أحلام تجاوزت الكوابيس..
مجتمع تلعفر.. بعدما أدار ظهره يعانق الناجيات من جديد

جعفر التلعفري– نينوى

 

أحلام كانت تحلم بالعودة لأهلها وممارسة حياتها الطبيعية في تلعفر بعد أن اختطفها تنظيم الدولة "داعش"، وأخيرا وعندما اقترب تحقيق الحلم بعد تحررها، ظهرت كوابيس عدم استقبالها من قبل أهلها والمجتمع، تشغل بالها.

الناجية التركمانية، أحلام حسن (19 عاما)، تقول أنها كانت تخشى أن لا يستقبلها أهلها حين تعود إلى تلعفر، كانت تسمع كلاماً كثيراً بهذا الخصوص وهي في دار الأيتام في الموصل، عن قتل وامتناع الأهالي لمن تعود من الناجيات إلى عوائلهن.

ناجية أخرى، هي زينب زين العابدين ذات الـ15 ربيعا، تجلس في زاوية الغرفة، والتفكير يأخذ مساحة كبيرة من وقتها، تفكر في شقيقتها التي انقطعت أخبارها منذ خمس سنوات.

زينب، هي الأخرى كانت مختطفة، وعادت مع استعادة مدينة الموصل في أب 2017، كما عاد ثلاثة من أشقائها في أذار 2019، إلى كنف عائلتهم في تلعفر، فيما زال أربعة منهم في عداد المفقودين.

وفقد 1300 مواطناً تركمانياً، بينهم 470 امرأة وفتاة ونحو 130 طفلاً من كلا الجنسين، خلال سيطرة تنظيم داعش على محافظة نينوى، وفُقد أغلبهم في النصف الثاني من عام 2014، في تلعفر وسنجار، إلى جانب آخرين فقدوا خلال السنوات من 2014-2017.

ولاعتبارات اجتماعية أبقت العشائر ملف المختطفات طي الكتمان، وامتنعت حتى عن تقديم أسماء المختطفات، الأمر الذي جعل قاعدة البيانات التي سعى الناشطون والمنظمات المحلية إلى تنظيمها غير مكتملة.ما جعل هذا الملف غامضا ومهملاً لدى الحكومة العراقية والمنظمات الدولية مقارنةً بالناجيات الايزيديات، حسب ما يرى عامر المولى، نائب رئيس مؤسسة إنقاذ التركمان.

turkman-4
كركوك، 17 أب 2019، اجتماع مسؤولين تركمان مع عدد من الناجيات التركمانيات من قبضة داعش تصوير: اعلام راشد الصالحي: رئيس الجبهة التركمانية

 

نظرة غير منصفة للمجتمع

تذكر الناجية أحلام لـ(كركوك ناو) لقد "كنتُ مترددة حقيقةً هل ارجع إلى عائلتي (في تلعفر) أم أبقى في كنف التنظيم الإرهابي أم ارتبط بإرهابي أجنبي وأغادر لخارج العراق".

كنتُ مترددة حقيقةً هل ارجع إلى عائلتي (في تلعفر) أم أبقى

كان مجرد الحديث عن هذا الملف، أمراً يثير الآخرين ويجعلك مذموماً ومتهماً بالخوض في قضايا لا يليق الحديث عنها، أما اليوم فالأمر اختلف كثيراً.هكذا يصف محمد قاسم، أحد ناشطي تلعفر واقع مدينته بشأن المختطفات على يد تنظيم داعش.

ويبعد قضاء تلعفر نحو 70 كم غرب مدينة الموصل، ويسكنها خليط سكاني من التركمان الشيعة والسنة، وتمكنت القوات العراقية من استعادة القضاء في أب 2017. بعد أن بسط تنظيم داعش سيطرته عليه في صيف عام 2014 بعد أيام من سقوط الموصل.

لم تكن أحلام مترددة فقط

حين سقطت تلعفر في حزيران 2014، لم يتمكن بعض أفراد عائلة عباس ولي، والد إحدى الناجيات التركمانيات من داعش، من مغادرة المدينة كما الآخرين، مما تسبب تأخرهم في وقوعهم بأيدي عناصر داعش، وانقطعت أخبارهم.

ويقول ولي "لم يكن بالإمكان الإفصاح عن هذا الخبر حينه، وكنتُ أتواصل مع بعض الأخوة الايزيدية واستفسر عن عائلتي منهم، لعلّ تراودت أنباء إليهم من الناجيات الايزيديات عن عائلتي".

"كانت نظرة المجتمع في تلعفر لهذه القضية غير منصفة حتى اعتبرها البعض وصمة عار، رغم أن الأمر كان خارج إرادة المختطفات" حسب وصف ولي.

واسترسل قائلاً "نتيجة لتوعية بعض رجال الدين وتناقلهم لتوصيات المرجعية الدينية بهذا الخصوص، وإثارة بعض الإعلاميين والناشطين الذين كان لهم ثقلهم في المجتمع، وإن كانوا على عدد أصابع اليد الواحدة، بدأت النظرة تختلف، وحين عادت بعض الناجيات التركمانيات كان تقبّل الآخرين إيجابياً للأمر".

 تركمانيات في لقاء مع وكيل المرجع الاعلى
كربلاء، 14 تموز 2019، ناجيات تركمانيات في لقاء مع وكيل المرجع الاعلى، تصوير الحضرة الحسينية

الاعتراف فضيلة

الاعتراف بوجود مختطفات التركمانية تأخرت للأواخر سنة 2019 بعد اربع سنوات من سيطرة داعش لتلعفر.

للمرة الأولى اعترف ساسة المكون التركماني أمام القنوات الإعلامية باختطاف نساء وفتيات تركمانيات من قبل داعش وتعرضهن للاغتصاب والاستبعاد الجنسي، في مؤتمر بكركوك في 17 أب 2019، متحججين أن "الأعراف والقيم العشائرية السائدة في المجتمع التركماني تحول دون الإفصاح عن أعدادهن وأسمائهن".

وقال وكيل المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، عبد المهدي الكربلائي خلال لقائه بعدد من الناجيات التركمانيات والشبكيات، في14 تموز 2019، "إننا على استعداد تام لاستقبالكم في مدينة كربلاء المقدسة وتوفير أفضل الخدمات لكم وتكفل علاج جميع من يحتاج إلى رعاية صحية في المستشفيات التابعة للعتبة الحسينية المقدسة، فضلا عن توفير أماكن سكن مناسبة لكم".

من جانبه قال رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، خلال لقائه بعدد من الناجيات التركمانيات والشبكيات، في 18 تموز 2019، إن "الشعب والمرجعية الدينية يفتخرون بصمودكم وتضحياتكم لأنكم رمز شرفنا ونصرنا ورمز لمعاناتنا، ونحن نفخر بكم وندرك حجم معاناتكم وكيف قاومتم الإرهاب ووجهتم له ضربة قوية، والآن علينا تعويض الأيام الصعبة والوقوف معا لنبني الحاضر والمستقبل".

وأشار رئيس لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، أرشد الصالحي، في 18 أب 2019، إلى أن "النساء التركمانيات اللواتي اختطفن ارتكب بحقهن أبشع الجرائم، لكن الطابع العشائري الذي يكتنف أهلنا جعلهم لا يتحدثون بشكل واسع إلى الإعلام". في حين أكد أرشد الصالحي، "وفقا للقانون علينا إعادة تأهيلهن وإعادة دمجهن داخل المجتمع".

0944167
نينوى 12 اذار 2019، تحرير أربعة أطفال تركمان من تلعفر كانوا مخطتفين لدى "داعش"
 تصوير: جعفر التلعفري

ضرورة تأهيل الناجيات

تحرر 46 فرداً من الناجيات، 23 فتاة، و23 طفلاً، وهم يعيشون في ظروف صعبة، ويحتاجون دعماً اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً وقانونياً، في ظل غياب دور الحكومة الاتحادية والمحلية، بل حتى المنظمات الدولية.

أقرّت الأمم المتحدة، لأول مرة، في بيانٍ للممثلة الخاصة لأمينها العام لشؤون العنف الجنسي ضد النساء زينب بانكورا، في 3 أب 2016، بـ"وجود مختطفات من التركمان الشيعة، تعرضنَّ للعنف الجنسي على يد تنظيم داعش".

وتذكر رئيسة منظمة حوار الثقافات، ابتسام الحيو، وهي ناشطة تركمانية، أن "بعض الناجيات تعرضن للعنف الجسدي والجنسي، على يد مسلحي التنظيم الإرهابي، ولا بدّ من مراكز خاصة لإعادة تأهيلهن ودمجهن بالمجتمع، الذي لم تكن نظرته إليهن كنظرة المجتمع الايزيدي، الذي استقبل بحفاوة واحتضن الناجيات وأكرمهن".

في البدء امتنعت جهات سياسية تركمانية ومنظمات مدنية التداول في هذا الملف، وعدّوه يمس شرف وأعراض المختطفات، وفضّلوا العمل فيه بسرية بعيداً عن الإعلام، ولم تكن هناك لجنة مختصة بمتابعة هذه القضية، ولم يتجرأ الكثيرون الخوض فيه.

"لم يكن هناك أي طرف يساند من يسعى لإثارة هذا الملف، بل على العكس عملوا على الحيلولة دون ذلك، والوقوف بوجه من يثير هذا الأمر، الذي لا يمكن السير فيه بجهود فردية، وأحد الأطراف -لم تحدده- سعى أن يبقى الملف بيده بهدف استثماره سياسياً"، هكذا تقول فيحاء زين العابدين، برلمانية سابقة وناشطة تركمانية.

وتستدرك "المطلوب الآن، تشكيل هيئة متدربة لمتابعة أمور الناجيات وإعادة تأهيلهن للعودة إلى الحياة الطبيعية".

المطلوب الآن، تشكيل هيئة متدربة لمتابعة أمور الناجيات التركمانيات وإعادة تأهيلهن للعودة إلى الحياة الطبيعية

ولم تبادر أية منظمة دولية في تلعفر، على الرغم من وجود 13 منظمة، تقوم بمشاريع مختلفة، إلى تنفيذ مشروع خاص بالدعم النفسي والقانوني والمادي للناجيات التركمانيات، حيث تعيش اغلبهن في وضع إنساني صعب. بينما قصدت وسائل إعلامية عديدة منازل الناجيات بهدف توثيق معاناتهن دون تقديم شيء ملموس لهن من أية جهة.

برغم من كل المشاكل هناك أمل.. الأمر اختلف تدريجيا، فقد عادت بعض الناجيات والتحقن بالمدارس وحققن نجاحاً في الدراسة، وباتت النظرة إليهم مغايرة عن السابق. هناك ناجيات تحدين الواقع وواصلن دراستهن رغم تأخرهن فيها، ورغم عدم وجود الدعم النفسي والاجتماعي لهن.

الناجية أحلام، انخرطت في المجتمع من جديد، وعادت إلى عائلتها ودراستها، وما زالت متأملة أن تعود والدتها واثنتين من أخواتها، ما زال مصيرهن مجهولاً حتى الساعة.

تكمل "بعد أن تحررهن وعودنا إلى تلعفر وجدنا أقاربنا متلهفون لنا.. نعم قد نشعر أحياناً وتصل إلى مسامعنا كلمات تحسسنا بأننا دون الأخريات، إلا أن المجتمع بشكل عام متفهم ومتعاطف معنا ومع قضيتنا، وكلنا أمل أن يأتي اليوم الذي تعود فيه كل المختطفات إلى ذويهن".

 ملاحظة: أحلام وزينب أسماء مستعارة يتحفظ (كركوك ناو) على نشر الأسماء الصريحة بناء على طلبهما. 

  • FB
  • Instagram
  • Twitter
  • YT