سيّد غالب لم يتغير، لا زال يستيقظ باكراً كما كان يفعل سابقاً في قريته، بعد تناول الفطور يرتدي زيه التقليدي، يدير محرك سيارته المصنوعة في الثمانينات و يذهب للقاء أعز ما في قلبه.
هذا الرجل البالغ من العمر 81 سنة، يفضي اليك زيِّـه و شاربه الكثيف المتشح بالبياض بأنه من وجهاء كاكائيي القرى التابعة لقضاء داقوق حتى قبل أن تستمع لحديثه.
غالب سيد ولي محمد، يتحدث عن موطن آبائه و أجداده كعاشق شاب، معشوقته هي قرية زنقر الكاكائية التي ابتعد عنها مضطراً منذ سنين.
"للآن، اشعر بالضيق و أفقد صبري ان لم أزُر قريتي و منزلي هناك كل يوم"، هذا ما قاله سيد غالب لـ(كركوك ناو).
التفسح لساعة في القرية كل يوم يعني لي كل شيء
زيارة سيد غالب لقريته تتكرر يومياً منذ خمس سنوات، حيث يزور منزله هناك و يمكث في دياره ما لا يقل عن ساعة كل يوم، قبل أن يعود الى المدينة و حياة النزوح مكسور الخاطر.
غالب و زوجته نزحوا من قرية زنقر صوب مركز قضاء داقوق في عام 2015، حينما أوشك مسلحو تنظيم الدولة الاسلامية في العراق و الشام (داعش) على الاستيلاء على مناطق الكاكائيين.
"التفسح لساعة في القرية كل يوم يعني لي كل شيء."
أرجاء القرية لا تزال تحمل ذكريات طفولة سيد غالب، جميع أصحابه و أقاربه لا زالوا هناك، لذا حين يذهب الى زنقر يلتمّون حوله و يستمعون لأحاديثه الطريفة و الذكريات التي يرويها.
جائحة كورونا لم تسبب البطالة و تراجع الزراعة و تربية المواشي فقط بالنسبة للكاكائيين، بل أثرت على هواية سيد غالب كذلك.
"أثناء تفشي كورونا و فرض حظر التجوال لم أكن أستطيع زيارة قريتي كالسابق، حُبِست داخل المنزل، القعود في البيت و عدم زيارة قريتي أشعَراني بالإحباط."
و أشار سيد غالب الى أنه حاول عدة مرات الذهاب لقريته أثناء حظر التجوال، لكن القوات الأمنية منعته من ذلك.
منزل سيد غالب في داقوق يبعد 30 كيلومتراً عن قرية زنقر.
طوال عمري لم أحس بالحزن و الهم الذي أحسست به خلال الشهور التي أعقبت ظهور كورونا
"أتعَبَني هذا الوضع، لأنني تركت روحي و حياتي في تلك القرية و لست إلا جسداً في داقوق، طوال عمري لم أحس بالحزن و الهم الذي أحسست به خلال الشهور التي أعقبت ظهور كورونا."
سيد غالب تتملّكُه الرغبة في العودة الى قريته لكن أبناءه يعارضون الأمر.
زوجة سيد غالب توفيت منذ سنوات، لديه ثمان بنات و ابن واحد، يعيش حالياً برفقة ثلاث من بناته، البقية تزوجوا و لا أحد منهم يعيش في القرية.
"لا نستطيع العودة الى القرية، فهي على وشك أن تصبح مهجورة، نزح معظم ساكنيها، لذا فهي لن تعود كما كانت في السابق حينما كنا نعيش معاً مع أقاربنا، ليس هناك شخص لا يحب العودة الى دياره"، حسبما قالت نسرين(51 سنة) ، ابنة سيد غالب.
من أصل 80 عائلة كاكائية كانت تعيش في زنقر لم يتبق الآن غير سبعة عوائل.
نسرين غالب قالت لـ(كركوك ناو) "كنا نشعر بالقلق حين يذهب والدنا كل يوم الى القرية، أنا و شقيقتي الأخريتان كنا ننتظر عودته، لكن مع ذلك لم نضغط عليه و غالباً ما كنا نرافقه الى القرية."
كنا نشعر بالقلق حين يذهب والدنا كل يوم الى القرية
الاجراءات المفروضة بسبب كورونا شكَّلَت مرحلة صعبة بالنسبة لسيد غالب و بناته أيضاً، فلم يكن باستطاعتهن التخفيف من همومه بعد أن أصبحت زيارة القرية أمراً عسيراً.
يُعَدّ سيد غالب من ذوي التجربة بين سكان قرية زنقر، لذا غالباً ما يكون مجلسه عامراً.
سامان ابراهيم (50 سنة)، الساكن في قرية زنقر يقول بأنهم يشعرون باللهفة لمجيء سيد غالب و ينتظرون وصوله الى القرية بمركبته القديمة حتى يقوموا باستضافته ، "لكي نلتَمَّ حوله جميعاً و نستمع لأحاديثه الطريفة."
جائحة كورونا لم تستطع الوقوف بوجه محبة هذا الرجل لدياره أكثر من أشهر قلائل، بعد رفع اجراءات حظر التجوال عاد لسابق ايامه.
زيارة سيد غالب لقريته غير مرهونة بالوقت سواء كانت في النهار أو في المساء، ان لم يكن مريضاً و لم تعترضه اية مشاكل أخرى فإنه يقود مركبته متجهاً الى زنقر.