المقدمة
في عالم تتنافس فيه الدول على بناء صورتها الذهنية قبل جدرانها المادية، لم يعد الجمال ترفاً أو كماليات ثانوية، بل أصبح مؤشراً على مستوى السيادة الثقافية والتحضر.
الدول التي تستثمر في الهوية البصرية عبر الفنون والعمران الجميل لا تزين نفسها فحسب، بل تصنع قوة ناعمة قد تمد إلى وجدان الشعوب الأخرى.
العراق ورغم امتلاكه لإرث جمالي حضاري عظيم كان يمثل أحد أقدم مظاهر الجمال الذي لم يكن قيمة حسية فحسب بل، يحمل دلالات رمزية وروحية عميقة ارتبطت بالخصب والحياة والتناغم الكوني، إلا ان الواقع المعاصر يكشف عن انقطاع مؤلم بين المدينة والجمال، بين الفن والسياسة، بين الذوق العام وصورة الدولة.
أولا: مشهد انتخابي صوري
في موسم الانتخابات الأخيرة، وجدت نفسي أسير في شوارع غارقة بالصور والملصقات، على كل جدار، وكل زاوية، وكل عمود إنارة، وحتى الأشجار على قلتها! تحولت إلى لوحات مزدحمة بوجوه المرشحين وشعاراتهم المختلفة، متراصة بلا ترتيب أو ذوق. وكأنه يقول الفوضى هنا! نحن الفوضى البصرية!
فمشهد الشوارع كان يزاحم البصر ويرهق الوعي أكثر ما يحفز على المشاركة الانتخابية أو التفكير بالبرامج الحزبية.
تساءلت حينها، كيف يمكن لدولة اختبرت أكثر من ثمان عمليات انتخابية ما بين مجالس النواب ومجالس المحافظات لاتزال غير قادرة عن تنظيم مظهر حملاتها الانتخابية بما يمكن أن يقنع مواطنيها بانها تملك رؤية متناسقة للمستقبل؟ أدركت أن هذه الفوضى ليست مجرد ازدحام دعائي، بل دليل على غياب الحس الجمالي بوصفه انعكاسا للوعي الجمعي.
فحين تتحول المدينة إلى جدار للإعلانات بفقد المكان روحه، ويفقد الناس إحساسهم بانتمائهم إليه.
ثانيا: الجمال كقوة ناعمة
في الفكر السياسي المعاصر، تعد القوة الناعمة واحدة من أدوات النفوذ غير المباشر التي تحدث تأثيرا عبر الرمز والثقافة والذوق.
يرى المفكر الأمريكي (جوزيف ناي Joseph Nye) أن الدول لا تفرض نفسها بالقوة بل بجاذبيتها وقدرتها على الالهام (جوزيف ناي، القوة الناعمة، ت محمد البجيرمي، العبيكان، ٢٠١٥، ص١٢). فدولة مثل الامارات تمثل نموذجا واضحا لدولة جعلت من الجمال خطابا وطنيا، الجمال ليس زينة للدولة بل لغة سياسية تعبر عن وعي الدولة بذاتها، لأن الفضاء الجميل هو مرآة النظام الداخلي والفكر والمنظم.
ثالثا: غياب الدولة الجمالية
يبدو أن وطننا العزيز يعيش في ازمة جمالية حقيقة، فالجمال لا يحتاج إلى الكثير من المال، بقدر احتياجه لتنظيم الأشياء بما يظهرها بالشكل الأمثل، الفوضى العمرانية، الإعلانات العشوائية، تراكز القبح البصري لم تعد تفاصيل عابرة، بل صورة مصغرة لاضطراب العلاقة بين الدولة والانسان.
المدينة بلا رؤية فنية تصبح مرهقة، والمواطن الذي لا يجد جمالاً في بيئته يفقد تدريجيا الإحساس بالفخر والانتماء.
بلاد الرافدين بلاد الحضارة والفن والموسيقى لاتزال تفتقر إلى مشروع جمالي يعد للعراقيين ثقتهم بمكانهم وهويتهم البصرية.
رابعأ: أثر غياب الجمال على صورة الدولة والمجتمع
غياب الجمال لا يضعف المشهد البصري فحسب، بل يشوه المزاج العام.
حين تغيب الصورة الجمالية للمدينة يبهت الحس المدني، وتتحول الفوضى في الشوارع إلى فوضى في الوعي.
إن الجمال في جوهره، نظام أخلاقي قبل أن يكون شكلا بصريا لأنه يعلم الإنسان احترام المكان، والنظام والذوق، والنظافة، والتناسق. وفي هذا الصدد يعتبر المفكر العربي (مالك بن نبي) الجمال بانه أحد مقومات الثقافة، لا بل أن "الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة فينبغي ان نلاحظه في أنفسنا شوارعنا بيوتنا مقاهينا الجمال هو وجه الوطن"(مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر ١٩٨٤، ص٨٥)، وبذلك يصبح الجمال مؤسسة تربوية غير معلنة، تصنع الوعي الجمعي وتنعكس على السياسة ذاتها.
وأخيرا، حين أنظر اليوم إلى شوارع مدينتي، أشعر أن ما نحتاجه ليس إصلاحا سياسيا فقط، بل عودة للجمال كقيمة أخلاقية ووطنية، فالقبح ليس قدرا، بل نتيجة لغياب الوعي بالجمال بوصفه شكل من أشكال النظام، ووسيلة من وسائل القوة الناعمة.
مالم نستعيد هذا الوعي، يبقى المشهد العام، من الحملات الانتخابية إلى تفاصيل الشوارع، يعكس فوضى فكرية قبل أن يعكس فوضى بصرية.
الجمال هو السياسة بصورتها الأرقى.
حين تصبح المدينة جميلة، يصبح الإنسان أكثر ميلاً للإيمان بها.