في الوقت الذي يستمر فيه قصف المخلفات البلاستيكية على المدينة ، يأمل عدد من شبان وشابات حلبجة أن يسهم معمل لإعادة تدوير النفايات في مجابهة التلوث البيئي.
يتم يومياً تجميع أكثر من (150) طن من النفايات ودفنها تحت الأرض في محافظة حلبجة. بحسب جدول لبلدية حلبجة، في يوم 23 تشرين الأول 2022 فقط، جُمِع قرابة (153) طن من النفايات ضمن نطاق خمس بلديات تابعة للمحافظة، (13) طن منها كانت مخلفات بلاستيكية، وبلغت كمية النفايات البلاستيكية داخل مدينة حلبجة أكثر من سبعة أطنان ونصف.
أغلب هذه النفايات التي تدفن في باطن الأرض تترك آثاراً تستمر لعدة عقود، معظم نفايات حلبجة ترمى في واد يبعد بضعة كيلومترات عن المدينة، بالقرب من قرية جميلة تدعى تبة كورة.
شنيار يادكار مولود، مهندسة كهرباء تشرف على مركز (شريد اب حلبجة ShredUp Halabja) تقول أن المبادرة تتمثل في هدفين رئيسيين، الأول نشر التوعية البيئية حول أضرار المواد البلاستيكية وتشجيع الناس على عدم استخدامها، وفي حال استخدموها يتوجب إرسالها لإعادة تدويرها. الهدف الثاني هو تنظيف بيئة حلبجة من المخلفات البلاستيكية.
تتجه حلبجة لأن تصبح أحدث محافظة عراقية. هذا العام (2023)، بالتزامن مع استذكار فاجعة القصف الكيمياوي التي ارتكبها النظام العراقي السابق في 16 آذار 1988 وأودت بحياة خمسة آلاف شخص، فضلاً عن إصابة 10 آلاف آخرين، صادق مجلس الوزراء العراقي على مشروع قانون استحداث محافظة حلبجة وأرسلته الى مجلس النواب لكي تصبح حلبجة المحافظة العراقية التاسعة عشرة.
قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية تسبب بكارثة انسانية وبيئية لا تزال آثارها بادية. عماد فيروز، مدير مستشفى علاج مصابي القصف الكيمياوي بحلبجة قال أن "من مجموع (2300) مصاب بالسلاح الكيمياوي يراجعون المستشفى باستمرار لتلقي العلاج، (2000) منهم من أهالي مركز محافظة حلبجة".
عدد سكان مركز محافظة حلبجة يبلغ 68 ألف و958 شخص، حسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط العراقية لعام 2019، لكن حسب مكتب حلبجة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات والاستفتاء في الإقليم، عدد سكان مركز المحافظة 80 ألف و940 شخص يشكلون 17 ألف و221 عائلة.
شنيار لم تكن مولودة أثناء حادثة القصف الكيمياوي، لكن وكما تقول، تولدت لديها ذكريات كثيرة عن طريق والديها حول تلك الكارثة البيئية وكذلك الخسائر البشرية. "نعم، نعم! يروون لي أن معظم الحيوانات التي كانت موجودة، البرية منها والداجنة قضي عليها، رأوا بأعينهم جثث الحيوانات المنتشرة على الأرض، أغلب نباتات وأشجار المدينة جفت ومحيت من الوجود".
بداية معتمة، طريق جليّ
بداية يوم جديد في أواخر آذار، ارتدت شنيار زيها وهي مستعدة لتروي قصة المشروع الذي تعمل فيه بشغف. العديد من العمال يملؤون المعمل بطاقة ايجابية، ستة عمال يعملون يومياً في هذا المركز الذي تبلغ مساحته (250) متر مربع فقط.
مبادرة إنشاء معمل إعادة تدوير (شريد اب) في حلبجة مر بمرحلتين، الأولى التوعية البيئية، بدءاً بنشر التوعية في المدارس وتوزيع سلال خاصة لجمع المخلفات البلاستيكية. في كل مدرسة، جرى تقسيم الطلاب الى عدة مجاميع ونظمت لهم ندوات.
الخطوة الثانية، تأسيس وتشغيل أجهزة ومعدات المعمل الذي كلف ما يقرب من (10) آلاف دولار أمريكي. تقول شنيار، "معظم الأجهزة" مصنوعة محلياً. الهدف من صنع المعدات في الداخل هو للتمكن من مساعدة وإرشاد أي شخص آخر يرغب في إنشاء مشروع مماثل.
افتتح مشروع مركز إعادة التدوير في حلبجة في آذار 2022، بشراكة كل من منظمة وادي، وهي منظمة ألمانية غير ربحية، منظمة (نوي) في حلبجة ومنظمة (Shred Up). مشروع إعادة تدوير حلبجة من المشاريع التي تمولها منظمة وادي.
باخان جمال، المشرفة على مشاريع منظمة وادي، قالت أن مشروع حلبجة كان عبارة عن تجربة لمعرفة مدى قابلية تنفيذ هذا النوع من المشاريع على نطاق محلي. وأضافت، "بعد نجاح التجربة، ارتأينا نقل المشروع الى أماكن أخرى تعرضت لضرار بيئية كبيرة، مثل كفري، ومخيم كبرتوو بدهوك".
بعد نجاح التجربة، ارتأينا نقل المشروع الى أماكن أخرى تعرضت لضرار بيئية كبيرة، مثل كفري، ومخيم كبرتوو بدهوك
يتم تجميع النفايات البلاستيكية من المدارس، المنازل والأماكن الأخرى وتُنقل الى المعمل. رغم الفوائد العديدة للبلاستيك، لكن الناس اعتادوا على استخدام ذلك النوع الذي يستخدم مرة واحدة ويرمى، ما ينتج عنه مشاكل بيئية، صحية، اقتصادية واجتماعية.
سنوياً، يُنتج ما يقرب من (400) مليون طن من النفايات البلاستيكية في العالم. وفقاً لإحصائيات البرنامج البيئي لمنظمة الأمم المتحدة (UNEP)، في كل دقيقة يتم شراء مليون عبوة بلاستيكية، في حين يستخدم سنوياً حوالي خمسة ترليون كيس نايلون على نطاق العالم. إجمالاً، نصف البلاستيك المنتج مصمم لاستخدامه مرة واحدة –تستخدم مرة واحدة ثم ترمى-.
سرور قرداغي، مدير منظمة طبيعة كوردستان، وهي إحدى منظمات المجتمع المدني، قال "السبل القانونية تضمن تقييد استخدام البلاستيك". في شهر نيسان 2021، قدمت المنظمة مقترحاً لبرلمان كوردستان ينص على وضع قيود على استيراد وانتاج المواد البلاستيكية وتم حشد الأصوات للمقترح. من جانبه أرسل البرلمان المقترح الى حكومة اقليم كوردستان لاتخاذ موقف بشأنه، لكن "الأمور توقفت هناك".
المادة الثالثة من المقترح تدعو الى زيادة الضرائب على استيراد المواد البلاستيكية بنسبة 100 بالمائة و المنتجات المحلية منها بنسبة 75 بالمائة. كما تتحدث المادة الرابعة عن حظر استخدام المواد البلاستيكية.
توجد سبعة أنواع من البلاستيك، يستلم المعمل جميعها، بعضها غير صالحة لإعادة الاستخدام بسبب انبعاث غازات مضرة منها أثناء غليها أو تسخينها. النوع الأول يُكبس وينقل الى معامل كبيرة بالسليمانية، النوع الثاني (HDPE) والنوع الخامس (PP) يعاد استخدامهما.
ميلاد محمد محمود، طالب في إعدادية الصناعة ويعمل في المشروع. مهمة ميلاد نقل النفايات البلاستيكية من الكافيتريات، المدارس والأماكن العامة الى مركز إعادة التدوير.
يقول ميلاد بأنه ينقل كل يوم أحد النفايات البلاستيكية من المدارس الى المعمل، فيما يجمع المخلفات البلاستيكية من المقاهي، الكافيتريات والأماكن العامة الأخرى كل يوم اثنين.
فيديو: شنيار يادكار تتحدث عن أنواع البلاستيك التي يعاد تدويرها في المعمل / سلام عمر
منتجات المعمل التي تصنع من النفايات البلاستيكية عبارة عن مقاعد، مناضد، انجانات زهور، سلال وغيرها. "هذه المنتجات يتم غليها تحت درجات حرارة عالية لذا لن تكون لها أضرار صحية أثناء إعادة استخدامها".
بحسب شنيار، لقي المعمل في البداية استقبالاً كبيراً، لكن الاستقبال هذا العام "كان أكبر بكثير".
في النهاية، رأي التدريسيون والطلاب منتجات المعمل، لذا كانوا أكثر حرصاً على تقديم الدعم. وتأمل شنيار أن تشهد حلبجة افتتاح معملين مماثلين أو ثلاثة في المستقبل.
سيلفي الافتخار
مركز حلبجة لإعادة التدوير ترك تأثيره على عدة نطاقات. في غضون سنة واحدة من عمر المشروع، استفادت 50 مدرسة من حملة التوعية المصاحبة للمشروع. يوجد (141) مركز تعليمي في حلبجة، من ضمنها رياض الأطفال، المدارس الأساسية والمدارس الاعدادية.
تقول شنيار، "أهم شيء في المشروع هو جانبه التربوي، حيث يتعلم الطفل الصغير ما هي إعادة الاستخدام ويرى العملية بعينيه. شخصياً حين كنت طالبة، كنت سأرغب في الدراسة والعمل بهذا المجال أن كنت قد شهدت هذا المشروع".
هوار مصطفى حمه علي، مديرة مدرسة الشهيد آزاد هورامي الأساسية قالت أن رؤيا مدرستنا تتوافق مع هدف مركز إعادة التدوير، لذا فهو "ذو تأثير".
حول التغير الحاصل في سلوك الطلاب بشأن النفايات البلاستيكية قالت، "دون شك، كان له تأثير كبير، خصوصاً حين رأوا منتجات مركز إعادة التدوير التي أرسلوها لنا".
هوار مصطفى تدير مدرسة عدد طلابها (367) طالب وطالبة، جميعهم اطلعوا على الحملة. وتطرقت هوار الى ضرورة إدراج موضوع البيئة ضمن رؤى وأهداف المدارس، "يجب أن يُحوّل الى عمل جماعي".
الجانب الآخر من المشروع هو الجانب البيئي لأنه يمنع تلويث بيئة حلبجة بكل تلك المخلفات البلاستيكية. شرام جميل لطيف، صاحب كافيتريا نصبت فيه سلة لجمع النفايات البلاستيكية، يقول "السلة تمتلئ سريعاً، أجمع في الأسبوع حوالي (600) عبوة ماء قبل أن ينقلها منتسب المعمل، بعد هذه الخطوة قلت نفاياتنا بشكل ملحوظ".
السلة تمتلئ سريعاً، أجمع في الأسبوع حوالي (600) عبوة ماء قبل أن ينقلها منتسب المعمل، بعد هذه الخطوة قلت نفاياتنا بشكل ملحوظ
من الفوائد الأخرى للمشروع، إنشاء منصة تواصل بين المدارس، الأماكن العامة والمطاعم، "هناك القليل من الجهات، بضمنها الحكومة، قادرة على ربط تلك الأماكن ببعضها. نطمح لأن نكون حلقة وصل بين تلك الجهات"، بحسب شنيار. "في البداية، حين بدأنا العمل لم يكن الطريق واضحاً، لم تكن لدينا رؤيا واضحة، كان لدينا أجهزة ومعدات فقط. حين صنعنا القطعة الأولى من منتجنا الأول مسكتها بيدي والتقطت صورة سيلفي معها ونشرتها في السوشيال ميديا، افتخرت بها كثيراً".
بمنظور باخان جمال، "المشروع نجح الى حد كبير، للمرة الأولى لدينا مثال ناجح على نظام جمع البلاستيك في حلبجة، للمرة الأولى نملك منتجات محلية من البلاستيك المستخدم".
"متعاونون وغير متعاونين أيضاً"
العمل في المشروع ليس سهلاً ايضاً. على مدار سنة من عمر المبادرة، اعترضت فريق عمل المركز عراقيل متنوعة، منها الجانب المادي، فالمعمل لم يصل بعد الى مستوى جمع الأرباح، المصاريف أكثر من مجموع الإيرادات.
تقول المشرفة على مشاريع منظمة وادي أن أحد العوائق يتمثل في العثور على زبائن، بأسعار جيدة للمواد البلاستيكية التي يتم جمعها ولا يعاد استخدامها، ... الخطوة المقبلة هي أن نتمكن من إدارة المركز دون مساعدات والاعتماد على ايراداته المالية فقط".
رغم أن القائمين على المشروع يتحدثون عن دعم البلدية والتربية، لكنهم يقولون أن الحكومة يجب أن تكون حريصة أكثر على إنجاح مثل هذه مشاريع. تقول شنيار، "لا أستطيع أن اقول أنهم غير متعاونين إطلاقاً، لكن لا يمكنني أيضاً القول بأنهم متعاونون، هم بين هذا وذاك. يقرون بوجودنا ويفرحون لذلك، لكن لا توجد مبادرات كبيرة من جانبهم".
في هذا الشأن يقول مدير دائرة بيئة حلبجة، سرهنك عبدالرحمن، "يعجبنا المشروع كثيراً واستقبلنا فريق العمل وقدمنا لهم التسهيلات. سيكون للمشروع تأثير أكبر في حال تم توسيعه".
وتابع قائلاً، "أقترح أن نفاتح الشركة المسؤولة عن جمع النفايات في حلبجة لكي يجمع ويفرز عمالها النفايات البلاستيكية دون خلطها بالنفايات الأخرى".
البعد الآخر يتمثل في ضرورة إدراج موضوع البيئة في المناهج المدرسية، يتوجب على التدريسيين أن يشرحوا مواضيع البيئة للطلبة ويذكروهم باستمرار، وتقول شنيار، "لا يمكننا زيارة المدارس كل ثلاثة اشهر وتذكيرهم. لكن إذا كانت مواضيع بيئية، يمكننا تسهيل المهمة بمساعدة مدرسي البيئة".
بعد عام، بدأ المعمل ببيع منتجاته ومعظم الزبائن من الشبان وطلبة الجامعات.
سبب نجاح المشروع يعود الى تهيئة بيئة حرة للإبداع. تقول شنيار، "نحن أحرار في التعبير عن أنفسنا والإبداع، في أي مكان، ستطرأ أشياء جميلة إذا فسح المجال للأشخاص الراغبين بالعمل لكي يسخروا امكانياتهم".
"أحياناً قد تكون مشاريع صغيرة لكنها تصنع تأثيراً كبيراً"، بهذه الكلمات اختتمت شنيار حديثها قبل أن تنهي سرد قصتها وتتجه لأداء مهمتها المقبلة في ذلك اليوم خارج المعمل.