(كركوك ناو) قصة شقيقتها التي فارقت الحياة في سن الـ43، جراء الحروق البليغة التي تعرضت لها، "لم يكن يمر عليها يوم دون أن ينهال عليها زوجها بالضرب والشتائم، كانت الكدمات تغطي جسدها، حول البيت الى جحيم بالنسبة لها، تركت منزل زوجها عدة مرات وعادت الى بيت والدها، لكن أهلها كانوا في كل مرة يعيدونها الى بيت زوجها بحجة مصلحة الأطفال وأقاويل الناس".
وصلت المشاكل بين شقيقة سامية وزوجها حد الطلاق، سكنت في بيت والدها مع أطفالها الثلاثة وأكبرهم في الخامسة من العمر وأصغرهم يبلغ من العمر سنة واحدة، لكن بسبب ضغوط والديها و أهل زوجها أخذوا الأطفال منها.
"أقدمت على حرق نفسها في منزل والدي، لذا لم تتم إدانة زوجها في الحادث، وأثناء التحقيقات تم أخذ إفادات زوجها وأفراد أسرتها لكن باستثناء توقيفهم لمدة قصيرة لم يتعرض أي منهم للعقوبة"، بحسب سامية.
حرق النفس ليس الحل، أدعو النساء الى عدم اللجوء لحرق النفس
ازدياد حالات العنف الأسري يتزامن مع المساعي المبذولة لإقرار مشروع قانون مناهضة العنف الأسري الذي يضم نقاطاً مهمة منها، فتح مراكز آمنة لضحايا العنف الاسري، تشكيل محكمة مختصة بقضايا العنف الاسري و تحديد العقوبات و الأحكام الجزائية بحق مرتكبي العنف الأسري، لكن القانون لا يزال بانتظار مصادقة البرلمان العراقي عليه.
سرود أحمد، مسؤولة فرع كركوك لجمعية الأمل العراقية، قالت لـ(كركوك ناو)، "المشاكل العائلية والاجتماعية وحالات الاقدام على حرق النفس تفاقمت في كركوك بحيث تردنا كل يومين حالة متعلقة بالعنف الأسري، وتعود الأسباب الى شبكات التواصل الاجتماعي والأزمة الاقتصادية وانتشار السلاح وقلة فرص العمل".
جمعية الأمل تابعت في عام 2018، 58 قضية متعلقة بالإقدام على حرق النفس والانتحار، وتقول سرود أنه اتضح أن أغلبها وقعت في العوائل التي "مستوى وعيها اقل، ولا تولي أي عطف أو اهتمام بأطفالها وتوجد مشاكل كثيرة بين افرادها".
وذكرت سرود قضية جديدة، حصلوا على معلومات بشأنها في شهر أيلول 2022، القضية وقعت في قرية بكركوك كان ضحيتها طفل، حيث تعرض لعنف شديد من قبل والده، وحرقت والدته نفسها واحترق جزء من جسدها لكنها بقيت على قيد الحياة، "نسعى لإعادة الطفل الى حياته الطبيعية وهو الآن يلعب ويتعلم مزج الألوان ويرسم ويغني".
تقول سرود أحمد بأن منظمتها تحاول تشجيع النساء على استرداد حقوقهن عن طريق القانون، وتتابع المنظمة قضاياهن وتقدم لهن المساعدة، "حرق النفس ليس الحل، أدعو النساء الى عدم اللجوء لحرق النفس، لأن تلك القضايا يتم التكتم عليها من قبل عوائلهن خوفاً من العار، كما يتعذر فعل شيء لهن من الجانب القانوني".
حسب استطلاع للرأي أجرته دائرة تمكين المرأة في عام 2020 –تابعة للأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي-، سُجلت أعلى معدلات العنف الأسري في محافظات كركوك، دهوك ونينوى، في حين أشارت 123 امرأة الى أنهن حاولن الانتحار بسبب الضغوط والعنف الأسري.
"آثار حوادث الحرق ومحاولات قتل النفس حرقاً تختفي، موقع الحادث يتحول بالكامل الى رماد، أدوات الجريمة، كعبوات النفط والقداحات تختفي أثناء الحادث، فهي ليست كالسكاكين والأسلحة الأخرى التي يمكن العثور عليها، فضلاً عن ذلك يتم التكتم على الجريمة"، بحسب باحثة اجتماعية في كركوك، طلبت عدم الكشف عن اسمها.
"وصلتني العديد من قضايا النساء اللائي حرقن أنفسهن أو تم حرقهن بسبب العنف الأسري، لكن حقوقهن لا تُسترد والمحكمة تطلب وجود شهود وهو أمر صعب جداً لعدم وجود شهود في معظم تلك الحوادث"، وتضيف الباحثة الاجتماعية أن "النساء يخشين على سمعتهن بسبب أعراف وتقاليد المجتمع، لذا يتجنبن تسجيل دعاوى قضائية ويتخلين عن حقوقهن".
وفقاً لإحصائية حصلت عليها (كركوك ناو) من المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق، شهد عام 2021 تسجيل 98 حالة "انتحار" بصورة رسمية في كركوك ، 78 منهم إناث فوق سن الـ20، في حين شهد عام 2020 تسجيل 65 حالة "انتحار" ، 50 منهم كانوا إناث.
زيان حميد، مديرة فرع كركوك لاتحاد نساء كوردستان قالت لـ(كركوك ناو)، "كانت لدينا 15 قضية محاولة الانتحار حرقاً خلال العام الماضي، لكن حتى شهر حزيران من هذا العام كان عدد الحالات ستة، وحسب متابعاتنا لم تشر أي من العوائل في إفاداتها الى وجود مشاكل عائلية بل عزت الحالات الى سوء الحالة النفسية، وانفجار قناني الغاز والطباخات الغازية، لكنها ليست في الحقيقة بهذا الشكل بل هي قضايا عنف أسري".
"معظم العوائل التي تقدم بناتها على حرق أنفسهن، تتنازل عن جميع حقوقها وتتستر على الجريمة خوفاً من الوصم"، وتقول زيان أن "أغلب هذه القضايا تذهب طي الكتمان، وهذا يتطلب نشر الوعي لكي لا تلجأ النساء لحرق أنفسهن لأن ذلك ليس حلاً".
وفقاً لإحصائية نشرتها وزارة الداخلية العراقية في عام 2021، تم تسجيل أكثر من 772 حالة "انتحار" في العراق (باستثناء اقليم كوردستان)، 44.8 بالمائة منهم كانوا إناث وأن نسبة 40 بالمائة منهم كانوا متزوجين. وذكرت الإحصائية أن دوافع الانتحار لـ35.22 بالمائة تتعلق بالضغوط النفسية، 34.64 بالمائة بسبب اضطرابات نفسية.