"هناك قاعدة عامة تقول اذا لم يتم العثور على المجرم، فان السلطة ضالعة في الجريمة"، هذا ما قاله الصحفي آسوس هردي، مجيباً على أسباب عدم حسم قضايا القتل، الاعتداء وانتهاك حقوق الصحفيين في اقليم كوردستان وافلات المجرمين من العقاب.
آسوس هردي هو نفسه كان أحد ضحايا تلك الانتهاكات، حينما تعرض قبل تسعة اعوام للاعتداء بالضرب قرب مكتبه من قبل عدد من المسلحين. يقول آسوس بأن نفس القاعدة تنطبق على قضايا كل من الصحفيين سردشت عثمان، سوران مامه حمه، كاوه كرمياني وعشرات القضايا الأخرى، وتتمثل في أن الفاعل اما يبقى مجهولاً، أو معروفاً ولكنه غير مستعد للمثول أمام المحكمة.
بصورة عامة، تكمن الخطورة في أن الافلات من العقاب يحفز على ارتكاب انتهاكات أكثر بحق الصحفيين، ويمثل ذلك دليلا على ضعف القانون والنظام القضائي.
قبل عشر سنوات، عُثِرَ على جثة الصحفي سردشت عثمان مقتولا في أحد احياء الموصل، وذلك بعد 24 ساعة من اختطافه من أمام مبنى كلية الآداب في جامعة صلاح الدين بمدينة أربيل حيث كان أحد طلاب المرحلة الرابعة في تلك الكلية.
جثة سردشت وُجِدَت مرمية على قارعة احدى شوارع الموصل وعليها آثار تعذيب ورصاصتين في الرأس، الحادثة اثارت موجة من الاحتجاجات وتنديداً واسعا من قبل الفئات المختلفة في اقليم كوردستان.
احدى المقالات الأخيرة التي كتبها سردشت عثمان كانت بعنوان "أنا أعشق ابنة البارزاني"، تناول فيها المحسوبية والفساد واتساع فجوة التفاوت الطبقي. وتحدث سردشت في مقالته بسخرية عن الرفاهية التي سينعم بها اذا ما أصبح صهر رئيس الاقليم وانه لن يضطر حينها للعيش في أحد الأحياء الفقيرة.
وفي مقالة أخرى تحت عنوان "دُقَّت أولى نواقيس اغتيالي" كشف سردشت عن تعرضه لتهديدات عن طريق الرسائل والمكالمات الهاتفية، منتقداً مدير شرطة أربيل واتهمه بعدم الاستجابة لنداءاته.
بعد الحادثة، نشرت الأجهزة الأمنية في أربيل "اعترافات" لعدة أشخاص تم التأكيد فيها على أن "جماعة ارهابية تواصلت مع سردشت عثمان وطلبوا منه العمل معهم، لكنهم لجئوا لقتله بعد أن رفض طلبهم."
واعتبر ذوو الشهيد سردشت والمنظمات والنشطاء القضية كأحدى السيناريوهات المفبركة من قبل السلطات بهدف التستر على المتورطين الفعليين في القضية. مع ذلك، أصدرت محكمة اربيل، بناءاً على تلك "الاعترافات" أحكام بالإعدام لأولئك الأشخاص واغلقت القضية، علماً أنه لم يتضح لليوم فيما ان كانت أحكام الاعدام تلك قد نُفِّذَت أم لا.
وكانت منظمة سردشت عثمان قد اعلنت في وقتها بياناً قالت فيه "هذه السيناريوهات والمهازل ما هي الا محاولات لإخفاء وافلات المجرمين من العقاب والالتفاف على قضية سردشت عثمان... تشكيل لجنة التحقيق في القضية هو لإخفاء الجريمة والالتفاف على الحقائق."
متحدثاً لـ(كركوك ناو) في الذكرى العاشرة لاغتيال شقيقه، قال بشدار عثمان "نحن واثقون من أن القتلة الحقيقيين أشخاص في قمة هرم السلطة، ولهذا فان السلطة القضائية لا تستطيع مُسائلتهم وانزال العقاب بهم."
السبب الحقيقي وراء افلات قتلة الصحفيين والمعتدين من القانون هو أن تلك الجرائم يرتكبها أناس ذو نفوذ وهم فوق كل تلك المؤسسات
"السبب الحقيقي وراء افلات قتلة الصحفيين والمعتدين من القانون هو أن تلك الجرائم يرتكبها أناس ذو نفوذ وهم فوق كل تلك المؤسسات" حسبما يقول بشدار عثمان.
وفقاً لإحصائية لمنظمة اليونسكو، فقد قُتِل خلال الأعوام (2006 – 2017)، ما يقارب 1010 صحفي وهم يؤدون عملهم بنقل الاخبار والمعلومات الى الناس. ويشكل هذا الرقم ما يوازي معدّل وفاة صحفي كل 4 أيام، وفي 9 حالات من أصل 10 يبقى الفاعل بلا عقاب.
في اقليم كوردستان، سُجِّلَت 419 انتهاكاً بحق الصحفيين خلال الأعوام (2015- 2020)، من بينها حالات قتل، تعذيب واعتقال. ويشير تقرير نقابة الصحفيين الى أن معظم مرتكبي تلك الانتهاكات قد افلتوا من العقاب.
وفي هذا الشأن يقول بشدار عثمان "حينما يتعذر ايجاد مرتكبي الجريمة، فان اصابع الاتهام سوف توَجَّه الى السلطات."
على سبيل المثال، طالب ذوو سردشت عثمان بأن تضم لجنة التحقيق التي شكلتها حكومة الاقليم أحد أعضاء عائلة سردشت أو أحد ممثلي المنظمات الدولية، الا أن طلبهم قوبل بالرفض.
"كان ذلك طلبنا الوحيد، عندما رُفِضَ الطلب وراينا بأن هناك محاولات داخل المحكمة لإبعاد القضية عن مسارها، قررنا مغادرة قاعة المحكمة، لأننا كنا نعلم بأن النتيجة ستكون تلك التي تريدها السلطات"، يقول بشدار.
قضية الاعتداء بالضرب على الصحفي آسوس هردي، مدير شركة آوينه، هي احدى الانتهاكات البارزة الأخرى التي ارتكبت ضد الصحفيين.
وكان آسوس قد اصيب بجروح بالغة بعد أن تعرض للاعتداء بالقرب من مكتبه في السليمانية في 29 آب، 2011. قضية الصحفي آسوس امتدت لتسع سنوات دون أن تُحسَم.
المتهمون في قضية آسوس هردي منتسبون في وزارة البيشمركة ضمن قوات 70 التابعة للاتحاد الوطني الكوردستاني، ولم يمثلوا أمام المحكمة لحد اللحظة.
من جانبه يؤكد آسوس هردي ومحاميه على أن "بعض الانتهاكات أُرتُكِبت من قبل القوات الأمنية، متى ما ارادت المحكمة استدعاء أحد أفراد القوات الأمنية يجب أن تحصل على موافقة وزارة الداخلية والمرجع الذي تنتمي اليه تلك القوة الأمنية، مما يشكل عائقاً كبيراً أمام معاقبة المجرمين."
ويؤكد آسوس بأنهم أرسلوا اخطارات من المحكمة الى قوات 70 عشرات المرات دون أن يحصلوا على رد.
مصطفى جاورش، مسؤول قوات 70 قال لـ(كركوك ناو) "تأريخ الحادثة يعود الى العام 2011 وليست لها علاقة بي، لأنني تسلمت هذا المنصب منذ شهرين فقط، لست على اطلاع بالقضية ولا أعلم لماذا لم تُلبّى طلبات المحكمة."
بخصوص ما ان كان على استعداد لمعاونة المحكمة في حال طلبت تسليم المتهمين قال "سألبي أي طلب من المحكمة وسأتعاون معها."
لا تزال عشرات قضايا القتل، الاعتداء واهانة الصحفيين غير محسومة في محاكم اقليم كوردستان ومرتكبوها اما مجهولون أولم يتم اعتقالهم، من ضمنها قضية مقتل كل من سوران مامه حمه، كاوه كرمياني، وداد حسين وعشرات الانتهاكات الأخرى.
"ستمثل هذه القضايا نقاط تساؤل حول السلطات، لأن باستطاعتها الكشف عن أكبر قضايا الارهاب ومعاقبة مرتكبيها، فلماذا لا تقدر أن تكشف منتهكي حقوق الصحفيين، لذا من البديهي أن توجه اصابع الاتهام نحو السلطات" كما قال آسوس هردي.
الذين يرتكبون الانتهاكات ينتمون الى حزب أو عشيرة وهم اصحاب نفوذ لذا لا تستطيع المحاكم مقاضاتهم
د. كارزان محمد، المختص في قواني العمل الصحفي وأستاذ في قسم الاعلام بجامعة السليمانية يؤكد بأنه بموجب القانون، أي اعتداء على الصحفيين هو اعتداء على موظفي الدولة ولكن "في بعض الأحيان تُنتهك حقوق الصحفيين ولا تتم مساءلة المتورطين، ويرجع هذا الأمر الى ان الذين يرتكبون تلك الانتهاكات ينتمون الى حزب أو عشيرة وهم اصحاب نفوذ لذا لا تستطيع المحاكم مقاضاتهم."
من جهة اخرى، تعتبر نقابات الدفاع عن حقوق الصحفيين في اقليم كوردستان تفاقم الصراعات السياسية سبباً لحدوث الانتهاكات وافلات المتهمين من العقاب. مثال ذلك، انسحاب ممثل نقابة الصحفيين من لجنة التحقيق في مقتل الصحفي كاوه كرمياني.
حول هذا الأمر قال آزاد حمه أمين، نقيب الصحفيين في اقليم كوردستان لـ(كركوك ناو) "الانسحاب كان افضل لأن أعمال لجنة التحقيق المُشَكَّلة من قبل مجلس الوزراء قد حُيَِدَت عن مسارها."
كاوة كرمياني، صحفي ورئيس تحرير مجلة (رايل) في قضاء كلار التابع لمحافظة السليمانية، أُغتيل في 5 كانون الأول 2013، بعدما أطلق عليه مسلحون النار داخل منزل والدته في كلار.
بالرغم من أن المحكمة أصدرت حكم الاعدام على شخص أُعتُبِرَ متهماً رئيسياً في القضية، الا أن ذوي كاوه كرمياني يصرون على ضرورة الكشف عن الرأس المدبر للجريمة، ويعتقدون بأن مسؤولا حزبيا وامنيا كبيرا يقف وراء اغتيال كرمياني."
وألمح نقيب الصحفيين في اقليم كوردستان الى أن "القضايا السياسية أثرت على مجرى التحقيقات في اغلب الأحيان، بصور عامة تبقى ملفات الصحفيين في مرحلة التحقيقات ولا تصل المحكمة الى قرار نهائي بشأنها."
احدى المخاطر الكبيرة المترتبة عن افلات المجرمين من العقاب، كما يقول بشدار، شقيق سردشت عثمان، تمثل في "تشجيع أناس آخرين على تكرار تلك الجرائم."
وأضاف بشدار "اذا كان قتلة سوران مامه حمه قد نالوا عقابهم، لم يكن سردشت عثمان ليتعرض للاغتيال، واذ ما كان قتلته قد عوقبوا فلن يصبح كاوه كرمياني ووداد حسين ضحايا آخرين، لذا فان مخاطر اغتيال الصحفيين تبقى احتمالية مفتوحة."
وتعتقد منظمة اليونسكو بأن الافلات من العقاب يؤدي الى مزيد من جرائم القتل كما أنه دليل على تفاقم الصراع وعلى تداعي القانون والانظمة القضائية. لذا تخشى اليونسكو أن يؤدي الافلات من العقاب الى زعزعة مجتمعات بكاملها من جرّاء اخفاء انتهاكات خطرة لحقوق الانسان والفساد والجرائم.