في أمسية حارة من شهر آب، تجمع العشرات من متظاهري حلبجة قرب تقاطع دائري في المدينة لإطلاق مسيرة احتجاجية ضد تأخر صرف رواتب الموظفين واستقطاع نسبة منها من قبل الحكومة، التظاهرة انتهت لكن ذلك اليوم لم يمر مرور الكرام، في وقت متأخر من الليل احترقت أشياء كثيرة تحت هتاف "فليسقط".
في حوالي الساعة العاشرة من ليلة 22 آب، مع ازدياد حلكة الليل، بدأت أعداد الشباب الذين يتوجهون من أزقة وشوارع حلبجة نحو وسط السوق تتزايد وبدأت معها الهتافات، وانتهت برمي الحجارة واضرام النيران في أربع دوائر حكومية وحزبية. الأحداث أسفرت عن احتراق آلاف الملفات المحفوظة في أرشيف البلدية في ظروف غامضة.
في مساء نفس اليوم، نظم الموظفون والمعلمون تظاهرة سلمية في تقاطع عمر خاور الدائري وسط المدينة للاحتجاج على استقطاع نسبة 21 بالمائة من رواتبهم بقرار من حكومة اقليم كوردستان، المظاهرة انتهت مع غروب الشمس ولم تسفر عن حوادث عنف.
بعد ثلاث ساعات، أي حوالي الساعة العاشرة ليلاً، دون أي تخطيط مسبق، نزل عدد من الشباب الى الشوارع، لم يلبثوا كثيراً وسط سوق المدينة وتوجهوا صوب الدوائر الحكومية. لم يمض الكثير قبل أن تشتعل شرارة غضبهم الذي لم يكن لِيَخمُدَ قريباً.
نقطة الانطلاق كانت القائممقامية
مبنى قائممقامية حلبجة كان أول المباني الحكومية التي استهدفها الشباب برمي الحجارة، بحسب ناشطي حلبجة، أراد الشباب دخول المبنى، غير أن الشرطة اعترضتهم ومنعتهم من ذلك.
نوينر جوهر، أحد الناشطين في حلبجة قال "بعد منعهم من دخول المبنى، توجهوا في الساعة الحادية عشرة والنصف الى مبنى البلدية، في البداية رموا المبنى بالحجارة، بعد ذلك دخلوا المبنى وأضرموا فيه النيران."
"عندما وصلت الى هناك، كان مبنى البلدية يشتعل، الشباب كانوا يهمون بمغادرة المبنى وتوجه الناس بعدها نحو مركز الشرطة القريب من مقر الفرع الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني"، حسبما قال نوينر جوهر.
وأشار الناشط الى أن الشباب كانوا من العاطلين عن العمل والمستائين من الأوضاع، تعرف على هويات بعضهم، لكن هويات منظمي التظاهرة لم تكن معروفة، وكانوا يرددون هتاف "فليسقط اللصوص."
بعد البلدية، أضرموا النار في مركز شرطة المرور، ومن هناك توجهوا الى مقر الفرع الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني، وهو الحزب الذي ينتمي اليه رئيس الاقليم ورئيس الحكومة.
عند وصول الشباب المتظاهرين الى مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني كانت الساعة قد تعَدَّت الثانية عشرة ليلاً، في تلك الأثناء أطلق حراس المقر النار فوق رؤوس المتظاهرين.
يقول نوينر "اطلاق النار أشعل غضب الشباب أكثر، وازدادت معه الهتافات ضد الحكومة والحزب."
اطلاق النار أشعل غضب الشباب أكثر، وازدادت معه الهتافات ضد الحكومة والحزب
وكان عدد من المسلحين الذين يُعتَقَد بأنهم ينتمون للديمقراطي الكوردستاني قد دخلوا المقر، فيما انتشرت قوات الأمن (الآسايش) في محيط المقر.
نوينر جوهر الذي كان وسط المتظاهرين بالقرب من مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني قال "كان هناك تراشق بالحجارة وحرق للإطارات، مرت آلاف الطلقات النارية من فوق رؤوسنا"، بعدها وصلت عربة قوة حماية النشاطات المدنية وقاموا بتفريق المتظاهرين عن طريق رش مادة "ذات رائحة كريهة".
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل عاد الشباب الى بيوتهم، ولم يلحق أي ضرر بالمقر الحزبي.
بعد يوم من الحادث أكدت شرطة محافظة حلبجة على أن مباني القائممقامية، المحكمة، مركز تنظيمات الاتحاد الوطني الكوردستاني والفرع الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني قد تعرضت لرشق بالحجارة.
إلاّ أن بسام علي، مسؤول الفرع الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني قال في مؤتمر صحفي بأنهم كانوا الجهة السياسية الوحيدة التي تعرضت لهجوم المتظاهرين في حلبجة.
وأضاف بسام علي "كظمنا غيظنا، في البداية تعرض مقر الفرع لإطلاق نار من قبل سائق دراجة نارية، أبلغت رفقائي بأن يلتزموا بضبط النفس وأن لا يطلقوا النار، في الساعة الثانية عشرة ليلاً تعرض مقر الفرع الثاني عشر لهجوم مسلح من أربع جهات، اقتربوا كثيراً من بوابة المقر لذا أمرت الحراس بإطلاق النار فوق رؤوس المتظاهرين بهدف تفريقهم."
لم يُصَب أي أحد بجروح خلال تظاهرة حلبجة.
مركز شرطة حلبجة يقع داخل مبنى القائممقامية وذلك كان السبب وراء عدم استهدافه من قبل المتظاهرين، لكن مبنى شرطة المرور كان يتواجد فيه عدد قليل من شرطة المرور الذين كانوا يؤدون واجب الخفارة، أما البلدية فكان يتواجد فيها حارس مدني واحد.
كويستان كريم، رئيسة بلدية حلبجة، قالت لـ(كركوك ناو) "عادةً هناك ثلاثة حراس مدنيين في البلدية لكن في تلك الليلة كان هناك حارس واحد فقط... ما الذي يستطيع حارس مدني فعله."
شاهد عيان يسكن في منزل قريب من مقر فرع الحزب الديمقراطي الكوردستاني قال بأن أغلب المشاركين في التظاهرة كانوا من الشباب ومتوسطي العمر اضافةَ الى عدد من الأطفال.
شعبة الملفات المحترقة
في الوقت الذي كانت ألسنة لهب الاطارات المحترقة ترتفع بالقرب من مقر الفرع الثاني عشر للحزب الديمقراطي الكوردستاني، كانت الحرائق تلتهم اثنين من أهم غرف مبنى البلدية، وهي شعبة التخطيط وشعبة الأرشيف والملفات.
شعبة الأرشيف والملفات تقع في الطابق الأرضي وتبلغ مساحتها 225 متراً مربعاً، الشعبة كانت تضم أرشيف 30 سنة لسكان المدينة ووثائق ومستندات العقارات والتمليك، محفوظة داخل ستة دواليب وعدد من الأكياس.
كويستان أكرم، رئيسة بلدية حلبجة، قالت لـ(كركوك ناو) "احترق عدد كبير من الوثائق الأولية للمواطنين في مخزن البلدية، هذه الملفات تعود لما بعد الانتفاضة، كانت هناك بعض الملفات الأخرى التي تعود لعهد النظام البعثي لكنها احترقت أيضاً."
احترق عدد كبير من الوثائق الأولية للمواطنين في مخزن البلدية، هذه الملفات تعود لما بعد الانتفاضة، كانت هناك بعض الملفات الأخرى التي تعود لعهد النظام البعثي لكنها احترقت أيضاً
لم تُخزَن أي من الملفات والوثائق التي تحولت الى رماد في قاعدة البيانات الرقمية، "في الأعوام الماضية كنا نفتقر الى وود نظام الكتروني لإدخال وحفظ الملفات عن طريق قاعدة البيانات" هذا ما قالته كويستان مبررةً عدم تمكنهم من حفظ الملفات.
قسم من الملفات التي احترقت كانت تحوم حولها شبهات فساد.
في عهد رئيس البلدية السابق، تم توزيع 730 قطعة أرض في المنطقة الصناعية، ملفات 109 من الحرفيين صودق عليها، غير أن 621 ملفاً آخر كانت قد أُحيلَت من قبل مجلس محافظة السليمانية الى المدعي العام.
احدي الملفات الأخرى كانت تخص توزيع حوالي أربعة آلاف و500 قطعة ارض على الكوادر والمسؤولين الحزبيين، اضافةً الى 10 مشاريع استثمارية خصصت البلدية أراضي لمعظمها دون أن تكون هذه المشاريع مجازة.
يعتقد بعض الصحفيين والناشطين الذين تحدثت معهم (كركوك ناو) بأن حرق ملفات البلدية كان "عملاً مُخَططاً له"، للتغطية على الفساد الحاصل في توزيع الأراضي في المدينة.
ريباز كمال، رئيس مجموعة هلويست (الموقف) التي حركت في حينها قضية الفساد في البلدية، قال لـ(كركوك ناو) "الغرفتان اللتان احترقتا بعيدتان عن بعض، شعبة التخطيط تقع في مقدمة المبنى، أما شعبة الأرشيف والملفات فتقع في الجزء الخلفي من المبنى، اضافةً الى أن عدم تواجد حماية في المكان يثير الشكوك حول الحادث."
مجموعة هلويست سلّمت جميع الأدلة الى المحكمة في عام 2015، يقول ريباز كمال "عمليات الفساد التي حدثت لم تقم بها الأحزاب فقط بل أن هناك أشخاصاً مشاركين فيها."
عودة خدر من المقبرة
في نهاية شهر حزيران 2015، سحب مجلس محافظة السليمانية الثقة بأغلبية الأصوات من خدر كريم، رئيس بلدية حلبجة في حينها وأحال ملفه الى المحاكم، "شكّل مجلس الوزراء لجنة لمتابعة القضية، اللجنة قررت سحب الثقة وحبس رئيس البلدية السابق غير أن قرار اللجنة تغير فيما بعد بتدخل من الرئيس السابق لحكومة اقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني الى عقوبة انذار"، حسبما قال الناشط ريباز كمال.
بعد يوم من الحريق الذي التهم ملفات بلدية حلبجة، اختفى رئيس البلدية السابق خدر كريم، بعد مرور يومين عُثِرَ عليه في مقبرة خارج مدينة حلبجة وهو "في وضع صحي متدهور"، حسبما أفادت به شرطة حلبجة، لكن لحد الآن تمتنع الشرطة وكذلك ذوو خدر كريم عن الإدلاء بأي توضيح آخر.
رئيس مجموعة هلويست انتقد حرق الملفات لكنه في الوقت نفسه أبدى دعمه لمطالب المواطنين، "من الممكن أن يقوم شباب غاضبون برشق الحجارة، لكن حرق الوثائق أمر آخر، لذا تساورنا الشكوك حول ما حدث في تلك الليلة."
لكن الناشط نوينر جوهر يستبعد أن يكون الشباب قد تم توجيههم، "صدقوني، شباب حلبجة مستاؤون من الأوضاع، هذه الأحزاب أهانت شباب هذه المدينة."
من جانبها استبعدت كويستان الشكوك التي تحوم حول الحادث وقالت "حتى ان كان ذلك صحيحاً فقد فعلوه عن جهل، ان كان الأمر يتعلق بالأراضي والعقارات فالوثائق الأولية للعقارات والتجاوزات موجودة في أغلب الدوائر الأخرى."
بلدية حلبجة قيدت شكوى ضد المتظاهرين، فيما تقوم قوات الأمن (الآسايش) بالتمحيص في كاميرات المراقبة لتحديد هويات المتظاهرين.
الحادث أدى الى تعليق معاملات المواطنين في الدوائر الحكومية بحلبجة.
وتشير تقديرات ادارة محافظة حلبجة الى أن حجم الأضرار التي لحقت بالبلدية تتجاوز 80 مليون دينار، أما مركز شرطة المرور فتُقَدَّر اضرارها بأكثر من 30 مليون دينار.
تحويل حلبجة الى محافظة لم يرو عطش ساكنيها
أصبحت حلبجة محافظة في عام 2014، الكابينات الوزارية المتعاقبة أغدقت حلبجة بعشرات الوعود، غير أن عدم وجود فرص عمل، نقص المشاريع الخدمية وعدم تمتعها بطابع المحافظة زاد من الاحتقان.
في الوقت الحاضر، العمل متوقف أكثر من 150 مشروعاً خدمياً في حلبجة، يبلغ تعداد سكان المحافظة 103 ألف شخصاً، 70 ألفاً منهم يقطنون داخل المدينة.
يربط حلبجة بإيران في الشرق منفذ حدودي وحيد، تُستَورد عن طريقه البضائع والسلع التجارية.
وفقاً لإحصائية اجرتها (كركوك ناو)، سنوياً، تغادر 200 الى 300 عائلة محافظة حلبجة، معظمهم يستقرون في السليمانية، وذلك بسبب عدم وجود فرص عمل وقلة الخدمات.
آزاد توفيق، محافظ حلبجة، تحدث بعد أحداث ليلة 22 آب مع رئيس حكومة الاقليم مسرور البارزاني لمدة 11 دقيقة، طلب فيها الحكومة بتوفير الدعم الاقتصادي لحلبجة والعمل على تشكيل لواء حماية للمحافظة اسوةً بالسليمانية. هذه الخطوة تحتاج موافقة حكومة بغداد، وليس من السهل تنفيذها لأن بغداد لم تعترف بحلبجة كمحافظة رسمياً لحد الآن.