لم تتوقع سمرنبيل أن صديقتها المقربة هيام لسنوات، يمكن أن تتركها يوما وتمحو صفحات صداقتهما لمجرد اكتشاف انتمائها لديانة الصابئة المندائية. لم تتوقف عند مقاطعتها بل باتت تتهمها بـ “النجاسة” وتقديس “الكواكب والنجوم”.
هذه الواقعة نزلت على رأس الشابة الصابئية كالصاعقة، فلم تكن تتوقع موقفا كهذا وكلاماً بلا أي سند، من صديقات واصدقاء الدراسة وهم جامعيون يفترض انهم متعلمون ويعرفون من هم الصائبة.
بعد أسابيع وفي موقف آخر صادم وصفته سمر بالأكثر قسوة، اتصلت بها احدى زميلاتها المتخرجات من الكلية وطلبت منها عنوان لأحد “السحرة” كونها تعاني من تأخر الزواج. وعند الاستفسار عن علاقتها بهذا الموضوع وبالسحر، ردت زميلتها "انتم الصابئة معروف عنكم العمل بالسحر".
هذه الصور النمطية المتداولة تؤثر بصورة سلبية على نفسية الصابئي، وبالأخص الأطفال والشباب
يعاني الصابئة المندائيون من انتشار الكثير من المعلومات الخاطئة عن ديانتهم بين بعض شرائح المجتمع العراقي، ويعزو زعيم الطائفة تداولها إلى الجهل بتعاليم الديانة ومعتقداتها واحيانا الى تعمد التشويه رغم معرفتهم بالحقيقة وذلك لأهداف غالبها مادي.
تقول الناشطة الصابئية فائزة ذياب، لـ كركوك ناو، ان " الأفكار الخاطئة منتشرة في المجتمع العراقي حول الديانة المندائية، تتضمن معلومات مغلوطة تبنى على أساسها أحكام كثيرة تسبب لأبناء الديانة معاناة كبيرة".
ورغم ان الصائبة ينتشرون في وسط وجنوب البلاد مختلطين بباقي المكونات العراقية، الا ان الصور المغلوطة حولهم تنتشر لدى مختلف الشرائح العراقية حتى التي يعيش الصائبة بينها. وهذا الحال يتكرر مع الايزيديين وأبناء ديانات أخرى أقل عددا وحضورا.
"هذه الصور النمطية المتداولة تؤثر بصورة سلبية على نفسية الصابئي، وبالأخص الأطفال والشباب، وهي ترسخ قناعات الكثير منا بان المجتمع لا يتقبلنا بسبب انتمائنا الديني"، تضيف ذياب.
وتشير الى ان البعض يلصق اتهامات باتباع هذه الديانة مثل ممارسة اعمال “السحر والشعوذة” وعبادة “الكواكب والنجوم” و”النجاسة” ما يجعلهم محل عدم قبول في المجتمع. وتلفت إلى أن ذلك يدفعهم للنفور من المجتمع والاحساس بعدم الانتماء وبالتالي الهجرة بعيدا الى خارج البلاد.
ابتهال ناجي وهي عراقية مسلمة، تؤكد ترسخ هذه “الصور النمطية” لدى شريحة من المجتمع، وتعزو ذلك “للجهل والمعلومات الخاطئة المتداولة بين الناس”.
وتعد الديانة المندائية أحد اقدم الديانات المعروفة في وادي الرافدين، وهي ديانة توحيدية. ولدى اتباعها الذين ينتشرون قرب مياه الأنهار حيث تجرى بعض طقوسهم كالتعميد، كتاب مقدس يسمى (كنزا ربا).
ويعتقد ان الديانة نشأت تحديدا على ضفاف الأهوار الجنوبية المنتشرة بمحافظتي ميسان وذي قار، ومنها انتشرت إلى مختلف المدن العراقية كما يسجل وجود لها في إيران، ونتيجة الهجرة في العصر الحديث انتشر المندائيون العراقيون في كافة أنحاء العالم.
“كنزا ربّا” يحرم السحر
في بعض الأوساط الشعبية، يتم تناقل قصص ومعلومات خاطئة ومشوهة عن الصابئة وطقوسهم الدينية، ويربطهم البعض بممارسة السحر. لكن أبناء الطائفة يرفضون كل ذلك، ويعتبرونها ادعاءات تروج لأهداف مختلفة.
"تحرم الديانة الصابئية السحر"، كما يقول زعيم طائفة الصابئة المندائيين في العراق والعالم الشيخ ستار جبار الحلو، ويضيف “بل تعتبره من المحرمات الكبرى، ومن يزاوله لن يرى نور الله سبحان وتعالى، والدليل على ذلك آيات كثيرة وردت في كنزا ربّا”.
الكسب المالي وتشويه صورة الطائفة
ويورد الشيخ الحلو لـ(كركوك ناو)، نصاً محدداً من كتاب “كنزا ربّا” ويعني باللغة السريانية الشرقية القديمة “الكنز العظيم”، جاء فيه تحريم السحر “بِسْم الحي العظيم، لا تقصدوا السحرة والمنجمين الكاذبين المتلفعين في الظلام، إن من يعملها مصيرُه النار الموقدة”.
رغم ذلك، هناك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تروج لمنشورات تدعي قيامها بـ”السحر الصابئي السفلي” وغيرها من التسميات، وهي ترفق معها صوراً لرجال دين صابئة.
يؤكد الشيخ الحلو، أن هؤلاء لا يمتون بصلة للديانة الصابئية، وانه تم إلقاء القبض على بعضهم من قبل الشرطة المجتمعية وتبين أنهم من الديانات الأخرى يستغلون اسم الصابئة من اجل “الكسب المالي وتشويه صورة الطائفة”.
ويدعو إلى “وقفة جادة من قبل الجهات الأمنية والحكومية والشعبية لإيقاف كل شخص يستغل اسم الصابئة من اجل تنفيذ اعمال السحر واستغلال الناس مالياً، جسدياً ومعنوياً”.
سمر نبيل توكد انها اتصلت بأحد ممن يدعي انه ساحر ورجل دين صابئياً، وتحدثت معه باللغة الصابئية وهي لغة مشتقة من الآرامية القديمة، وتبين انه لا يجيد التحدث بها وكما لديه “جهل تام” بالتعاليم الدينية، وتاكدت انه “مدعي ولا علاقة له بالديانة الصابئية”.
أقدم ديانة توحيدية
يؤمن أبناء الطائفة المندائية، بـ”الإله الواحد الخالق”، ويؤكدون على كونها ديانة توحيدية، رافضين بذلك ادعاءات باطلة تسعى لتكفيرهم.
ويرد زعيم الطائفة على من يحاول ان يكفر الصابئة المندائيين، بالقول: “الصابئية المندائية هي أقدم ديانة توحيدية، تؤمن بالإله الواحد، وآيات كتاب كنزا ربّا تتحدث عن صفات الإله الخالق العظيم الذي أنزله على الانبياء آدم، شيت، ادريس، نوح، سام بن نوح ويحيى ابن زكريا”.
الأنبياء الذين ذكرهم الحلو وردت اسماؤهم كذلك في الديانات الابراهيمية (اليهودية، المسيحية والإسلام).
ويشير الى ذات الأمر، الباحث محمد رحيم، قائلا “الصابئية ديانة توحيدية سماوية، تؤمن بالله الواحد الحي القيوم”، مبيناً أن الإسلام ومن خلال القرآن الكريم ذكر الديانة الصابئية في ثلاث مواضع في سور الحج، المائدة والبقرة”.
ويضيف الباحث الذي يعتنق الدين الاسلامي ان بعض افراد المجتمع يلصق تهماً “باطلة ما أنزل الله بها من سلطان” بحق الصابئة مثل انهم وثنيون او يعبدون الكواكب والاقمار.
ولدى الصابئة دور عبادة، يطلق عليها “المندي” وتعني باللغة العربية “بيت المعرفة” تتزين بنصوص من “كنزا ربّا” باللغتين السريانية وترجمتها العربية، تعلوها “الدرفش” وهو شعار الديانة ويصنع من أغصان القصب على شكل لوحين متقاطعين يرمزان للاتجاهات الاربعة وعليه قطعة قماش بيضاء مع أغصان صغيرة من شجر الآس.
الغطس بالمياه الطاهرة
الطقوس الدينية لدى الصابئة غالبا ما تكون مرتبطة بالمياه، مثل التطهر بها قبل الصلاة، وغطس بها في طقوس "الصباغة".
يقول زعيم الطائفة، ان “الطهارة” واجبة على كل مندائي عند تأديته للصلاة الخاصة بهم ثلاث مرات يوميا، ويتوجب عليه الوضوء بغسل اليدين والوجه والاذنين والفم والأنف والركبة.
ويلفت الشيخ الحلو إلى الكثير من الممارسات الدينية التي تٌجرى في المياه مثل “الصباغة” وتعني التطهر بالماء وتتضمن غطس وقطع النفس داخل المياه في إشارة إلى “الموت” ثم النهوض و”بدء حياة جديدة” وتتكرر لثلاث مرات.
الباحث محمد رحيم يوضح ان الصابئة من “أكثر الطوائف حبا للنظافة”، حيث يتوجب عليهم الالتماس بالماء ثلاثة مرات قبل الصلاة، ومراسيم الزواج وتعميد الأطفال جميعها بالغطس بالماء. والطقس الديني الأخير يعد الأشهر الذي يمارسه الصابئة المندائيون.
ونتيجة علاقة المياه بالمراسيم الدينية لدى الصائبة، تُبنى مراكز العبادة “المنادي” بجوار المياه أو على حافات الأنهار.
هجرة عشرات الآلاف
ومع مواجه أبناء المكون الكثير من المضايقات في العقدين الأخيرين، بسبب انتمائهم الديني، وكونهم اقلية صغيرة وسط مجتمع مسلم في غالبيته الساحقة وبتقاليد محافظة، وهو ما أجبر عشرات الآلاف منهم الى الهجرة خارج البلاد.
لا توجد ارقام دقيقة بشأن عدد أبناء الطائفة في العراق نتيجة غياب الإحصائيات الرسمية. لكن أعدادهم تقدر حاليا بما بين 15 إلى 20 ألف فرد، في حين كانت اعدادهم قبل 2003 تقدر بـ 75 إلى 100 ألف، بحسب ارقام رئاسة الطائفة.
وشهدت سنوات العنف والصراع الطائفي في العراق بعد 2004 تناقصا سريعا في أعداد الصائبة نتيجة الهجرة المستمرة إلى جميع بلدان العالم وبالأخص استراليا والسويد حيث يتركزون فيها.
ونتيجة هذا التناقص خٌصص للصابئة المندائيين مقعد واحد في البرلمان العراقي بنظام “الكوتا” تنافس عليه ثمانية مرشحين في انتخابات عام 2021.
الحل في التوعية
لمواجهة العديد من الأفكار والادعاءات والصور النمطية الخاطئة عن الصائبة، تقترح الناشطة ذياب “توعية المجتمع وتزويده بالمعلومات الصحيحة” عبر المناهج الدراسية وعبر وسائل الإعلام، الى جانب تشريع قوانين صارمة لنبذ التمييز، مبينة ان ذلك وحده يمكن ان يساهم في “حفظ المكونات العراقية المختلفة وعدم خسارتهم كونهم من سكان البلد الأصليين”.
وتتفق ابتهال ناجي مع ما طرحته ذياب؛ مضيفة ان الإعلام له دور كبير في توعية الناس، الصور النمطية بدأت بالتناقص بعد ازدياد الوعي لدى المجتمع.
في حين يدعو الأكاديمي سعد إبراهيم الجوراني الى إطلاق حملة وطنية شعبية إعلامية واسعة للتعريف بكافة المكونات العراقية، ووقف تداول الصور النمطية التي تحمل الكثير من الأخطاء والمعلومات المضللة والقصص المشوهة اتجاه الأديان والمعتقدات داخل فسيفساء المجتمع العراقي.
للصابئة تجليات وابداع في العلوم والأدب عبر تاريخ العراق، الفلكي ثابت بن قرة المتوفى عام 901م وأبو إسحاق الصابئي المتوفي عام 994م الذي شغل منصب الوزير لدى الخليفتان العباسيان “المطيع لله” و”الطائع بالله”.
وفي العصر الحديث، برز الفيزيائي عبد الجبار عبد الله أول رئيس لجامعة بغداد عام 1959 واحد تلاميذ العالم ألبرت أينشتاين، كما برز في الشعر عبد الرزاق عبد الواحد وبنت خاله الشاعرة المعروفة لميعة عباس عمارة.
تنويه: معد التقرير يحتفظ بالعديد من روابط الصفحات المسيئة للصابئة المندائيين، والتي تنتشر بالعشرات على صفحات التواصل الاجتماعي. ووجدنا ضرورة حذفها وعدم ايرادها “كأمثلة على الاساءات” حفاظا على القيم المجتمعية والدينية.