في خطوة وصفت بـ"كارثة" تحل بالبيئة، فقدت الاهوار في جنوب العراق ما يقارب 90 بالمائة من مساحتها الكلية واثرت سلباً على السكان المحليين واقتصادهم المبني على ما توفره الاهوار من خيرات.
هذا العام شهدت الاهوار العراقية "اقسى موسم جفاف منذ إعادة اغمارها بالمياه من جديد بعد عام 2003" حسب قول الخبير البيئي جاسم الاسدي.
وأشار لـ(كركوك ناو) إلى ان السنوات السابقة مثل 2009 و2015 و2018 شهدت موجات جفاف لكن هذا العام "فاقها اثرا" وخصوصا في هور الحويزة بمحافظة ميسان واهور الحمار الغربي والاهوار الوسطى بمحافظة ذي قار.
"في الوقت الحاضر نسبة الاغمار الاهوار بالمياه حاليا مساحة تقدر بـ 550 كيلو متر من اصل 5560 هي هدف الذي أعده مركز إعادة الاهوار في وزارة الموارد المائية بعام 2005"، حسب قول الاسدي الذي يشغل حاليا مدير مكتب احدى المنظمات المحلية في قضاء الجبايش (شرق محافظة ذي قار).
في حين يشير الباحث البيئي ليث العبيدي لـ(كركوك ناو) إلى نسبة ما تبقى من الاهوار المغمورة بالمياه لا يتجاوز نسبتها 10 بالمائة عما كانت مساحتها عام 2019.
وقام النظام الحاكم في عهد الرئيس الأسبق للعراق صدام حسين بعملية تجفيف منظمة للاهوار، بحجة تواجد عناصر مناهضة لحكمه فيها، واعتبر اجزاء واسعة منها مناطق عسكرية يمنع السكن فيها، وهذا تسبب بهجرة سكانها إلى مناطق اخرى.
لكن بعد انهيار ذلك النظام عام 2003 تم المباشرة بضخ المياه من جديد إلى الاهوار.
انهيار "اقتصاديات المياه"
انخفاض مناسيب المياه اثر على الاقتصاد السكان المحليين، فبعضهم يعتاش على قطع سيقان القصب وبيعه او صناعة منه بعض المستلزمات التقليدية، واثر الجفاف على المراعي الخضراء لمربي حيوان الجاموس الذي يشتهر به الاهوار، كما فقدت الاهوار اغلب ثروتها السمكية.
بملابسها التقليدية السوداء تعلوها غطاء اخضر للرأس، تعرض الحاجة صبرية ام جواد في العقد السادس من العمر منتوجها من القيمر المصنوع من حليب الجاموس في احدى ساحات العاصمة بغداد.
ام جواد توكد لـ(كركوك ناو) ان الجفاف دفعها لنقل سكنها وحيواناتها من الجاموس من الاهوار الجنوبية وتسكن احدى العشوائيات في منطقة النهروان احدى الضواحي الجنوبية لمدينة بغداد من اجل ضمان توفر المياه والبيئة المناسبة لتربية الجاموس.
ليث العبيدي يوكد ان السكان المحليين في الاهوار تضرروا بصورة "كبيرة" وبعضهم هاجروا إلى مناطق أخرى بحثا عن المياه بعد فقدان مصادر عيشهم.
تربية الجاموس لم تعد مجزية
اصبح تربية الجاموس "عبّ" على عاتق المربين فغياب المراعي الخضراء أدى إلى ارتفاع "العلف النباتي" من 300 الف دينار للطن الواحد إلى 800 الف حسب قول جاسم الاسدي.
وأضاف ان بعض المربيين اضطر إلى شراء الماء الصالح للشرب وتقديمه لحيواناتهم نتيجة انخفاض مناسيب المياه وهذا ادى إلى زيادة تركيز نسبة "الملوحة والتلوث" بمياه الاهوار التي فاقت نسبتها "ستة الاف جزء بالمليون"، وهذه النسبة تسبب "المرض" للجاموس.
ونتيجة لذلك انخفض أيضا مقدار انتاج الحليب من الجاموس بحيث كان سابقا يحلب من الحيوان الواحد ما يقارب ستة لترات في حين يحلب الان اقل من ثلاثة لترات فقط.
"كل هذه أدى إلى انخفاض أسعار حيوان الجاموس من ثلاثة مليون و500 الف دينار إلى اقل من مليونين دينار نتيجة عدم قدرة السكان المحليين على تربيته"، حسب الاسدي.
حيث تشير إحصائية منظمة طبيعة العراق إلى وجود ما يقارب 27 الف راس للجاموس في الاهوار الوسطى قرب قضاء الجبايش.
"الجفاف الذي ضرب الاهوار في محافظة ذي قار تسبب بنفوق أكثر من 700 حيوان جاموس إلى الآن" حسب قول مدير عام الثروة الحيوانية عباس سالم حسين، في تصريحات لوكالة الأنباء الرسمية.
واكد الباحث ليث العبيدي هذه الإحصائية، ورجح إلى إمكانية ان تكون الارقام الحقيقية اكبر من هذه الإحصائية. وأشار إلى غياب إحصائية حول الحيوانات التي تعرضت للمرض نتيجة الجفاف وزيادة الملوحة والتلوث.
فقدان 95 بالمائة من الثورة السمكية
"صيادو الأسماك لم يجدوا ما يصيدوه، فقد خسر 95 بالمائة من الخزين السمكي في الاهوار العراقية عما كان عليه في 2019، ولم يبقى سوى اسماك صغيرة تستطيع مقاومة الاملاح لكن أسعارها ليست عالية ولا يجني الصياد منها مبالغ جيدة" يقول الاسدي.
ولفت إلى ان التنوع الاحيائي بالاهوار في "خطر شديد" كما هو حال حيوان "كلب الماء ذو الفراء الناعم" او ما يسمى محليا بـ"جليب المي" فيعاني من عدم وجود بيئة امنة له بسبب تقلص المساحات المائية، وكذلك الحال بالنسبة لبعض الطيور المهاجرة.
احتمالية الخروج من قائمة التراث العالمي
دخلت الاهوار قائمة التراث العالمي بناء على تنوعها الاحيائي ووجود حيوانات مختلفة موجودة على القائمة "الحمراء" او "الحيوانات المهددة بالانقراض".
في 17 يوليو/تموز عام 2016 وافقت لجنة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بالاجماع، على وضع الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي كمحمية طبيعية دولية.
وحسب الاسدي ان الاهوار نتيجة الجفاف مهددة بالخروج من قائمة التراث العالمي، لكنه اعتبر ذلك "ليس مهم"، الأهم برأي الاسدي هو خسارة الاهوار وتدمير بيئتها الطبيعية وهجرة سكانها واضمحلال الاقتصاد المبني على خيرات التي توفرها الاهوار.
"دخول الاهوار او خروجها من قائمة التراث العالمي ليس نقطة مهمة لدى السكان المحليين، الذين يصارعون من اجل الحفاظ على حياتهم ومصادر دخلهم وحياة حيواناتهم"، يشير الاسدي.
ولفت إلى ان الاهوار اذا ما فقدت تنوعها الاحيائي فانها ستخرج من قائمة التراث العالمي، كما حدث خلال السنوات السابقة خروج عدد من المواقع في عدة دول من هذه القائمة.
ثلاثة أسباب لحدوث "الكارثة"
وعن أسباب الجفاف وانخفاض مناسيب المياه، يعزو الاسدي إلى سياسة دول الجوار وبالأخص تركيا وإيران اللتان تقيمان السدود على نهري دجلة والفرات، وفشل الحكومة العراقية بالضغط عليها لزيادة حصص العراق المائية.
وأضاف ان ظاهرة التغير المناخي تأثر بها الكثير من الدول في العالم، وكان ذلك جليا في العراق حيث تذبذب او قلت مستويات الامطار بالمقابل شهد زيادة في درجات الحرارة.
وانتقد سوء إدارة الموارد المائية في جنوب العراق، حيث بدات بوادر الجفاف منذ الصيف عام 2021 الماضي، لكن الجهات المسؤولة عن الاهوار "وضعت راسها كنعامة في التراب" في إشارة إلى تجاهل ملف الاهوار.
وزير الموارد المائية مهدي رشيد الحمداني ذكر في بيان صدر اليوم بأن العراق يعد المتضرر الأكبر من تبعات التغيرات المناخية وتناقص الواردات المائية نتيجة لعدم وجود اتفاقيات ملزمة بينه وبين دول المنبع لأدارة المياه العابرة للحدود.
وعن جهود وزارته اكد سعيها للتكيف مع التغير المناخي وتحديث الدراسة الاستراتيجية للمياه والأراضي في العراق لتستجيب للمتطلبات الجديدة، مع استمرار الطلب من دول اعالي حوضي دجلة والفرات بضرورة تقاسم المنافع في حالة وجود الوفرة المائية والضرر في حالات الشحة والندرة.
جاسم الاسدي وصف ما يحل بالاهوار بـ"الكارثة الحقيقية"، في حين يوكد ليث العبيدي إصابة الاهوار بـ "الكارثة البيئية" تمر بصمت بدون ان يكترث أحدا بها، ولم يبذل جهد للتخفيف من تبعاتها.
