في زقاق ضيق على الجانب الأيمن من مدينة الموصل، تقع عيناك على صليب خشبي شاخص على سطح أحد المنازل، وحين تقترب أكثر يتبين لك بأنها ليست كنيسة بل منزلاً قديماً تبدو عليه آثار الدمار.
تصميم باب المنزل مستوحى من التصاميم المعمارية القديمة، ما أن تفتح الباب حتى تدخل في ممر ضيق وقصير يؤدي الى حوش المنزل الذي تطل عليه عدة نوافذ وأبواب غرف، هناك يتجلى بشكل أوضح الطراز الشرقي المتبع في تشييد المنزل.
الجدران، النوافذ وغرف المنزل تحكي قصص الدمار الذي خلفته الحرب ولم تصل اليها بعد يد الاعمار.
الصليب تم نصبه في الجزء العلوي من الباب الرئيسي للمنزل، وهو مثبّت بإحكام على قطعة حديدية، ربما استخدمت سابقاً لنصب هوائي التلفزيون.
الصليب الموجود على هذا المنزل هو الوحيد الذي تراه في أزقة حي الساعة الضيقة، وسط أنقاض منطقة دمرتها الحرب.
يعيش في ذلك المنزل شخص واحد فقط، من مسيحيي الحي الأصلاء، بعد عودته من النزوح، قرر نصب الصليب على منزله ليقول من خلاله للعالم بأسره، "المسيحيون باقون في وطنهم ولن يتركوه وراءهم"، على حد قوله.
وقال مجدي حميد النقاش لـ(كركوك ناو) أنه حين عاد الى منزله المدمر في حي الساعة قرر نصب ذلك الصليب لكي يعرف الجميع أن مواطناً مسيحياً قد عاد ويعيش هناك.
اضطر مجدي النقاش للنزوح من الموصل عقب هجمات "تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام –داعش" واتجه الى مدينة أربيل وبالتحديد منطقة عينكاوة التي تقطنها غالبية مسيحية، وبعد سنوات من النزوح ومضي عام على استعادة الموصل عاد الى دياره في عام 2018.
عندما سيطر تنظيم داعش سيطرته على سنجار والمناطق الأخرى في نينوى عام 2014، وضع المسيحيين أمام ثلاثة خيارات: اعتناق الاسلام، دفع الجزية أو مغادرة مناطقهم دون أي أمتعة، لذا اختار معظمهم النزوح.
"المنزل الذي أعيش فيه ورثته عن آبائي وأجدادي، يعود تاريخ بناء هذا المنزل الى حوالي 150 سنة، المنزل يحتفظ بتصميمه القديم باستثناء عدة تغييرات قليلة، لكنه تعرض لدمار كبير بسبب الحرب"، يقول مجدي.
أعيد ترميم 15 بالمائة من المنزل بمساعدة منظمة دولية، حيث تم ترميم غرفة واحدة والحمام والتواليت، باقي الغرف لا تزال مدمرة.
"أعيش في هذا المنزل لوحدي منذ خمس سنوات، لم تبد أية جهة حكومية استعدادها لترميم منزلي".
والدا مجدي ذو الـ45 من العمر لا زالا على قيد الحياة، لديه شقيق و شقيقة أحدهما يقيم في استراليا والآخر في محافظة دهوك، وبقية أقاربه موزعون على بغداد ومحافظات العراق الأخرى، فيما هاجر قسم كبير منهم خارج البلاد.
حسب إحصائيات الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة اقليم كوردستان، عشرات الآلاف من العوائل المسيحية النازحة لم تعد حتى اليوم الى ديارها، الى جانب هجرة آلاف العوائل الأخرى - 24 ألف عائلة في نينوى فقط- الى خارج العراق.
"يخشى المسيحيون من أن يتعرضوا للقتل والنزوح مرة أخرى إذا عادوا الى ديارهم، فقدوا الثقة بالسلطات في المنطقة، لذا فضل معظمهم مغادرة البلاد".
جميع العوائل التي عادت الى حينا هم من المسلمين، كنا قبل مجيء داعش ولا زلنا نعيش كإخوة
ويقول مجدي النقاش بأنه المسيحي الوحيد الذي عاد الى حي الساعة وأن العدد الكلي للعوائل التي عادت الى الجانب الأيمن من المدينة لا يتعدى عدد اصابع اليدين، بعد أ كان عددهم في ذلك الجزء من المدينة كان يقدر بالآلاف وكانت عشرات العوائل المسيحية تعيش في حي الساعة.
"جميع العوائل التي عادت الى حينا هم من المسلمين، كنا قبل مجيء داعش ولا زلنا نعيش كإخوة".
الصليب الذي نصبه مجدي النقاش في حي الساعة سبق بدء مشروع ترميم كنيسة الساعة الذي لم يكتمل بعد.
أكثر من 80 كنيسة وموقع ديني مسيحي تم تفجيره من قبل مسلحي داعش لم يرمم منها إلا القليل.
يقيم مجدي النقاش طقوسه الدينية في كنيسة مار بولص في الجانب الأيسر من مدينة الموصل.
ويقضي مجدي جُلّ وقته في المنزل. في السابق كان يعمل في مجال نصب أرضيات المنازل (الكاشي)، لكنه لم يزاول المهنة منذ حرب داعش، يقول مجدي بأن فرص العمل معدومة ويعتمد في معيشته على المساعدات المالية التي توفرها بعض المنظمات بين فترة وأخرى، وفي بعض الأحيان تصله وجبات الطعام من بعض جيرانه المسلمين.
يرى مجدي أن "تردي الخدمات، من بينها الكهرباء والماء من العوامل الرئيسية التي تعيق عودة النازحين، "لا نعرف من نطالب بتوفير الخدمات وترميم منازلنا، لذا نوجه رجاءنا الى الرب".
يشكل المسيحيون نسبة 7 بالمائة من مجموع النازحين المقيمين في اقليم كوردستان، ويشكل سكان الموصل ومناطق نينوى الأخرى 40 بالمائة من مجموع النازحين.
مجدي لا يحب بطبيعته الظهور في وسائل الاعلام، لذا رفض أن يلتقط مراسل (كركوك ناو) صوراً له ولم يرغب في الخوض في تفاصيل حياته.
"هناك مثل يقول، الحجر في مكانه يعادل القنطار، علاوةً على ذلك حبي للموصل وحينا دفعني للعودة ومواصلة الحياة في الموصل"، يقول مجدي حميد النقاش.