"بداية رشدي كان في وقت الطائفية، حيث قُتل الناس بسبب الدين او الطائفة او المذهب، آنذاك طرحت تساؤلات على نفسي، لماذا يقتلون؟ هل اعتناق الناس او الانتماء لفئة معينة من المذهب او دين او طائفة او لون جريمة عقوبتها القتل؟" هكذا كانت تسال الصيدلانية صفا صلاح نفسها اثناء تلك الفترة على الرغم من سنها لم يتجاوز العاشرة من العمر.
وقتل ما يقارب الخمسين ألف شخص في الصراع الطائفي الذي ساد بعدة محافظات عراقية منها محل اقامتها العاصمة بغداد خلال (2006 – 2008).
صفا بقت صورة الإرهاب والقتل يلاحقها في مخيلتها، وكانت مصممة على بناء السلام ومكافحة التطرف ونشر المحبة، هنا بدأت تبحث طريق يساعدها في مواجهة المجتمع وطرح توجهاتها السلمية وقبول الاخر.
نقطة التحول
نقطة التحول في حياتها كانت حضورها للورش التدريبية والمنتديات الاجتماعية والمؤتمرات العلمية والمبادرات المجتمعية، شيئا فشيئ بدأت تتكامل منظومتها الفكرية حول السلام وتقبل الاخر.
اهم تلك التدريبات التي حصلت عليها كام مقدم من جمعية الامل العراقية الخاصة ببناء السلام والحوار ضمن برنامج (لنجعل صوت النازحين مسموعاً) الذي كان يتضمن مواضيع تخص قضايا النازحين وصوت المرأة والنساء والأقليات والمساواة بين الجنسين.
وتأسس البرنامج في عام 2018 بدعم من منظمة هيفوس ولا يزال المشروع قائماُ وبمشاركة عدة المنظمات العراقية ومن ضمنها جمعية الامل.
البرنامج يدعم تمثيل عادل ومشاركة أكبر للنازحين، خصوصاً النساء والأقليات في الانتخابات الوطنية وانتخابات مجالس المحافظات المقبلتين، نفذ في سبعة محافظات يتواجد فيها نازحون من أقليات مختلفة (دهوك، السليمانية، أربيل، نينوى، بغداد، النجف وكركوك).
"كانت لهذه التدريبات من الجمعية الاثر الكبير التي جعلت مني شخص متحايز لحقوق الانسان" تقول صفا.
جمعية الامل هي منظمة مجتمع مدني تاسست عام 1993 في كوردستان ثم انتقلت للعمل في عموم العراق، كان لها دورا رياديا في البرنامج ونفذت عدد من التدريبات استقطبت فيها عددا من الشباب ومن ضمنهم صفا (24 عاماً) من عدة محافظات عراقية واهلتهم للتعامل مع النازحين وتقديم الدعم لهم.
التدريب الذي تلقته صفا كان في الشهر تموز 2019 بمدينة اربيل، كان يختلف عمن سبقه؛ بعد ان اكملته حتى بدأت آثار التغيير الفكري والثقافي والاجتماعي يتبلور عندها بصورة "جلية واضحة"، وانعكست وبدورها على السلوكيات والمواقف الاجتماعية كنت تراها عادية لكن تحمل في مضمونها عنف او اضطهاد او سلب حق او الخ...
"بدأت هذه المواقف (العادية) تأخذ منحنى اخر في فكري وتستدعيني للتدخل فيها، بدأت حقوق الانسان والمساواة بين الجنسين الشئ المهم الذي يستدعيني لتطبيق التدريبات التي حصلت عليها في ارض الواقع، وكذلك استخدام المهارات والادوات التي درست عنها في هذه المواقف، من اجل ان اكون الجزء المغير فيها وداعي للسلام"، هكذا تصف صفا نقطة تحول افكارها.
اما في المجال السياسي فلقد تولد لديها ادراك وتحليل للمواقف السياسية وكيفية تعامل الجهات ذات صلة معها.
التعامل مع النازحين
بعد التدريب بدأت صفا بتنفيذ جلسات توعوية لمدة شهرين في مخيمات النازحين التابعة لبغداد وخصوصا في منطقتي ابي غريب واللطيفية، الغرض منها هو لدعم مشاركتهم في الانتخابات والحث على عدم ترك اصواتهم الانتخابية التي تغير من واقعهم، وان يختارون من يروه مناسبا.
وأشارت إلى اصعب النقاشات في المخيمات كانت تخص السياسة وذلك لما تعرضوا له من تهجير ومعاناة.
وتروي صفا انها في احدى الجلسات التي كانت هنالك امرأة اربعينة يبدو على ملامح وجهها القوة والصوت النقي الواضح، كانت مؤيدة لما تقوله صفا لهم بخصوص المشاركة في الانتخابات، كانوا يردون عليها بسخرية او بصوت عالي لا يستمعون لما تقوله.
لكن المرأة لم تتردد بالرد عليهم، بل اصرت على موقفها واستمرت بالنقاش معهم، كانت تقول لهم "اذا لم ننتخب فما هو الحل الذي سيغير من واقعنا؟ اذا لم نذهب وننتخب نحن من نراه شخص جيد وسوف يعيد حقوقنا".
شيئا فشيئا بدأ الهدوء يعم واستمعوا لصوتها وحديثها حتى في اخر الجلسة قالت لهم "اذا رشحت انا للانتخابات، سوف تنتخبوني؟" المفاجأة الغالبية من الموجودين في الجلسة رفعوا ايديهم مؤيدين لها.
هذه المرأة علمت صفا ان التغيير لا يأتي بسهولة ويحتاج لصبر ومكافحة من اجل بناء الثقة لتقبل التغيير الذي يحدث في المجتمع، فأخذت على عاتقها البدأ بتطبيق مفاهيم بناء السلام وحقوق الانسان كمبادرات من اجل صنع التغير الذي تريده كما الذي صنعته تلك "الامرأة البطلة" في تلك الجلسة.
بدأت بعد ذلك بالعمل على مواضيع العنف الاقتصادي المقام على المرأة الريفية حيث عملت عدة مقابلات مع نساء في ارياف بغداد وتحدثن عن العنف الاقتصادي الذي وقع عليهن.
بدأت بالتخطيط للعمل على تشجيع مشاركة ووجود الفتاة العراقية في شتى الرياضات، وحيث خططت لاقامة مباراة كرة قدم نسوية، لكن لسوء الحظ تأجلت بسبب تظاهرات التي انطلقت في شهر تشرين الاول 2019.
سر النجاح
تقول ان لولا دعم الاهل والاصدقاء لها لما كانت تستطيع التعبير عن رأيها بصراحة وشفافية حاليا، لكنها اشارت إلى ان دعم الاهل لم يأتي من فراغ، اتى نتيجة القدرة على الاقناع بأنها قادرة على صنع التغيير في نفسها والاخرين من حولها.
صفا لا تعتقد ان هناك شيء اسمه "قيود المجتمع على النساء"، لنها ترى نفسها انسانة ومؤمنة برؤيتها بأنها انسانة، رؤية الاخر لها بأنها انثى وهناك اشياء محرمة عليها لا تعنينها بشيء.
وعن أساليب نجاحها، توكد صفا على التخطيط الجيد، والمحاولة مراراً وتكراراً والمثابرة، والامل بأنها قريبة من تحقيق حلمها، أبرز ما امتلكه في تحقيق لأهدافها.
"مع كل فرح بتحقيق هدف او حلم؛ هو بداية لتحدي جديد وحلم جديد وهدف اخر، لا حصر لأهدافي وأحلامي، كل مرحلة عمرية لها احلام تختلف تماما عن التي قبلها، وبالتالي ليس في قاموسي حدود للطموح والاهداف" تقول صفا.
ترى ان المجتمع "صعب من ناحية العادات والتقاليد ومن ناحية فقدان العدل والمساواة، بسبب العادات والتقاليد المجتمعية"، لكنها توضح ان دورها ودور كل بنت تثبت لنفسها وفي المجتمع ولأهلها، على سبيل المثال ان تكون ناجحة في الدراسة او العمل.
وصفا تقدم نصيحها للنساء وتكشف عن امنيتها بالتكاتف فيما بينهن في المجتمع وعدم التقليل من الاخريات، من اجل خلق جو نسوي قوي مساند للاخر. وعلى النسوة أن يتحدن لان قوتهن بتكاتفهن ووحدتهن سيصنعن جيلاً ومجتمعاً قوياً.