السوس في الموصل من يد أقدم سوّاس فيها

60 عاماً ومازال .. الحرب أفقدته عدّته والسنين جعلته غير قادر على التجوال

نينوى/ الموصل/ نيسان 2022/ أبو أكرم السواس خلال بيعه اكياس السوس بالقرب من الجسر العتيق تصوير: مجيد العباجي

مجيد العباجي- كركوك ناو - الموصل

يتجشم أبو كرم (75 عام) عناء الوصول من بيته القديم في منطقة (السرجخانة) الى منطقة الميدان المحاذية للنهر حيث يقف هناك ليبيع شراب السوس.

ببطء وعناء يتناول مطرقة حديدية ليهشم بها عود السوس الذي ينقعه بالماء ليكون الماء فيما بعد سوسا.

أبو كرم بات أقدم سوّاس في الموصل بعد موت آخر زميل له في المهنة قبل خمسة أعوام.

الرجل المتوجه بعمره الى الثمانين لم يعد قادرا على التجوال في شوارع المدينة وحمل "الجود"_ كما يسميه_ وهو الوعاء الذي يحمله على ظهره ويمد منه أنبوبا يقفل فوهته بابهام يده اليمنى. أو الترتب بزيّ السواس التقليدي. 

فملبسه الخاص بالمهنة وأوانيه النحاسية وعدّته التي عاش معها أكثر من 65 عام خسرها بسبب صاروخ حطّم بيته خلال الحرب.

يخفض أبو كرم رأسه الأشيب وعيناه تلمعان، ويقول لـ كركوك ناو "تألمت حين رأيت اغراضي التي أحبها بين الأنقاض مبعثرة وتألمت أكثر حين خرجت ورأيت المدينة مدمرة ولم تعد هي التي اعرفها".

ولم تعد قدماه قادرتان على المسير والتجوال في الشوارع لبيع شراب السوس.

يقول أبو كرم "لا أستطيع أن أتجول وابيع السوس كالمعتاد.. ولم أشتر بزة جديدة بعد خسارتي الزي القديم. أقف هنا كل يوم واضع السوس على العربة والناس تقف وتشتري".

نينوى/ الموصل/ نيسان 2022/ أبو أكرم السواس خلال بيعه اكياس السوس تصوير: مجيد العباجي

وعرف عن السواس أنه يتجول ويضرب بالأواني النحاسية التي يمسكها بيده فتصدر صوتا يبدو وكأنه موسيقا خاصة تعرّف بقدوم السواس. فيما يحمل جودا على ظهره مشدودا بوصلة قماش ويلبس لبسة خاصة تشبه الزي الشامي القديم ويعتمر شماغا.

وتشتهر مدينة الموصل بعود السوس والسواسين. وللسواس بزيّه نصب وضع في دورة تقع في الجانب الأيمن سميت باسمه. (دورة السواس)

كيف سيحافظ أقدم سوّاس على المهنة

يقول أبو كرم ان حبه للمهنة دفعه لتعليم أصغر ابنائه صناعة السوس وبيعه فغدا ابنه أصغر سواس في وقته. محمد البالغ من العمر 18 عاما يتحدث " قبل عشر سنوات ارتديت بدلة السوّاس وتعلمت كيف اضرب أقداح النحاس التي اضعها في خصري. خرجت للشارع فغدوت بحسب الصنف أصغر سواس في الموصل".

يدفع نفسا عميقا ويعقد حاجبيه ثم يردف " بيع السوس اليوم لا يوفر دخلا جيدا يؤمن لي حياة كريمة نحن الان في موسم رمضان لكن بعد رمضان سيكون البيع ضعيفا جدا".

ويعتبر شهر رمضان موسما للسوس والعصائر الأخرى اذ ينتشر السواسون في الشوارع يبيعون السوس للصائمين الذين بدورهم يفضلونه كشراب في وقت السحور يساعد على تحمل ساعات الصوم دون الشعور بالعطش. بالإضافة الى فوائد صحية أخرى يسردها أبو كرم لحد زبائنه وهو يناوله كيس مملوء بالشراب أسود اللون "السوس مفيد للكلى وينظف المجاري البولية بالإضافة الى فوائده للبشرة".

كيف يصنع السوس

داخل محل صغير يجلس أبو كرم على كرسي قصير واضعا قطعة اسمنتيا مكعبة بين قدميه ويدق عليها اغصان السوس حتى تتهشم. يفرق اعوادها ثم يضعها بإناء كبير.

ينقعها بواسطة قطع ثلجية فيسكبها جميعا داخل وعاء متوسط الحجم مملوء بالماء ويضع مدقوق يشبه الطحين يترك لونا للشراب.. هذه العملية يشتغلها أبو كرم بمساعدة ابنه بعد انقضاء نهار العمل فيأتيان في اليوم الثاني يعبآن منقوع السوس بأكياس صغيرة ليتم بيع الكيس بسعر ألف دينار عراقي. ينتجان قرابة خمسين كيس يوميا توفر لهما هامش ربح يتقلب بين 20 الف الى 30 الف دينار.

وتحتفظ مناطق في نينوى في اقضيتها ونواحيها بنبتة السوس التي يستخرج من جذورها العرقسوس.

يعتبر السوس شراب أساسي في مائدة الإفطار في بيتي. أشعر خلال النهار براحة كبيرة عندما اشرب قدحين منه في السحور

وعن النبتة واشتهار نينوى بها عن بقية المحافظات يقول أبو كرم "كنا سابقا نذهب الى منطقة حمام العليل والسلامية ونستخرج العرقسوس بأيدينا.. النبتة في هاتين المنطقتين تتباين حلاوتها بحسب قرب النهر وعذوبة الماء".

وينقسم غصن السوس الى قسمين. ذكر وأنثى. ويكون لون الذكر بني عميق اكثر من الانثى لكن طعمه مرّ على خلاف انثى السوس لكنهما يوضعان في الماء مع بعض حتى يتوازن مذاق الشراب.

سيف الله علي احد زبائن أبو كرم من الذين أدمنوا على شراب السوس، يقول لـ كركوك ناو "هناك نكهة في السوس لا أجدها في العصائر الأخرى يضاف الى كون شراب السوس مفيد لجسم الانسان كما اخبرني والدي".

أما الحاج علي الذي لحق السواس أبو كرم من مكان الى آخر خلال تنقله بفترات عمله الطويلة، يقول، "يعتبر السوس شراب أساسي في مائدة الإفطار في بيتي. أشعر خلال النهار براحة كبيرة عندما اشرب قدحين منه في السحور".

وللسواس أبو كرم زبائن دائمون يشترون السوس من عنده لأنه ينتجها بأفضل طريقة فلا هي خفيفة ولا هي مركزة بحسب وصفهم.

نينوى/ الموصل/ نيسان 2022/ أبو أكرم السواس خلال بيعه اكياس السوس تصوير: مجيد العباجي

أما محمد نجل أبو كرم فيقف جانبا يناول والده أكياس السوس وبصوت منخفض يقول " يتفقد الناس وجود ابي قبل شرائهم السوس فهم يعرفونه.. أحيانا يغيب أبي بسبب وعكة صحية فلا ابيع الا عدد قليل جدا وأحيانا لا ابيع أصلا".

ويعيش محمد مع والده بدار مستأجر في قديمة الموصل يقول محمد بأنه سيترك هذه المهنة في حال وجد عمل آخر لكنّ فرص العمل في الموصل باتت قليلة جدا بعد الحرب كما يقول.

وتأثرت الموصل بالحرب الأخيرة على داعش بشكل كبير.. حيث رزحت فئات كثيرة تحت خط الفقر اذ تجاوزت نسبة الفقر في نينوى عتبة ال39  بالمئة بحسب الإحصاءات الرسمية.

ويصنف أبو كرم من الفئات الفقيرة في المدينة اذ يعبر عن حاله بقوله "حبي لهذه المهنة هو الشيء الوحيد الذي جعلني اتمسك بها واعلمها لولدي.. اليوم انا لا راتب لدي ولا بيت. اسكن في بيت مستأجر واستخدم محلأ سيأخذه صاحبه بعد فترة".

ويرى اكاديميون في جامعة الموصل ضرورة ان تولي الحكومة المحلية او المركزية اهتماما بشخصيات حافظت على مهن تقليدية تعبر عن هوية وثقافة مدنها. فالسواس أبو كرم قضى أكثر من 60 سنة في مهنة اشتهرت بها الموصل فصارت جزء من الثقافة الشعبية للمدينة.

يمسك أبو كرم جانبا من عربته الخشبية المكتوب عليها بخط عريض ( سوس أيام زمان) وبحس فكاهي يقول "قضيت خمسة وستين عام في بيع السوس أريد أن اقضي مثلها في هذا العمل لكن هذه (الشغلة ما بيدي)".

نينوى/ الموصل/ نيسان 2022/ أبو أكرم السواس وحيداً في عربته بالقرب من الجسر العتيق  تصوير: مجيد العباجي

 

  • FB
  • Instagram
  • Twitter
  • YT