"من المحزن حقاً أن لا يجيدَ مجتمع ما لُغته الأم"، بألمٍ وحرقةٍ يقولها الباحث الفلكلوري والشاعر التركماني المعروف رضا جولاق اوغلو.
"لا يوجد توجه عام لدى أهالي تلعفر لتعلم اللغة الأم، ولهذا فهي آيلة للنسيان في ظل عدم وجود تبني مؤسساتي لمعالجة هذه المشكلة، والقائم منها لا يتعدى أن يكون تشبتاً فردياً ومحاولات ذاتية لا يمكنها أن تحل معضلة اللغة، مع عدم إنكارنا لتراكمات الماضي" يضيف اوغلو.
والتركمان هم ثالث أكبر قومية في العراق بعد العرب والكرد، وينتشرون في اغلب مناطق المتنازع عليها، ويقدر عددهم بحس التقديرات بنحو ثلاثة ملايين مواطن، يشكلون أغلبية في قضاء تلعفر غرب محافظة نينوى. لكن حسب المختصين ان لغتهم تواجه تحديات كبيرة لأسباب عديدة منها المفردات الدخيلة والنزوح وطغيان الثقافات الأخرى وصولاً لاختلاف في الاحرف المستخدمة بالكتابة.
عدم ضبط القواعد والمفردات
اوغلو يوضح لـ(كركوك ناو) ان تركمان تلعفر في "طريقهم لنسيان أكثر مفردات لهجتهم"، وفي الوقت ذاته فهم لم يتعلموا التركية الفصحى قراءةً وكتابةً حتى الآن، باستثناء نفر قليل مثل طلبة الجامعات التركية.
وبخصوص الكتابة باللغة التركمانية، يقول اوغلو: "حتى الشعراء الذين يكتبون بالتركية يحشرون في نفس الخانة لجهلهم بمفردات وقواعد لهجتهم وعدم ضبط قواعد التركية الحديثة، فهم لا يجيدون الكتابة العثمانية القديمة إملائياً ولم يتقنوا لحد الآن الإملاء التركي الجديد".
"الحفاظ على اللغة الأم هو الهاجس الذي يشغل مثقفي وشعراء تلعفر، ليس من اليوم وإنما منذ الثمانينات، باعتبار اللغة هوية كل أمة، وبالإمكان القضاء على الأمة بالقضاء على لغتها" هذا ما قاله رئيس اتحاد أدباء تلعفر، مقداد حودي.
ويشدد قائلاً "ينبغي أن يكون الاهتمام باللغة التركمانية أهم قضية لدى أبناء تلعفر اليوم، فمن المؤسف أن أطفالنا لا يجيدون لغتهم الأم ولا يجيدون اللغة التي يتعلمونها في المدارس بحكم أنها ليست اللغة التي يتحدثون بها".
"من الملاحظ أن في تلعفر نحو 100 شاعر يكتبون باللغة التركمانية، ولكن حين ندقق في قصائدهم، لا سيما الشعراء الشباب، نجدهم يلجئون إلى كلمات دخيلة وأجنبية على حساب لغتهم الأم".. يقولها حودي اوغلو متأسفاً.
علاقة التركمانية باللغة التركية
يُشبه المعنيون علاقة اللغة التركمانية باللغة التركية، كعلاقة اللهجة العراقية بالعربية الفصحى، حيث يرون أن التركمانية والتركية قريبتان من بعض، إلا أن الظروف الجغرافية والتاريخية للمتحدثين بكلٍ منهما عمقت الفروق بينهما، لا سيما عدد الأحرف وتصريف الأفعال والمفردات والألفاظ.
ثم أُضيف فرقاً كبيراً عندما تخلى الأتراك عن الكتابة بالأحرف العربية (العثمانية) وتبنوا الكتابة اللاتينية عام 1928. بينما استمر بعض تركمان العراق، ومنهم تركمان تلعفر، يستخدمون الأبجدية العربية، وهذا تحدي اخر امام اللغة التركمانية في العراق.
فيما توسع التعليم بالأحرف اللاتينية في المدارس التركمانية بإقليم كوردستان العراق، بعد انتفاضة آذار 1991، وتعمق الاتجاه الداعي إلى تبَّني اللغة التركية مع أبجديتها اللاتينية، واعتبارها هي اللغة الفصحى بدلا من التركمانية. لكن هذه الإشكالية الكبيرة لم تحسم ولا زال الجدل فيها محتدماً بين الداعين والرافضين.
"في الأصل التركمانية والتركية لغة واحدة، والفرق في اللهجات لا أكثر، ولهذا نجد لغة أذربيجان أقرب إلى لهجات تركمان العراق، وخاصة تركمان تلعفر"، حسب قول الشاعر إحسان برجه باغلى.
وأضاف ان"اللغة التركية أُدخل عليها تطورات وتحديثات من حيث القواعد والنحو وتغيير حروفها من العربية (العثمانية) إلى اللاتينية، أما لغة تركمان العراق فقد بقيت على حالها دون ضوابط ولا قواعدها ولا اهتمام، لهذا نجد أغلبهم في تلعفر لا يجيدون القراءة والكتابة بلغتهم الأم".
برجه باغلى يقارن بين ما كتبه الشعراء التركمان الراحلين مثل فلك أوغلو والملأ محمود أصلان ولغة التركمانية الحالية، حيث أشار إلى وجود "فرقاً شاسعاً، لهذا يمكنني القول أن اللهجة التلعفرية وللأسف ضائعة تماماً".
ضعف تدريس اللغة التركمانية
يسجل المختصون ضعفا في تعليم اللغة التركمانية في المدارس، حيث لا يوجد في تلعفر البالغ تعدادها ربع مليون سوى مدرسة تركمانية يتيمة.
المشرف التربوي الأقدم، اختصاص لغة تركمانية، عبد الغني الياس آل عباس، أوضح أن "الدراسة التركمانية أُدخلت بشكل رسمي إلى مدارس تلعفر من قِبل وزارة التربية عام 2005، بأسلوبين: الأول الأساسي، حيث تكون جميع المواد الدراسية باللغة التركمانية، بالحروف اللاتينية، باستثناء مادتي اللغة العربية والإسلامية.
وفي تلعفر استحدثت هذا العام مدرسة تركمانية واحدة اسمها البيرق تقع في حسنكوي، وتضم 13 تلميذاً.
فيما كان قبل أحداث 2014 وسيطرة تنظيم الدولة "داعش" على تلعفر ست مدارس، خمسة منها داخل مركز المدينة والسادسة في ناحية العياضية، وكانت تضم 700 تلميذ من كلا الجنسين، إلا أن الأحداث وما أعقبها من نزوح أنهت تلك المدارس.
ويكمل "أما الأسلوب الثاني فيسمى الشمول حيث تدرس اللغة التركمانية كمادة واحدة إلزامية بواقع ساعتين في الأسبوع، في مراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية وحتى في رياض الأطفال، وهذا ما يجري في جميع مدارس تلعفر في الوقت الحاضر".
ويستدرك قائلاً "رغم ذلك نجد عدم التطور والارتقاء بواقع تدريس اللغة التركمانية لقلة عدد الحصص المقررة وعدم توفر معلمين من اختصاص اللغة التركية ما يسبب تدني هذا الواقع".
ودعا آل عباس، أولياء الأمور إلى "تشجيع أبنائهم للتسجيل في المدارس التركمانية، فهي مدارس رسمية ومناهجها مقرة من قِبل وزارة التربية، والاشتراك في دورات تعليم اللغة التركمانية، وكتابة أسماء الأحياء السكنية والدوائر باللغة التركمانية، وتغيير أسماء الشوارع والمحلات إلى أسماء تركمانية".
مطالبا عدم الانجرار للحديث بلغات غير لغة الأم في المنازل، والعمل على إصدار صحف ومجلات باللغة التركمانية، وتوعية المواطنين بضرورة الحفاظ على لغتهم الأم كي لا تضيع هذه اللغة الجميلة على حد وصفه.
وأعلنت الكلية التربوية المفتوحة، في 9 أيلول 2019 الماضي، افتتاح قسم اللغة التركمانية في المركزين الدراسيين بمحافظتي نينوى وكركوك.
ونصّ الدستور العراقي النافذ في المادة الرابعة،"رابعاً: اللغة التركمانية واللغة السريانية لغتان رسميتان أخريان في الوحدات الإدارية التي يشكلون فيها كثافة سكانية".
ويبين إحسان برجه باغلى أنه "لا عائق قانوني من تطبيق الدستور الذي منح التركمان حق استخدام لغتهم في مناطقهم كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية".
وعبّر عن اعتقاده أن"تفعيل هذا الأمر يتطلب جهوداًتتمثل بوضع مناهج وأسس تعليمية وعمل ندوات ومحاضرات تثقيفية وتوعية واسعة".
النزوح زاد الطين بلة
"اطفالي لا يتكلمون التركمانية بشكل الصحيح، يستخدمون كلمات دخيلة تعلموها عبر اختلاطهم مع الأطفال اخرين من القوميات الأخرى خلال فترات النزوح" هكذا تصف التربوية انوار حسن اجادة اطفالها الثلاث للغتهم الام.
انوار في عقدها الرابع اضطرت للنزوح من تلعفر لبغداد، لكنها فضلت البقاء في العاصمة لغاية استقرار الأوضاع في تلعفر حسب وصفها.
ووقعت تلعفر تحت سيطرة التنظيم في حزيران 2014، واضطر أغلب سكانها البالغ عددهم نحو 225 ألف نسمة إلى النزوح عنها، إلى محافظات الوسط والجنوب وإقليم كردستان وكركوك وتركيا، قبل أن يعاود نحو 45% منهم العودة إليها مجدداً بعد استعادتها في أب 2017.
تأثير حملات النظام السابق سابقاً والتكنولوجيا حالياً
رئيس اتحاد أدباء تلعفر، مقداد حودي اوغلو يقول أنه في عهد نظام صدام حسين كانت هناك هجمة لتعريب تلعفر وفرض اللغة العربية، إلا أن التركمان تعاملوا مع لغتهم في العقود السابقة كان أفضل من الآن ونجحوا في الحفاظ عليها.
وأضاف أن "تطور التكنولوجيا تساهم في جعل التركمان ينسون لغتهم الأم، في ظل اجتياح قنوات، أغلبها باللغة العربيةجميع المنازل، إلى جانب مواقع التواصل الاجتماعي التي فرضت حالها على الجميع".
وفي إشارة للتحديات يقول حودي اوغلو أن "استمر الأمر على ما عليه الآن، سنجد تغييراً كبيراً في لغتنا، التي تعتبر أبرز خصوصياتنا في وطننا".
"نحن بأمس الحاجة إلى البدء بمرحلة توثيق اللهجة التركمانية لأهل تلعفر وتراثهم والكل معنيون في هذا المجال". هكذا يرى الشاعر رضا جولاق أوغلو الخطوة المقبلة للتركمان في تلعفر بهدف الحفاظ على لغتهم.